كتاب عربي 21

فكرك بنعمل إشي صح؟.. عن الانتفاضة الفلسطينية المستمرة

1300x600
زعيم التنظيم الجهادي: نجاح هذه العملية جعل منك شهيدا كبيرا.

جعفر: شكرا.

زعيم التنظيم الجهادي: من الرائع مشاهدة شهيد يأكل بهذا النهم. ليس أمرا معتادا.

جعفر: شكرا.

زعيم التنظيم الجهادي: لكن هناك تفصيل بسيط محرج..

جعفر: ما هو؟

زعيم التنظيم الجهادي: فكر قليلا. ألا تجد في كلامي شيئا صادما؟

جعفر: لا، لا شيء.

زعيم التنظيم الجهادي: كيف يكون الشهيد في العادة؟

جعفر: ملتحي؟

زعيم التنظيم الجهادي: نعم، في الغالب. غير ذلك؟

جعفر: يجب أن أرخي لحيتي. هذا ما تقصده؟

زعيم التنظيم الجهادي: (ضاحكا وهو ينظر إلى صور الشهداء على حائط صالون بيته الفاخر): إنك مثلهم. أليس كذلك؟

جعفر: نعم أنا مثلهم.

زعيم التنظيم الجهادي: ليس هناك من اختلاف؟

جعفر: الخنزير؟

زعيم التنظيم الجهادي: (يقف غاضبا) لابد أن تكون رمزا للناس يثير حماستهم. منذ مدة وأنا أنظر إليك وأنت تأكل ولا أحس بأي حماس. لكن عندما يكون لدينا إيمان يمكننا حل الإشكال. (وهو يأخذ بيده بندقية كلاشينكوف) لابد أن تكون في مستوى شهداء القضية وألا تتسبب في أزمة هوية ورمزية لدى الشباب. أنا متأكد أنك تود إصلاح غلطتك (وهو يمد إليه البندقية ويشرح له كيفية الانتحار).

يستمر الحوار السوريالي بين الرجلين قبل أن يفر جعفر هاربا يجري في شوارع غزة تحت تصفيقات وتحايا المواطنين المتهافتين عليه لتوقيع .... أتوغرافات.

هكذا يراد للمقاومة أن تقدم، وهكذا قُدمت في فيلم (خنزير غزة) ، وهو إنتاج فرنسي بلجيكي ألماني مشترك للمخرج سيلفان أستيبال في العام 2011. لكن عُمَر، وهو بطل فيلم حمل اسمه عنوانا وأنتج سنة 2013 لمخرجه هاني أبو أسعد، قلب المعادلة وهو يطلق النار على ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي جنده للعمل مخبرا للاحتلال في حركة غير متوقعة كما كانت بالضبط عملية القدس التي نفذها شاب من نفس عمره بالقدس في الثالث من أكتوبر الجاري مطلقا شرارة "ثورة" فلسطينية لم يكن أحد ينتظرها. كان ذاك ابن البيرة الذي هُجرت عائلته من يافا: مهند حلبي.

عمر: (موجها كلامه لرجل المخابرات الاسرائيلي الذي كان يدربه على استعمال السلاح) : رامي، تعرف كيف تتصيد القرود في افريقيا؟

رامي: إحك...

وكان الحركة غير المتوقعة التي ستكون أنهت حياة رامي وأعفت كثيرا من شباب فلسطين من السقوط في براثن العمالة وخيانة الوطن.

في الوقت الذي ظن فيه الكثيرون من أصحاب القضية قبل أعدائها، أن أكثر من عشرين سنة من مفاوضات التسويف التي انتهت إلى تثبيت وضع قائم على القبول بالعيش مقابل استمرار مسلسل الإذلال، قضت على جذوة الثورة لدى الشباب الفلسطيني قبل الكهول والشيوخ، خرج جيل أوسلو وما بعده للتوقيع على شهادة حياة مجتمع فلسطيني لا يكف عن ابتداع الوسائل لمقاومة جنود ومستوطني الاحتلال ولو استدعى الأمر سل السكاكين من مطابخها وتحويلها لسلاح فتاك يعيد للقضية وهجها ويعيد لها المكانة في الضمير الجمعي الإنساني قبل عناوين قاعات التحرير والأخبار. والكلمة السر : المفاجأة.

كانت الانتفاضة الأولى مفاجئة، وكذلك كانت الانتفاضة الثانية وهكذا ستبقى التواريخ المفصلية في الكفاح الفلسطيني مستمرة في مفاجأة العالم ودحض الخرافة الأمنية الإسرائيلية. فبعد أن فشل الجدار العنصري من تحييد القدس وباقي المدن "الاسرائيلية" من أن تكون مسرحا لهجمات لم يجد العقل الأمني الصهيوني غير الإعدامات الميدانية لشباب وشابات فلسطين وبناء جدران عازلة إضافية
لمحاصرة ما يسميه بالأحياء العربية المقدسية سبيلا لإثبات الذات.

