كتاب عربي 21

عن بعض دوافع الثورة المظلومة

1300x600
هناك سردية عن 25 يناير 2011 تزعم أنها كانت ثورة ليبرالية. أصحاب هذه النظرية هم من الشباب الساكن في المدن، من الطبقة الوسطى أو الوسطى العليا، وبعضهم كثيف الوجود على شبكات التواصل الاجتماعي. وسرديتهم تنبني على ما يلي:

أولا: هم يرون أن مصر هي مرجعيتهم الهوياتية والأخلاقية والعاطفية والسياسية، لا الأمة العربية كما يرى القوميون العرب، أو الأمة الإسلامية كما يرى الإسلاميون، أو عمال العالم كما يرى الشيوعيون.

ثانياً: هم يريدون لهذه المصر، أن تكون نسخة عن أوروبا أو أمريكا الشمالية، من حيث التنظيم السياسي الديمقراطي أو من حيث الاقتصاد الرأسمالي الحر المشفوع ببرامج للعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد

ثالثاً: هم يريدون تطبيق منظومة حقوق الإنسان بحذافيرها، حتى ما يخالف الثقافة الموروثة منها، بل هم أكثر تركيزاً على تلك الحقوق من غيرها. فحق اختيار الشريك أو الزوج، بغض النظر عن جنسه، أو حق تغيير الدين، أو حقوق الميراث المتساوية بين الرجال والنساء، تأخذ حيزاً في خطابهم يتساوى مع الكلام عن الحق في تقرير المصير أو الحق في حرية الانتقال بدون تأشيرة أو إذن في العالم أو في الإقليم، أو حق الدفاع عن النفس ضد الاحتلال الأجنبي أو خطره.

رابعاً: موقفهم غامض، وهذا الغموض محروس جيداً، من اتفاقية السلام المصرية ألإسرائيلية، ومن تسليح سيناء، ومن والمقاومة الفلسطينية في غزة، والمقاومة اللبنانية في الجنوب.

ثم هم يعتقدون أن هذه قائمة القيم والانتماءات هذه، والتي لو رآها أحمد لطفي السيد، بل اللورد كرومر، لأقرَّها، هي ما خرج من أجله الملايين في 2011، ويبدون غضبهم على من يخالف هذه المنظومة ولو في تفصيل صغير هنا أو هناك. ويدينون من كان من الشعب محافظاً يقدم الحقوق الثقافية على الحقوق الفردية، أو اشتراكياً  يقدم عليها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

لا يمكن لأحد بالطبع أن يجزم بإرادة هذه الملايين دون دراسات إحصائية للرأي العام نفتقد الكثير من أدواتها في العالم العربي. ولكن هناك مؤشرات عدة تظهر أن هذه السردية ليست دقيقة تماماً.

فالمظاهرات الكبرى التي قامت في مصر في السنوات العشر الأخيرة قبل 2011 كلها، باستثناء واحدة، قامت لأسباب غير مصرية. وميدان التحرير لم يمتلئ قط منذ بداية الألفية وحتى 2011 إلى عام 2003 احتجاجا على الحرب الأمريكية على العراق. والمظاهرات الكبرى التي كانت تخرج من الجامعات والأزهر وفي الأرياف في 2000 و2002 و2006 و2008 و2009 كلها خرجت لأسباب فلسطينية أو عراقية أو لبنانية . في 2000 خرجت المظاهرات دعماً للانتفاضة الفلسطينية الثانية، وفي 2002 خرجت غضباً لإعادة إسرائيل احتلالها لمدن الضفة الغربية وارتكابها المذابح في مخيم جنين وحصار المقاطعة في رام الله، وفي 2003 كما أسلفنا امتلأت الميادين غضباً للغزو الأمريكي لعراق، وفي 2006 غضباً للحرب الإسرائيلية على لبنان، وفي 2008 و2009 غضباً على الحرب الإسرائيلية على غزة. وهي الحرب التي أعلنتها تسيبي ليفني على الفلسطينيين من القاهرة وهي تمسك بيد السيد أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية اليوم، ووزير خارجية مبارك آنذاك، والذي كان هدد بكسر رجل أي فلسطيني يحاول اللجوء من القصف الإسرائيلي إلى مصر، وهو يتقلد قدراً لا بأس به من دماء الفلسطينيين في تلك الحرب. المشاركون في كل هذه المظاهرات كانوا بعشرات الآلاف.

أما الاستثناء المهم، فكان في 2006 خرجت مظاهرة كبيرة في مدينة المحلة الكبرى لأسباب اقتصادية. وهي كانت عنيفة وشملت صداماً مع الشرطة وتمزيقاُ لصور حسني مبارك في الميادين. وكان المشاركون في هذه المظاهرة أيضاً أ يعدون بالآلاف العديدة.

أما المظاهرات التي تم الحشد لها لأسباب حقوقية كإضراب القضاة والتعديلات الدستورية، بل ووقفات المطالبة بحق الشهيد خالد سعيد، فكان عدد المشاركين فيها قبل الثورة يعدون بالمئات فحسب. نعم إن صفحة خالد سعيد، كانت من أول من دعا لمظاهرات 25 يناير 2011، لكن الاعتماد على هذه الحقيقة وحدها لقصر دوافع الناس الذين نزلوا إلى الشوارع على البرنامج الحقوقي المذكور أعلاه، وحذف الدوافع الأخرى المتعلقة بالظلم الاقتصادي والاستقلال الوطني أمر تجانبه الدقة.

في اجتهادي، فإن الناس نزلوا ثائرين لكرامتهم الفردية التي أهانها مبارك بواسطة الشرطة، وكرامتهم الجماعية التي أهانتها أمريكا وإسرائيل بواسطة مبارك، وللقمة عيشهم التي سلبها منهم نظام الاقتصاد الرأسمالي التابع المخلوط بالفساد.
وكل محاولة لشطب هذه المطالب والدوافع هي محاولات تفتقر إلى الدقة أو إلى الأمانة أو إلى كليهما.