قضايا وآراء

مقالة في التحرّر من منظور مواطني اجتماعي

1300x600
في الفترة الأخيرة، وبعد تواتر العديد من شبهات الفساد الأخلاقي والمالي المرتبطة ببعض الشخصيات السياسية -وهي أساسا من حزب نداء تونس الفائز بالانتخابات التشريعية الفارطة-، طُرحت قضية إيطيقا الفضاء العام أو مدوّنات السلوك التي كان من المفترض أن تضبط سلوك الشخصيات العامة. لكنّ السجال العام-خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي- تحوّل إلى موضوع للمزايدات الحزبية والأيديولوجية، بل إلى موضوع لتصفية الحسابات بين أنصار الترويكا من جهة أولى، ومن ينتسبون إلى اليسار الثقافي والقوى النيو-تجمعية. ولم يكن هذا التعاطي المسيّس والمؤدلج  مع المسألة إلا  ليُعمّق الانقسام الاجتماعي والاحتقان السياسي، كما لم يكن لهذا التعاطي إلا أن يساهم في تسطيح الوعي الشعبي وتزييفه وحرفه عن قضاياه المواطنية الحقيقية التي تستوجب وجود حوار عمومي رصين.

ينطلق هذا المقال من قناعة مفادها أن كل التصنيفات القائمة على متحوّل Variable اختلال موازين القوى بصورة جائرة ومخلّة بكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية –أو ما يُسمى بالمصطلح الديني"الظلم" - تعود في نهاية التحليل إلى ثنائية الاستكبار/الاستضعاف. كما ينطلق هذا المقال من وعي حاد باستحالة المطابقة بين هذه الثنائية وكل المحددات الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية للإنسان. فالاستكبار والاستضعاف لا يعكسان-ولا يُختزلان- في تفاوتات أو تراتبيات طبقية أو جندرية أو جهوية أو عنصرية أو دينية بالضرورة، كما لا تطابق هذه الثنائية جدلية القاهر والمقهور التي أبدع في تفصيلها المربّي المناضل باولو فيريري، وذلك رغم أنّ ثنائية الاستضعاف/الاستكبار تنتمي إلى الروحانية التحررية ذاتها التي ينتمي إليها مصنفه المرجع"تعليم المقهورين".

عندما نحاول تدبّر المفاهيم والمصطلحات التي يُعقل بها الصراع ويدار من طرف الفاعلين الجماعيين، وعندما نقف على هيمنة المنظورات الثقافوية "المتعالية" التي تحاول تجيير الصراع وفرض حلول ومقاربات، هي أقرب إلى المنطق الاستبدادي المبني على أحادية الصوت منها إلى منطق الحوار  العقلاني، المبني على تعددية الأصوات ونسبية الحقيقة واستحالة إنتاجها خارج عمليات التفاوض الاجتماعي، عندما نرى ذلك كله فإننا سنزداد اقتناعا بمقدار "الغربة" التي يعيشها الحقل الدلالي القرآني سواء عند أولئك الذين ركبهم وهم التحدث باسمه و"التوقيع عن رب العالمين"، أو عند أولئك الحداثيين الذين سفّهوا أحلام علماء الأمة ومقتضى أنظارهم بدعوى ضرورة تجديد الدين-الذي هو في النهاية مجرد محاولة لتشريع هيمنة الدولة على الدين وإلحاقه باستراتيجيات الهيمنة-.