سهى: هيك بتعطي الاسرائيليين عذر أنهم يقتلوا فينا؟

خالد: والله العظيم انت على نياتك. ما فيش حرية من غير كفاح. طول ما فيه ظلم واحتلال فيه تضحية.

سهى: هادي مش تضحية، هذا انتقام. هيك بتقبل تصير زيهم ويبطل فيه فرق بين الضحية والقاتل.

خالد: الفرق أنه بطل عندنا خيارات ثانية كيف نناضل... لو كان عندنا خيارات ما كان عندنا استشهاديين.

سهى: الفرق الوحيد أن اسرائيل أقوى بكثير عسكريا وانت مش قوي قدهم.

خالد: كده خليننا نكونوا متساوين في الموت. رايح تكون لينا الجنة ان شاء الله.

سهى: مفيش جنة.. الجنة فكرة فراسك. ليه ما ننجح نحول المعركة إلى معركة أخلاقية.

خالد: كيف بدك تحولي المعركة لمعركة أخلاقية واسرائيل مفيش عندا أخلاق؟

كان ذاك مشهدا من فيلم (الجنة الآن) المنتج سنة 2005 لمخرجه هاني أبو أسعد. كان حوارا عاصفا بين الشخصيتين على متن سيارة مسرعة قبل أن يعيدهما الحاجز الإسرائيلي إلى أرض الواقع ومنه إلى سعيد، المكلف بتنفيذ عملية استشهادية رفقة خالد. كان سعيد مستلقيا على قبر والده، الذي تمت تصفيته ذات زمان بتهمة العمالة، والحزام الناسف يلف جسده في انتظار لحظة غسل العار الذي لحق العائلة جراء ذلك. وفي مشهد طويل من الفيلم قدم سعيد رؤيته لدوافع إقدامه على الفعل الاستشهادي بأنها رسالة للمحتل الذي يستغل ظروف الفلسطينيين ويضغط عليهم باتجاه الاشتغال لصالحه دون "أخلاق". سعيد كانت لديه أخلاق الفرسان وهو يرفض ركوب حافلة اسرائيلية وتفجيرها لمجرد وجود نساء وأطفال واختار حافلة ملئى بالعساكر والجنود المحتلين.

سهى ابنة ابو عزام، وهو مناضل رمز كانت هي تفضل أن يبقى حيا على أن يصير شهيدا تفتخر به كما صرحت لسعيد. وخطابها ليس غريبا بل له مؤيدون كثر أغتنوا من القضية أكثر مما أغنوها. أليس محمود عباس هو من خرج للعالم أياما بعد انطلاق "ثورة السكاكين" ليبرئ نفسه متخفيا وراء مقولة "مقاومتنا سلمية". مهند حلبي سبق الأحداث وأجابه في رسالة موجهة إليه ثلاثة أيام قبل استشهاده قائلا:" عذرا يا رئيس، فما يحدث لنساء الأقصى والأقصى لن توقفه الطرق السلمية. فما تربينا على الذل، والدفاع عن حرمة الأقصى ونسائه هو شرفنا وعرضنا، والدفاع عنه بأي شكل أو وسيلة يعد قانونيا".

طارق: خذ نفس، حدد الهدف تاعك، طخ...

أمجد: تقدر تسويها عني؟

طارق: حكينا ألف مرة. عمر سرق السيارة، أنا خططت للعملية، انت بتنفذ.

عمر: أنا بقدر أعملها.

طارق: ميتفعش. هاي مش لعبة.أمجد لازم يشارك. مينفعش يكون مقاوم بالفرجة...

طخ... ويقع أحد الجنود الاسرائيليين صريعا.

كان الثلاثة على ربوة مطلة على معسكر للجيش. انتهى المطاف بعمر معتقلا يكيله المحققون كل أصناف التعذيب التي تفقد المرء إحساسه بالكرامة الآدمية. خارج السجن ليس حظ الشباب الفلسطيني بأفضل، فهو معرض كل يوم وكل لحظة للتعرض لجندي يعيده إلى واقع الاحتلال المر ويذيقه من المهانة أصنافا في الحواجز وعلى الطرقات.

عمر يمشي على جانب طريق. يتوقف جيب عسكري اسرائيلي بعيدا عنه، ومن خلال مكبر الصوت نسمع صوت الجندي.

الجندي: وقف عندك، حط يدك على راسك وما تتحرك.

