قضايا وآراء

في ضرورة تحرير الدين من الدولة

1300x600
أثارت "فتوى" الشيخ عثمان بطيخ مفتي تونس سجالا عموميا حادا حول علاقة مؤسسة الإفتاء بالسياسة، ورغم أنّ المفتي قد حاول تدارك الموقف ورفع الإحراج عن السلطة القائمة بأن اعتبر بيان تحريم الاحتجاجات العشوائية مجرد رأي وليس فتوى بالمعنى الصناعي للكلمة؛ فإنه لم يزد الأمر إلا إشكالا وغموضا.

وقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي نوعا من الإدانة الإجماعية لهذا الموقف وإن كانت تلك الإدانة من مواقع مختلفة ولأسباب متباينة.

سواء أتنزّل كلام المفتي في إطار "البيان" أو "الفتوى"، فإن المسألة لا يمكن أن تختلف كثيرا عند المتلقي، فمهما كانت طبيعة الكلام –تحريما كان أو تجريما- فإنه مرتبط بموقع ديني رسمي هو مؤسسة الإفتاء التي كان من المفترض أن تنآى بنفسها عن التجاذبات السياسية وأن تكون على مسافة واحدة من الجميع، كما أنّ المتكلم هو شخصية دينية سجالية لأنها مرتبطة بالمنظومة القديمة من جهة أولى -حيث كان مفتي تونس في آخر أيام المخلوع بن علي، كما كان- صاحب فتوى شهيرة في حق رمز الثورة التونسية محمد البوعزيزي-، ولأنهاشخصية مرتبطة - من جهة ثانية - بورثة المنظومة الدستورية-التجمعية الذين عادوا إلى مركز السلطات الثلاث بقوة بعد انتخابات 2014 ، تلك الانتخابات التي أعطت لنداء تونس المركز الأول وحملت مؤسسه الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج.

في لاتوازي الأشكال 


يمكن لأي مشتغل بالشأن العام أن يلاحظ أمرا دالا أعقب "بيان" مفتي البلاد التونسية، ويتمثل هذا الأمر في انحصار الردود في مستوى مواقع التفاعل الاجتماعي-خاصة موقع الفيسبوك-.

وهو ما يعكس غيابا لما يسمى في لغة القانون بتوازي الأشكال، فقد كان من المفترض أن تتعامل مكونات المجتمعين السياسي والمدني مع "بيان" المفتي بصورة رسمية، ولكنّ ذلك لم يحصل.

ولذلك كان الغالب الأعم على مواقف الشخصيات العامة هو التحرك بالصفة الشخصية بعيدا عن الإطار المؤسسي الذي تنتمي إليه، وهو ما جعلنا أمام مواقف لا تلزم غير أصحابها بصفتهم الشخصية وليس بصفتهم الوظيفية. بل إننا نستطيع أن نقول بأن الهدف من تلك المواقف كان تحقيق الإشباع النفسي لأصحابها-وتخفيف حدة الضغط على المنظمات والأحزاب التي ينتمون إليها - أكثر مما كان الهدف هو التعبيرعن مواقف تلك الهياكل أو حتى مجرد الضغط عليها قصد صياغة مواقف نقدية صريحة من "البيان".

الإحراج والصمت المعمم

قد يكون هذا اللاتناظر أو اللاتوازي في الأشكال – ومعه هذا الصمت المطبق على الهياكل الرسمية في المجتمعين السياسي والمدني بشقيه الحقوقي والنقابي - مردودا إلى أنّ "بيان" المفتي قد وضع الجميع في حرج كبير يصعب الخروج منه، وهو حرج عام لا يكاد يفلت منه أي طرف سياسي أو حقوقي أو نقابي أو حتى إعلامي. ويمكننا بيان ذلك كالآتي: 

1- النهضة: رغم أنها عانت زمن الترويكا من الإضرابات العشوائية ومن "تهمة" توظيف االمنابر الدينية لأغراض سياسية وانتخابية، فإنها لا تستطيع الآن أن تُنكر على المفتي بيانه (أو فتواه) لأنها-من جهة أولى- جزء من حكومة الوحدة الوطنية وهو ما يفرض عليها التضامن مع باقي الشركاء-خاصة نداء تونس الذي يقف وراء تعيين المفتي-، ولأنها-من جهة ثانية- لا تريد إضعاف حكومة يوسف الشاهد وضرب حظوظها في النجاح-وهي حظوظ ضعيفة أصلا-

2- الجبهة الشعبية: لا يمكنها أن ترفض أية إدانة للاحتجاجات العشوائية، فالمفتي لم يمسّ الحق المطلق في التظاهر ولكنه أنكر التحركات العشوائية والمضرة بالاقتصاد في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد، ولذلك فإن رد الجبهة عليه قد يكلفها الكثير - سياسيا وأخلاقيا - أمام الرأي العام، خاصة وأنها قد كانت هي المتهم الرئيس في أغلب التحركات الاحتجاجية"العشوائية" سواء زمن الترويكا أو بعدها. ولكنّ توجّس الجبهة خيفة من اتهامها بمساندة الإضرابات العشوائية المضرة بالاقتصاد لا يمنعنا من التساؤل حول صمتها على تدخل مؤسسة الإفتاء في الشأن السياسي وفي آليات العمل النقابي والنضال الاجتماعين خاصةً وأنّ الجبهة كانت من أكبر الداعين إلى تحييد المنابر الدينية وإلى فصل الدين عن الشأن السياسي.