لم تكن تلك "المشاريع" المتصارعة في مستوى"مطامحها" ولم تكن مصداقا لادعاءاتها الذاتية فارتدّت إلى حدود المذهب عند البعض، وإلى حدود الصراع داخل الدول القطرية-أو فيما بينها- عند البعض الآخر. وذلك لأنّ دعاة" الأمّة"-المتجاوزة للتمذهب-أو طليعة"النزعة الإنسانية"-المتجاوزة للأديان أو على الأقل للتمثلات التراثية لتلك الأديان - لم يستطيعوا أن يُخلصوا  خطاباتهم-فضلا عن أدائهم السياسي- من إكراهات التمذهب ورهانات التحزّب وشوفينية الجنس ما ظهر منها وما بطن. وهو أمر كان ممكن التحقق لو أنهم ارتفعوا إلى مستوى الآفاق التحررية التي تقدمها ثنائية الاستكبار/الاستضعاف المخترقة للقرآن الكريم من أوّله إلى آخر آياته. فلو عمدنا إلى مقارنة هذه الثنائية بباقي الثنائيات التقابلية/الضدية الأخرى، لوجدنا أنّ هذه الثنائيات "البديلة"-بأصيلها ودخيلها- إنما هي ثنائيات "جزئية" و"اختزالية" ولا يمكن أن ترقى إلى مستوى المقدرة الإجرائية والقيمة التفسيرية للثنائية القرآنية"التوليدية". لكن يجب ألا ننسى أنّ المحافظة على القيمة المعرفية والسياسية لثنائية الاستكبار/الاستضعاف تفترض يقظة روحية وانتباها معرفيا كبيرين، كي لا  نرتدّ بهذا المدخل "الديالكتيكي" –دون قصد منا- إلى مستوى طرح تراثي مغترب في الزمان أو طرح حداثوي مستلب ومغترب عن المكان.

قد يكون الملأ -حسب هذا التأويل المشروع للنص القرآني- هو النخبة الحداثية أو هيئة كبار العلماء أو آيات الله أو الطليعة التنويرية أو غرباء المذهب أو الفرقة الناجية أو سدنة الشيوعية أو دعاة القومية أو وجوه الأحزاب، وأغلب المقدّمين في الحقول المعرفية والسياسية، فلا فرق. فكل من يفرض استراتيجيات هيمنة تعطّل قدرات الكائن الإنساني وتضرب حريته الأصلية هو من الملأ ولو كان مجرد جلاد في خدمة البرجوازية الحداثية،  أو كان مجرد "داعية ديني" في خدمة البرجوازية الدينية. كما قد يكون المستضعف شيخا في زاوية أو مسكينا في حانة أو متعبّدا في مسجد، أو لا أدريّا ينحت المعنى في مدارات"عالم نثري" لا شعر فيه ، أو ملحدا يتنفّس تيه الكائن وغربته و"محدوديته" وهشاشته التي لادواء لها ، أو بائسا مفقّرا على رأس جبل يهمّ بإلقاء نفسه إلى مواطن الهلكة، أو رجلا نكرة لا يملك من المواطنة غير أوراقها وبعض أوهامها، فلا فرق. فكل شخص يُحال بينه وبين حقوقه الأساسية في التفكير والتعبير، وكل شخص يُحرم من حقوقه الاقتصادية التي توفر له الحد الأدنى من الكرامة، هو مستضعف ولو كان من عبدة البقر. 

إنّ البعد التحرري في ثنائية الاستكبار/الاستضعاف قد يجعل منها مدرجا لتحرير الإنسان من جميع أنواع المضاف الاجتماعي المعطّلة لإنسانيته، سواء أكان ذلك المضاف نسقا دينيا أم رؤية علمانية. وقد يكون انتماء هذه الثنائية إلى مجالنا الحضاري وإلى مخيالنا الجمعي ولاوعينا المعرفي، امتيازا وليس نقيصة. فالثابت عند المحققين من المؤرخين والمنصفين منهم أنّه لا نهضة إلا بتفعيل الموروث الثقافي الجمعي وتحميله بدلالات جديدة -وهو ما وقع مع النهضة الأروبية وغيرها. ولذلك يمنع الأصل الديني والمجال التداولي الأصلي لثنائية الاستكبار/الاستضعاف من توظيفها لتجاوز أغلب المنظورات"الاختزالية"المتنازعة لاحتكار إنتاج المعنى"الشرعي" المنظم للفضاء العام. فالاستكبار والاستضعاف ليسا معطى رمزيا ولا ثقافيا فحسب، وليسا أيضا معطى اقتصاديا "محضا". إنها كل ذلك "معا" لا بمعنى"التوازي"أو التراكب وإنما بمعنى التداخل"البنيوي" الذي يجعل من الحديث عن عامل محدّد "في نهاية التحليل" أمرا لا معنى له، إلا عند من يطلب التأنقات اللفظية التي لا معنى لها.

