كتاب عربي 21

الانتفاضة الفلسطينية وسلطة أوسلو

1300x600
لا جدال بأن اتفاقيات أوسلو جاءت عقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهي فعل نضالي ابتكاري يتوافر على كثافة مصطلحية دلالية فريدة ويتضمن ممارسات وفعاليات حدثية جليلة، فهي تخلق معجما نضاليا ولغة مقاومة تؤسس لفلسفة ثورية وممارسة جهادية، ولذلك فقد عمد دهاقنة أوسلو إلى إنتاج بناء لغوي خطابي يقوّض مفهوم الانتفاضة الذي يستند إلى مجال تداولي فلسطيني عربي إسلامي ويقوم على حقل دلالي تاريخي نضالي جهادي، فلا عجب أن ولد من رحم الانتفاضة الأولى التي اندلعت في 8 كانون أول/ ديسمبر 1987، حركات نضالية وجهادية وفي مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ولا غرابة أن ولد من رحم الانتفاضة الثانية التي اندلعت في 28 أيلول/ سبتمبر 2000، مجاميع وكتائب وفصائل مسلحة وفي مقدمتها كتائب "شهداء الأقصى". 

لقد استهدفت أوسلو خلق انزياح في المعجم النضالي الفلسطيني العربي الإسلامي الذي يختزن طاقة متجددة من الحرية والتحرر والتحرير، وهو معجم منفتح على استعمالات تاريخية مخصوصة واستدخالات كونية عمومية، كالجهاد والمقاومة والنضال، والتحرير وتصفية الاستعمار ومناهضة العنصريّة، والتصدي للعنف الإرهابي الإسرائيليّ، وفضح ومواجهة سرقة الأراضي، ومطالب الاستقلال، وحقّ العودة، ومبادئ الحق والعدالة والقانون الدوليّ، والتي باتت في معجم أوسلو مرذولة ودلالاتها إرهابوية، وتم تدشين مصفوفة دلالية استبدالية وحقول تحرث في مياه مصطلحات ومفاهيم تؤسس للاستقالة عن الاستقلال كالبراغماتيّة السياسية، التي تتضمن سلسلة من المفاوضات والاتفاقيّات، والمساومات، والتنسيق الأمنيّ والدخول في جنة الاعتدال ودهاليز الاعتراف، وتداوليات السلام، وهي ديانة إمبريالية تعني الخنوع والاستسلام للقوة وتصف مناهضيها بالشذوذ والسادية والإرهاب والبربرية. 

لكن المعادلة التحويلية الرئيسة لاتفاق أوسلو المكرَّسة نصّا مقدّسا في إعلان المبادئ الصادر في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، بحسب الصديق العزيز جوزيف مسعد كانت معادلة "الأرض مقابلَ السّلام". فهذه المعادلة المجحِفة بحقوق الشعب الفلسطينيّ، المعترف بها دوليّا، هي المقاربة الموجِّهة والمحدِّدة لكل ما تلاها من اتفاقات ـــــ وخلافات ـــــ بين السلطة الفلسطينيّة والحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة.

فهذه المعادلة هي التي تنزاح بالعمليّة بِرُمَّتها بافتراضها ضمنا أنَّ لإسرائيل "أراض" ستكون مستعدة لمنحها "للعرب"، وأنّ "العرب" بوصفهم مسؤولين عن حالة الحرب مع إسرائيل، بمقدورهم مَنحُ إسرائيل السلامَ الذي تتوق إليه منذ عقود. إنَّ حقيقة كون فلسطينيّين قد تنازلوا عن مطلبهم العادل المشروع بـ77 بالمائة من فلسطين ويفاوضون على سيادتهم المستقبليّة على مُجرَّد 23 بالمئة من وطنهم، لا تصلح لمعادلة "أرض مقابل أرض" لأن تبنى عليها "عمليّة السّلام"، إذ إنَّ الصيغة الصحيحة من منظور فلسطينيّ، يجب أن تكون معادلة "الأرض مقابل السلام"، إذ إنَّ الفلسطينيّين هم من يتخلى بموجبها عن حقوقهم في وطنهم التاريخي (الأرض) مقابل إنهاء الاضطهاد الإسرائيليّ والعنف الكولونياليّ ضدّ شعبهم (السلام).

لا شك أن سلطة أوسلو باتت منفصلة عن المعجم النضالي للانتفاضات الفلسطينية، واستدخلت المعجم البراغماتي الأمريكي الإسرائيلي، وهي غير قادرة على الخروج من سجن الكلمات ومعتقل الدلالات، الأمر الذي أصبح محركا لممارساتها، فعلى مدى سنوات عملت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية على تفكيك البنية التحتية للمقاومة المسلحة، سواء أكانت تتبع حركات جهادية كحركة حماس، أم تتبع كتائب ثورية كشهداء الأقصى، لكن سلطة أوسلو التي انشغلت في مراكمة الثروات وشراء الولاءات أخفقت في بناء نموذج مقنع في الحكم، فقد تدهورت الظروف الاجتماعية والاقتصادية خلال الأعوام الماضية،، كما أن مفاوضات السلام التي طرحت كخيار استراتيجي وحيد في إطار حركة فتح فشل في تعزيز شرعية السلطة الفلسطينية.

لعل السؤال الأساس مع اندلاع انتفاضة ثالثة، هو هل سنشهد ديمومة للانتفاضة الحالية في ظل سلطة فلسطينية تفتخر بانتمائها إلى معجم دلالي يناهض مفهوم الانتفاضة، ويعمل جاهدا على وأدها عبر سلسلة من الإجراءات يقع في صلبها التنسيق الأمني، وما هي هوية الانتفاضة الحالية مع بروز شواهد على دخول الجهادية العالمية إلى فلسطين، في ظل أنظمة سلطوية عربية تعمل على ترميم سلطانها وشرعيتها الذي زعزعته الثورات العربية، وتعيد موضعة شرعيتها الدولية عبر توثيق تخالفاتها مع المستعمرة الاستيطانية برعاية أمريكية.

يبدو لي أن الانتفاضة الحالية لا تزال تبحث عن هويتها ومعجمها الخاص، لكن وقوعها في لحظة تاريخية أصبحت فيه المنطقة خزانا جهاديا يوشك على الانفجار في كافة أرجاء المنطقة والمعمورة، سوف يدفعها إلى عوالم الجهادية المعولمة، في ظل غياب رؤية إقليمية ودولية تعالج الأسباب الموضوعية العميقة لمشكلات المنطقة عموما والفلسطينية خصوصا بعيدا عن سياسات "الحرب على الإرهاب" البائسة، وسياسات "الهوية" القاتلة، وتنامي التحشيد الطائفي، وتعميم الخراب الاقتصادي، وشيوع الفساد السياسي وتفشي الظلم الاجتماعي.