كتاب عربي 21

جوليو ريجيني

1300x600
طالب إيطالي، يأتي إلى مصر، لأن الحشود التي رآها قبل خمس سنوات تغلب الرصاص والغاز أثارت فيه أملاً وفضولا ومحبة. طالب أراد أن يدرس الطبقة العاملة المصرية والنقابات، ويقارن بين الثورات الموصوفة في الكتب، وتلك التي يراها في الشوارع. طالب عُذِّبَ وقُتل وألقي في الصحراء. طالب يرمز لكثيرين.

يراقبه ضابط. فعند الضباط يكون وجود أوروبيين بين الثوار المصريين مشكلة. الأوربيون بلدانهم ديمقراطية، وللرأي العام عندهم أثر، فإن تواصل الناس هنا مع الناس هناك، فإن قتل الذين هنا يصبح أصعب.

تستطيع الحكومة المصرية التعامل مع الحكومة الإيطالية لو لم تكن تحت ضغط شعبي لإبراز الحقيقة، ولكنها لا تستطيع التعامل معها إذا كانت تحت هذا الضغط، فالشعب الإيطالي حر من هراوات الحكومة المصرية، وهذا يشعرها بالقلق الشديد، فكل ما لا تطاله الهراوة خطر عليها.

ثم إن الحكومة المصرية، كالكثير من حكومات بلادنا، ترث كل العقد النفسية التي تعاني منها الحكومات التي نشأت لتحافظ على مصالح الاستعمار الخارجي بأيد محلية. ومنذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وكل الحكومات المصرية المتعاقبة تتعامل مع الشعب المصري وكأنها قوة احتلال. وليس صدفة أن إسرائيل تسمي المقاومين الفلسطينيين إرهابيين، كما تسمي الحكومة المصرية معارضيها إرهابيين. وليس صدفة أن التقارب مع إسرائيل والتماهي معها متناسب طرديا مع تناقص شرعية الحكم المصري منذ عام 1977. وترى الحكومة منذ ذلك الحين نفسها جزءا من تحالف غربي بقيادة الولايات المتحدة.

وتتوقع الحكومات المحلية التي تخدم الاستعمار عادة، أن تتفهم الحكومات الأجنبية قمعها للشعب المستعمَر، فما دامت تحالف إسرائيل وتبيع النفط وتفتح قناة السويس، فإنها تتوقع أن ترضى عنها الحكومات الأمريكية والأوروبية مهما فعلت. وتشعر بالغدر إذا وجدت أن بعض تلك الحكومات الأجنبية، خاصة تلك التي ليس لها ومصالح استعمارية مباشرة، تهتم بحقوق الإنسان (لأنها ديمقراطية وخاضعة لضغط الرأي العام عندها). فإذا وقع حادث أثار الرأي العام في بلاد الأجانب، فلم تستطع الحكومات الأجنبية السكوت على مظالم الحكومات المحلية الخادمة للاستعمار، ترتبك هذه الأخيرة ارتباكا عظيما، وتراوح ما بين التذلل المطلق، أو التشدد المضحك، إذ تستل من جعبتها لغة "الاستقلال" و"الوطنية" وهي لا تمت لا للاستقلال ولا للوطنية بشيء.

الضابط يراقب الشاب، الحكومة خائفة من تغيير سياسي عنيف تعززه مظاهرات في ذكرى 25 يناير. أعصابها مشدودة، يتطوع بعض المحسوبين ظلماً على معسكر الثورة بطمأنتها، ويقسمون أغلظ الأيمان أنهم لن يتظاهروا. ينزل الشاب الإيطالي للشوارع، لعله يرى الثورة التي أتى يدرسها، أو لعله نزل ليقينه أنه لن تكون هناك مظاهرات مصدقا تلك الأيمان الغليظة للكروش المدعية للثورية. المهم أنه ينزل بينما الحكومة مصابة بالفزع.

يلقى عليه القبض. لقد أصبح منا، لقد أصبح مصريا منذ اللحظة الأولى، اعتقلوه، وقتلوه، كما يعتقلون إخوتنا وأصدقاءنا، ولم نستطع حمايته، كما لم نستطع حمايتهم. جوليو ريجيني شهيد ثورتنا، ثورة خذلها الكثيرون من أهلها.

خذلها من القوى المدنية أولئك الذين دعوا الناس ألا ينزلوا يومها، يوم 25 يناير من هذا العام، بينما كانوا يدعونهم أن ينزلوا يوم الثلاثين من يونيو عام 2013 عالمين عارفين ان هذا سيؤدي إلى حكم عسكري، ولكنهم كان يفضلون العسكر على الإخوان وإن استحوا من أن يعلنوا ذلك.

وخذلها من الإسلاميين من أوصلنا إلى ما نحن فيه، فرئيس الجمهورية الحالي عينه رئيسهم، حين كان متحالفا مع العسكر.

وخذلها من القوميين كل الذين يعتبرون حقوق الإنسان الفرد رفاهة، ويرون في الرئيس الحالي صورة لجمال عبد الناصر. ولا والله لا أدري كيف يرون ذلك، وهذا يحالف إسرائيل بينما كان عبد الناصر يحاربها، وهذا يحالف السعودية وكان عبد الناصر خصما لها. ولكن كراهيتهم للإسلاميين يبدو أنها أحلت لهؤلاء حتى ابتلاع التعاون الأمني مع إسرائيل.

وخذلناه نحن، الشباب، حين لم نجد لأنفسنا قيادة، كبرت نفس كل واحد منا وكبر خجله فلا هو تصدى للقيادة ولا قبل أن يتصدى لها غيره.

خذلناه كلنا، والآن هو خالد سعيد آخر.

ولكن هذه أمة منذ المسيح والحسين تخذل الشهداء ثم لا تتعب من المطالبة بثأرهم، وحين تنال انتقامها فإنها تناله كاملا.