لعلّ من محاسن الثورة التونسية أنها قد جعلتنا نرى"جهارا" أنّ الإيديولوجيا -يمينا ويسارا- ليست بالضرورة في خدمة المستضعفين رغم كل ادعاءاتها الذاتية وأوهامها النسقية وأبواق دعايتها الحزبية . كما أوقفتنا الثورة على تناقضات"مابعد إيديولوجية"-ما بعد الإيديولوجي ليس هو نقيض الإيديولوجي أو نفيه، بل هو الإيديولوجي غير النسقي أو المتمرد على السرديات الكبرى-. ولذلك قد يكون من المفيد أن نتجاوز مرحلة فهم  تناقضات الواقع وإدارتها بالترسانة المفهومية "الدوغمائية"، رغم أن تلك الدوغمائية-المتوزعة يمينا ويسارا ووسطا - ستحاول شيطنة كل محاولة للخروج من آليات إنتاجها للمعنى، وذلك لأن تلك العملية التحررية ستمسّ –ولو في المستوى الاستراتيجي البعيد- المصالح المادية والرمزية لبارونات السياسية وحرّاس العقائد الدينية والمعلمنة على حد سواء.

عندما يفهم "الإسلامي" حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم"تبسّمك في وجه أخيك لك صدقة" باعتباره معنى أخلاقيا لا ينحصر المقصود به في "الإسلاميين" دون غيرهم، بل يدخل في حكمه كل "إخوانهم" في الوطن، بل في الإنسانية كلّها، وعندما يفارق مذهب "الوجه العبوس" باعتباره جزءا من عقيدة" الولاء والبراء" و تجلّيا "للمسافة" النفسية والاجتماعية بين "أهل الحق" وأهل الباطل، وعندما يعتبر "التّقدمي" أو"الحداثي" أنّ "حقوق الإنسان" هي منظومة كونيّة يدخل فيها "الإسلامي" الذي لا يمكن أن يكون أبدا "مجرّد" انعكاس لصورته "النمطية" المُشيطنة منذ عهد المخلوع ابن علي ولأسباب تتجاوز المستوى المحلّي، وعندما يعترف بأنّ الإسلامي هو "شريكه"في بناء الثقافة لا موضوعها وجسدها" الصامت"، عندها"فقط" سندخل  زمن"الجمهورية الثانية" وسنخرج قليلا من أوهام "المذهب" واستيهامات " المدنية". وهو ما يعني أنّ تجاوز "سوداوية" الخطابات المتحكمة في تشكيل الرأي العام-وفي تزييفه أساسا-  يبدأ من هذه "المراجعات" الضرورية التي لا يمكننا أن نعيش"معا" من دونها، وذلك مهما لبّست علينا أوهامنا وأوثاننا وحقائقنا"المقدّسة". 

ختاما، لا يطمع هذا المقال في أكثر من تحريك النقاش العام حول ثنائية الاستكبار/الاستضعاف وحول قدرتها في خدمة الحراك الاجتماعي وتوجيهه نحو أفق تحرري. كما لا يطمع هذا المقال-الذي هو مجرد أفكار أولية أو مقدمات عامة-  إلا إلى التنبيه إلى تلك الثنائية باعتبارها مدخلا مفهوميا من أهم المداخل التي قد تساهم في تكريس ثقافة "المواطنة"، المتجاوزة للمنظورات "الطبقية" أو"العقائدية" أو"الجهوية" أو"الفئوية"، التي لا تتّسع لغير المؤمنين بها والمستفيدين منها. إنها ثنائية نراها قادرة –عندما تتشكل حولها كتلة تاريخية ميتا-إيديولوجية-  على تكريس قيم إنسانية لجمهورية"ثانية"، تلك الجمهورية التي نطمح إلى أن تكون "خيمة كبرى" للجميع، لا "للملأ" من المستكبرين بوهم التوقيع عن رب العالمين، أو عن دكتاتورية البروليتاريا، أو عن فلسفة التحديث الأتاتوركي في صيغتها الدستورية-التجمعية المعروفة.