كتاب عربي 21

عن هيبة الكتابة والغابة تمشي

1300x600
للكتابة هيبة. أي والله لها هيبة. أن يسجل ما تقول، فيذكر لاحقاً، أو ينساه الناس وتذكره أنت. الكتابة كالتصوير، حين يفاجئك أحد المحبين الكرام وأنت تأكل في مطعم أو تفرك عينيك، ويطلب أن يصورك أو أن يصور نفسه معك. أنت تشعر بالعرفان والامتنان والخجل، وتريد أن تشكر ذلك المحب بكيانك كله، ولكنك لا تريد تثبيت صورتك في تلك اللحظة، لا تريد أن تَرَى، في غَدٍ، نفسك اليوم. لا تريد أن ترى، ولا أن يرى الناس، اكتئابك ولا ترهل روحك ولا هروبك من الحزن بالتعلق بقشة الدنيا.

للكتابة هيبة، هيبة البقاء في عالم عابر. هيبة تثبيت اللحظة وتحريكها في آن معاً. كالنحات يصنع تمثال حصان يقفز، هو تثبيت الحركة وتحريك الثبات. وتقول لنفسك، ما لك مغروراً، ليس مهماً بتاتاً إن كتبت جيداً أو رديئاً، ليس مهما إن كنت نحاتاً رديئاً أو حصاناً بعضه متداخل في بعضه كحافلة ركاب اصطدمت بحائط، ليس مهماً بتاتاً إذا ظهر اكتئابك في الصورة أم لم يظهر. أنت كلك لست مهماً إلا لأهلك ومن يتكرمون عليك بالحب بلا سبب واضح تستحق به حبهم.

ثم للكتابة هيبة، لأن ما تكتب عنه جلل. هذا الذي نراه اليوم، لم نره من قبل، أو على الأقل، لم نره بهذا الحجم. أربعة ملايين لاجئ وثمانية ملايين نازح في سوريا، الأنباء تقول إن تعداد سوريا قبل الحرب كان يقارب اثنين وعشرين مليونا من البشر، هم الآن ستة عشر مليوناً، ولكن الحساب لا يستقيم، فاللاجئون أربعة ملايين والباقون ستة عشر، هناك مليونان لا نعلم أين هم. لا أظن أن هذه الأمة عاشت لحظة في تاريخها من قبل ضيعت فيه مليونين من الناس لا يُدرى أين هم أو ماذا حل بهم.

وفلسطين متروكة كالعادة، يتركونها ويمنون عليها بسالف الأيام التي سعوا فيها لتحريرها وفشلوا، والمرء لا يسمع أن فاشلاً يمن على الناس بفشله إلا حين يمن العرب على فلسطين بحروبهم التي خاضوها من قبل. 

والعراق كما ترى، ومصر كما ترى، ونحن جميعاً محكومون بقبيلة من الأشباح والغيلان والكوميديا السوداء وما فوق البنفسجية !

بغض النظر على الخلافات العقدية والسياسية، الروس يقصفون عرباً، والأمريكيون يقصفون عرباً، والعرب يقصفون عرباً، وكل من لا يجد شيئاً يفعله في انتظار الغداء أو قبل أن يشرب قهوة الصباح، يقصف عرباً. استباحتنا كاملة، وحكامنا لا يروننا، ولا نحن نرى أنفسنا، فكيف يرانا الآخرون.

أحاول أن لا أكتب تحليلاً سياسياً، هذا ما أفعله في عملي الرسمي على أي حال، وهو ما يفعله أكثر الكتاب، ولكن كيف أهرب من التحليل السياسي والعالم حولي كسلم طويل صعد عليه شعب كامل، ثم ركله مستبد واحد في أعلى السور، فصارت الأمة كلها كلاعب السيرك تحاول أن تبقي السلم واقفاً رأسيا في الهواء لكي لا يسقط العالقون في أعلاه على من هم في أدناه ويموت الجميع.