يمتثل عمر للأمر. تفتح أبواب الجيب العسكري وينزل منها جنود مدججون بالسلاح.

الجندي: ارفع البلوزة ولف شوية شوية.

يمتثل عمر.

الجندي: يديك على راسك وتعال هون.

يمشي عمر في اتجاههم وأسلحتهم موجهة إليه. ويستمر الحوار للتأكد من الهوية ومن المكان الذي أتى منه ووجهته....

الجندي: شايف الحجر ايلي هونيك؟ روح وقف عليه.

يمتثل عمر ويحاول جاهدا الحفاظ على توازنه فوق حجر بجانب الطريق في وقت يستمتع فيه الجنود بالموسيقى الصادرة من السيارة العسكرية ويثرثرون.

عمر: لسه ما خلص الفيلم؟ (ينزل عن الحجر ويتوجه إليهم غاضبا) إذا كنتم زلمة بجد زيحوا أسلحتكم عن جنب وقتلوني..

(يباغته الجندي بضربة على الرأس بمؤخرة سلاحه لتسيل الدماء من أنفه)..

الجندي: (بهدوء) شايف الحجرة ايلي هونيك؟ بتروح بتوقف عليها بس المرة هاي على رجل واحدة.

هو مجرد نموذج للانتهاكات الإسرائيلية المتكررة وللإذلال المتعمد الذي يعانيه نساء وشباب وشيوخ فلسطين. لكن الواضح أن الآلة العسكرية الصهيونية، وبسبب هول الصدمة التي تعيشها في الأسابيع الأخيرة ولا تزال، لم تعد تكتفي بالإذلال بل صارت تطلق النار على الفلسطينيين لمجرد الاشتباه في إطار إعدامات ميدانية تروي تعطشهم لإهراق الدم الفلسطيني. والاعتقاد السائد عندهم ولدى قادتهم أنه السبيل لردع هؤلاء عن المضي قدما في ثورتهم وهم لا يعلمون أن "ايلي بيخاف من الموت بيعيش ميت. وايلي ما بيخاف من الموت بيجيه فجأة ومرة واحدة ومبيحسش فيه" كما جاء على لسان أبو جمال، أحد شخصيات فيلم (عمر). والشهادة أقصى ما يتمناه المقاومون في سبيل تحقيق النصر، لكن قصور فهم العدو ومن والاه حولها لمجال للتندر والسخرية والكاريكاتورية.

في فيلم (عمر) يودع زعيم التنظيم خالد وسعيد المكلفين بعملية داخل الكيان الصهيوني.

الزعيم: إن شاء الله بعد ما توصلوا الجنة احنا راح نتكفل بكل التدابير. راح نحيي ذكراكم زي الأبطال. بتوصوا على أي شيء؟

خالد: أنا كنت بدي حياة عائلتي تكون أحسن إذا أصابنا أذى. وبدي كمان صورتي وصورة سعيد تتعلق بالبلد.

الزعيم: تاج راسنا خالد. أهلكم أهلنا بعيوننا بنحطهم.

وفي فيلم (خنزير غزة) يودع أحد الشباب جعفر المقبل على تنفيذ عملية بمستوطنة صهيونية.

الشاب: أنت محظوظ. بمجرد ارتقائك إلى أعلى ستجد كثيرا النساء في انتظارك.

جعفر: كم؟ 35؟

الشاب: لا، أكثر.

جعفر: 40؟

الشاب: أكثر..

جعفر: 50؟

الشاب: أكثر.        

في الثامن والعشرين من شهر أكتوبر من العام 2014، أقدم الشاب المقدسي معتز حجازي على محاولة قتل الحاخام يهودا غاليك، الرأس المدبر لاقتحامات المستوطنين للأقصى، وهو ما أحيا معادلة كون الاعتداء على المسجد الأقصى له ثمن. بعده بسنة تقريبا، وفي الثالث من أكتوبر 2015، عاد زميله مهند حلبي للتأكيد على الأمر وتبعه شباب في مختلف المدن الفلسطينية المحتلة. قد لا تكون "ثورة السكاكين" وما تلاها من أشكال نضالية أخرى كالدهس نهاية للاحتلال الإسرائيلي. لكنها أظهرت لمن كان لديه ذرة شك أن المقاومة مستمرة جيلا بعد جيل. وقد يأتينا يوم نسمع فيه أن الأخ الأصغر لمهند، الذي أصر على النوم بجانبه ليلة العملية قبل أن يهديه مجسما صغيرا لخارطة فلسطين، يذكر العالم مرة أخرى أن هناك شبابا فلسطينيا مؤمنا بقضيته العادلة ولا يطرح السؤال: "فكرك بنعمل إشي صح؟" كما فعل سعيد وهو يخاطب خالدا في السينما...