كتاب عربي 21

الخفايا المذهلة في فيلم الرسالة

1300x600
شاهدت مطلع الأسبوع الجاري فيلما وثائقيا عن مراحل إعداد فيلم "الرسالة" الشهير، كان قد أهداه لي في الكويت الصديق هائل المحاميد، وكان دافعا للبحث عن تفاصيل أكثر خفاء في شبكة الانترنت.

يا إلهي ما هذه التفاصيل والصعوبات والتحديات التي تشق الأكباد وتذهب بالعقول، ومن له القدرة على حملها، وكأن هذه الرسالة السماوية فعلا شاقا سواء للمكلف بتبليغها (محمد صلى الله عليه سلم) أو المعنى بالدفاع عنها (عباس العقاد).

ولدت الفكرة في رأس مصطفى العقاد رحمه الله في أمريكا عام 1970 حين رأى جهل الناس بالإسلام يزداد وأراد أن يقدم للمواطن الغربي ما يعرفه بدين الإسلام.. كانت فكرته انتاج فيلم روائي وعارضه صديقه المثقف السيناريست الكويتي محمد السنعوسي وقال لابد أن يكون فيلم وثائقي عن الإسلام.

توجها إلى بيروت والتقيا برجل الأعمال الشهير عدنان خاشقجي ووعد بالتكفل بالفيلم وتم تأسيس شركة فيلمكو عام 1971 غير انه قدم لهم 350 الف دولار فقط.

الاحباط الذي أصاب العقاد نتيجة الشح المادي عالجه صديقه السنعوسي وقال له لن يخذلني أهلي في الكويت وهناك كان الفضل الكبير لوزير المالية والنفط عبدالرحمن العتيقي الذي نصحهم بالذهاب الى البحرين لتأسيس شركة إنتاج، لأن القيود القانونية الضريبية سهلة التعاطي وأرسل العتيقي رسالة لنظيره البحريني يوسف الشيراوي وكان الأخير أكثر حماسا لإنتاج الفيلم، وفي المنامة تم تأسيس "الشركة العربية للإنتاج العالمي" وقدم الشيراوي تعهدا خطيا بإعفاء الشركة والفيلم من الضرائب 15 سنة.

تحمست الكويت ودفعت 25% من رأسمال الشركة ومثلها البحرين وليبيا والربع الأخير كان قرضا على ذمة الشركة.

بدأ العمل وطاف العقاد كل صحاري ليبيا والجزائر والمغرب بحثا عن بيئة للتصوير مضاهية لبيئة مكة والمدينة.

من التفاصيل المدهشة جدا أن فيلم الرسالة هو أول فيلم يخرجه مصطفى العقاد، وإن كان سبق له إخراج مسلسلات في أمريكا.

ومع أن التقنيات لم تكن عالية حينها واستخدام الكمبيوتر والتكنولوجيا الرقمية والكاميرات الحديثة وإنتاج الخدع السينمائية كلها لم تكن موجودة إلا أن العقاد تجاوز ذلك بتوفير أفضل وأمهر الفنيين والمهندسين والمصورين وحشرهم إلى الصحراء من كل العالم... كان يقول هذا فيلم يقدم دين الإسلام ونريد له الخلود والبقاء.

من التفاصيل المدهشة أيضا أن الموسيقى التي رافقت الفيلم في كل مشاهده كانت بهندسة ورؤية فنية عظيمة.. كان العقاد يرى أن يرافق الفيلم صوت موسيقي يليق بجلالة الإسلام.. فذهب للتعاقد مع الموسيقار العالمي موريس جار وأحضره للقاهرة والمغرب للاستماع للأذان في الأحياء والمدن وعمل موسيقى تليق بمقام هذا الصوت الإلهي حين يصدح به بلال لأول مرة من سطح الكعبة.

ثم الذهاب إلى أفضل كتاب السيرة النبوية وهو عبدالحميد جودة السحار في القاهرة.. وطلب منه كتابة أفضل وأدق ما في السيرة.. ولأن العقاد رجل عظيم وواعي عرض النص على كبار الأدباء والمؤرخين والعلماء ثم بحث عن  إجازة خطية من الأزهر والمجلس الشيعي الأعلى بلبنان، فالأزهر لوحده استغرق سنة كاملة في قراءة ومراجعة السيناريو مع السحار والشرقاوي وتوفيق الحكيم وأحمد الشلبي والمراجعة مع كاتب النص السنياريست الأمريكي هاري كريد.

واجه العقاد ضغطا شديدا جدا من مفتى السعودية العلامة عبدالعزيز بن باز الذي استطاع إقناع الملك فيصل "رحمهما الله" بمعارضة الفيلم.. وهنا قرر العقاد زيارة الإمام بن باز لإقناعه فقالوا له كيف تزور رجل يعتقد أن التصوير حرام أصلا، ورغم حضور العقاد إلى مقر رابطة العالم الإسلامي بمكة إلا أنهم أصروا على حرمة التصوير، فالتفت إلى جواره ورأى صورة الملك فيصل على جريدة عكاظ، سألهم عنها فالتزموا الصمت، واللافت هنا بحسب شهادة العقاد أن العلماء الذين رفضوا الفيلم لم يكونوا سعوديين، بل من المقيمين في السعودية، وكان من بين العلماء عالم سعودي اسمه أحمد الجمال هو الوحيد الذي وقف مع العقاد!!.