أيها القارئ الكريم، إن أخاك كاتب هذه السطور، يرى من مكانه مصيراً رواندياً في سوريا، وربما في جِوارَيها العراقي واللبناني أيضاً، ويرى انعكاس ذلك على مصر، كما ينعكس الضوء على المرآة وحرارة النار على وجه المصطلي، يرى ويصيح ولا يسمعه أحد.

في الأساطير الإغريقية فإن كساندرا ابنة بريام ملك طروادة حباها أبولو بالقدرة على التنبؤ، وعاقبها بأن قدر أن لا يصدقها الناس مهما قالت. وفي الأساطير العربية، تحذر زرقاء اليمامة أهلها من غابة تمشي في الصحراء فيكذبونها حتى يلقوا مصيرهم. وفي مسرحية ماكبث تأتي غابة برنام إلى قلعة دَنْسِنَيْن ويتفاجاً الملك المغتصب رغم تحذير الساحرات له من ذلك. أقول هو الهلاك القادم، ثم أسخر من نفسي، وأنا أراني كالدراويش الذين كانوا يجوبون أوروبا بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر يحذرون الناس من يوم القيامة الوشيك، ويجلدون أنفسهم، فيسخر منهم الناس. وليست صدفة أن جالدي أنفسهم هؤلاء ملؤا شوارع أوروبا الترابية في وقت الموت الأسود والطواعين التي قضت على ثلث سكان القارة إلى نصفهم في سنين قليلة.

في الانجليزية يدعى يوم القيامة يوم الهلاك. ويوم القيامة لم يأت بعد، ولكن أيام هلاك كثيرة مرت على البشرية، وربما يكون أحدها في انتظارنا. 

أيها الناس، إن إصرار المستبد على استبداده، سيقضي عليه وعلى حليفه وخصمه معاً، واستمرار الأمة فيما هي فيه من انقسام وانحراف على عدوها المشترك، سيعرضها لهزيمة لم تعرف مثلها في تاريخ هزائمها الطويل.

ها أنا حاولت الكتابة فخرجت اعتذاراً مفككاً وقلقاً مقيداً لليد واللسان، ولكن الهاربين من الحصار لا يلتفتون لهندامهم. هذه الكلمات محاولة مني للخروج من حصاري، وما أخرجني منه إلا ذلك الشيخ المسن الذي وقف للجنود الإسرائيليين يوبخهم ويمنعهم من إطلاق النار على الشباب خلفه حتى وقع. إن كان هذا من أهلي، فلا بد أن لهذا الحزن مخرجاً، ولا بد أن نجده.

باختصار، بدأت هذا المقال بالهيبة من الكتابة، وتوسطته بسبب هذه الهيبة وسببها ما نراه من حالنا ومصيبتها الجماعية، ولكن أختمه بأمل، كالعادة يأتي من فلسطين، الحجر الذي أهمله البناؤون فصار حجر الزاوية. هي فلسطين تفعلها مرة أخرى. في أقل الأوقات احتمالاً، والأمة كلها مصابة مجرحة، والفلسطينيون أكثرها يأساً من أن ينصلح حالها ومن ثم حالهم، يقومون بأنفسهم ويحرجون الآخرين جميعاً. الدول الكبرى: العراق، سوريا، مصر، ابتلي كل منها بحاكم خربها، ثم لام معارضيه، وبعضهم لام الكون كله على خرابها. وهذه الثلاث ابتليت أيضاً بمعارضاتها، فلم يكن أي منها أفضل كثيرا من حكامها. وإن يئس الناس من الحاكم فهو خير، لأنهم يثورون ضده، أما إن يئسوا من المحكوم، فهو الرضا بأي قليل يتيحه لهم الزمن الشيء. 

وفي ظل هذا، يخرج الفلسطينيون. ويصنعون ما ترون.

ما زال لدى فلسطين الكثير تعطيه لهذه الأمة...