3-الاتحاد العام التونسي للشغل: لا يمكنه أن ينتقد بيان المفتي لأن الاضرابات التي تكون تحت "خيمته" هي إضرابات قانونية وليست إضرابات عشوائية، كما أنّ الاتحاد سيستفيد موضوعيا من بيان المفتي لأن الاضرابات الوحيدة التي ستبقى قانونية و"شرعية"-أي ذات شرعية مضاعفة أو مزدوجة-هي الاضرابات التي سيُنظمها الاتحاد بصورة قانونية-أي بعد المرور بجميع مراحل التفاوض مع سلطات الإشراف وغيرها من وسائل الضغط المعروفة والتي تسبق الإضرابات-

4- المعارضة الديمقراطية من خارج الجبهة -التيار الديمقراطي والمؤتمر والحراك والتكتل خاصة-: من المؤكد أنّ هذه الأطراف هي أيضا محرجة وبصورة أكبر من غيرها من قوى المعارضة اليسارية المطبعة مع نداء تونس داخل ما سُمّي بجبهة الإنقاذ. فهذه الأطراف لا يمكن أن تدافع عن الإضرابات العشوائية بعد أن أعربت أكثر من مرة عن رفضها لمنطق استضعاف الدولة وبعد أن دعت –خاصة في عهد الترويكا- إلى تطبيق القانون على الجميع. كما أنّ رفض هذه القوى لبيان المفتي سيثبّت عليها "تهمة" الخروج من السياق الوطني-على حد تعبير محسن مرزوق-، وسيجعلها عرضة لقصف إعلامي مركّز من غرفة عمليات المنظومة الحاكمة التي لن تجد عندها صعوبة في اتهامها بضرب الاقتصاد وتحميلها مسؤولية فشلها المرجح في إدارة ملفات الفساد الاقتصادي. 

5- الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان: لم تصدر الرابطة أي بيان تنديد بالفتوى (أو بالبيان) وهو صمت تشاركها فيه منظمات المجتمع المدني المنادية بفصل الدين عن السياسة والمدافعة عن الحقوق الأساسية للمواطنين-ومن بينها حق التظاهر والاحتجاج السلمي-. وقد يطرح هذا الصمت قضية "المبدئية" في مواقف هذه المنظمات الحقوقية ومدى التزامها الحقيقي بفلسفة حقوق الانسان وبضرورة الفصل بين المؤسسات الدينية وبين الفاعلين السياسيين ، كما يطرح هذا الصمتُ قضية استقلالية المجتمع المدني ومدى خضوعه للحقل السياسي ولرهاناته المادية والرمزية. ولا شك في أنّ بحث العلاقة الحقيقية بين الحقلين السياسي والمدني سيساعدنا كثيرا في منع أن يتحول المجتمع المدني إلى مجرد ملحقات وظيفية ببعض الأحزاب الكبرى.

أليس الإفتاء منبرا دينيا؟ 

عندما نجد أنفسنا أمام هذا الصمت المعمم - الذي يبلغ حد التواطؤ العملي - تجاه تدخل مؤسسة الإفتاء في تجريم/ تحريم الاحتجاجات الشعبية، وعندما نكون أمام تغوّل الدولة وتوظيفها للمنابر الدينية قصد حماية سياساتها اللاشعبية من السلطة التعديلية "للشارع"، فإن الإشكالية الحقيقية لم تعد هي فصل الدين عن الدولة -لحماية النمط المجتمعي التونسي وتجنب شبح الدولة الدينية - بل إن الإشكالية الأساسية قد أصبحت هي فصل الدولة عن الدين وذلك لحماية الحريات والحقوق الأساسية للمواطن من "تحالف السيف والقلم" في صيغته الحداثوية البائسة.

فرغم أنّ أغلب انتقادات "العائلة الديمقراطية" لحركة النهضة ولجميع حركات الإسلام السياسي - في عهد المخلوع - كانت توظيف الدين لأغراض سياسية، ورغم أنها قد استمرت بعد الثورة لكن بعد أن اتخذت ذريعة جديدة هي توظيف المنابر الدينية لأغراض انتخابية، رغم ذلك كله فإنّ أغلب المنتمين لتلك "العائلة الديمقراطية" لا يجدون حرجا في تبرير هيمنة الدولة على الشأن الديني وتجييره لخدمة أجندات حزبية مخصوصة، كما أنهم لا يجدون أي حرج في الصمت على إملاءات الحزب الحاكم لمؤسسة الإفتاء التابعة لرئاسة الحكومة كي تشيطن الاحتجاجات الاجتماعية من موقع ديني تمهيدا لضرب الاحتجاجات المتوقعة على السياسات اللاوطنية لحكومة اللوبيات المالية المستحلقة وظيفيا بـ"الجهات المانحة" للقروض الفاسدة وللتبعية والتفقيرعلى حد سواء.