وفي لبنان قال لهم رئيس المجلس الشيعي الأعلى موسى الصدر -من خلال قراءته للسيناريو-  لماذا يظهر سيف علي "ذي الفقار" فقط.. أعرضوا علي شخصيا.. فأقنعه العقاد أن المسألة فوق طاقتهم.

بعد رحلة بدايات تشق الأكباد قرر العقاد أن يكون التصوير في قرية تبعد نصف ساعة عن مراكش المغربية وتم إحضار أمهر الحرفيين والعمال والنساجين من كل العالم.. وإنشاء كل متطلبات مدينة إنتاجية مصغرة.. واستئجار كامل فندق "هولداي إن" في مراكش للمثلين وطاقم الانتاج.

ومن الأسباب التي جعلت الفيلم يطول زمنيا أنه كان بنسختين عربية وانجليزية.. 
"وتم بناء بيوت لآلاف البشر الذين تم الاحتياج لهم" -هكذا بشهادة السنعوسي- وجاءت الحاجة إليهم في المعارك وفي خطبة الوداع.. وبعد كل هذا العمل الجبار والجهد الاستثنائي بدأ التصوير.. وهنا داهمهم الزلزال من حيث لم يحتسبوا وهو مذكرة من وزارة الإعلام المغربية تقول لهم الضغوط توالت علينا من الدول العربية والإسلامية والجمعيات تطالب بتوقف تصوير فيلم "محمد رسول الله" وتقرر إيقاف التصوير ابتداء من هذه اللحظة، والمذكرة سبقها حديث الملك شخصيا للعقاد بأن الملك فيصل يتعرض لضغوط من العلماء ولن يستطيع حضور القمة الإسلامية في المغرب قبل إيقاف التصوير..

أثناء التصوير كان المكان مزارا لكل السياسيين الزائرين للمغرب.. ولا يزال إلى اليوم يتم اصطحاب السياح إلى قرية فيلم الرسالة التي لا يزال بنيانها قائما بما فيه بناء الكعبة الرمزي.

ويلتمس السنعوسي العذر للملك فيصل الذي استجاب لضغوط علماء السعودية وباكستان والهند واندونيسيا وضغوط ضجة إعلامية مرعبة، فالأهرام نفسها كتبت "انطوان كوين سيؤدي دور رسول الله!!"وتسببت بضجة في كل العالم، والغريب أن كل المعارضين لم يقرأوا صفحة واحدة من سيناريو الفيلم، فضلا عن استجابة المغرب السريعة لحاجتها إلى صوت السعودية في قضية الصحراء الكبرى التي ستعرض في الأمم المتحدة لاحقا.

وبذكائه المعهود أسرع العقاد إلى طلب السماح لهم باستكمال تصوير مشاهد الكعبة لأنه يتعذر بنائها في مكان آخر، وتمت الموافقة... يشفق السنعوسي ويقول أن معظم الشيب الذي ظهر في رأس مصطفى العقاد كان بسبب هذا التوقف المفاجئ للتصوير، لأن مدة العقود ستنتهي مع كبار الممثلين والفنيين والشركات المصاحبة، والفيلم لم يكتمل بعد، ومنهم الممثل العالمي انطوان كوين.

وبفضل نصيحة عبدالفتاح الوسيع للعقاد بالذهاب إلى الرئيس الشاب في ليبيا العقيد معمر القذافي لطلب سنده في استكمال الفيلم.. ذهب العقاد ووافق القذافي فور مشاهدته للقطة يصرخ فيها المسلمون بمكة "الله أكبر" فصرخ معهم وقال لابد لهذا الفيلم أن يكتمل، وتم نقل المعدات ببواخر لشهور طويلة.. وتكفل اسطول بحري بنقل بيوت جاهزة من بريطانيا الى صحراء جنوب ليبيا مساكن للمثلين وطاقم العمل.. وتم التصوير في مرتفعات بنغازي ولم يتم الانتهاء من الفيلم ومنتجته في استيديوهات لندن إلا في مايو 1977 ودشنَ العرض بدار سينما بلندن، واستمر لمدة سنتين، وحين عُرِضَ في أمريكا تسبب بإسلام المئات من الأجانب.

وبعد ثلاث سنوات من عرض الفيلم في كل الكرة الأرضية، ماعدا العالم الإسلامي، جاءت فتوى شيخ الأزهر عبدالحليم محمود بتحريم الفيلم.. ورغم أن الخميني تجاوز مشكلة كون الأذان سُني، وليس فيه جملة "علي ولي الله" وبرر ذلك بأن أيام رسول الله لم يكن هناك شيعة، وتم عرض الفيلم في إيران، بقت مصر رافضة عرض الفيلم حتى لحظة وفاة العقاد!.

من طرائف الفيلم أيضا أن العقاد لم يستطع الحصول على لقطة تعبيرية لوجوه الجموع المكشرة، فلجأ إلى حيلة وقال لهم غدا إجازة لكم بمناسبة عيد ميلاد الملك الحسن وسيحضر الضابط المصري الذي عبر قناة السويس في حرب أكتوبر والضابط السوري الذي عبر الجولان، وتم إلباس الممثل المصري عبدالله غيث زي ضابط مصري والممثل السوري طلحت حمدي زي ضابط سوري، وصعدوا إلى المنصة يتحدثون كضباط أبطال والكاميرات الخفية تسترق لقطات وجوه الجموع الفرحة، وفي خطبة حجة الوداع تم التحايل وحضر شخص مجهول بقفطان رجل دين يتحدث عن الأيام الأخير في عهد رسول الله، كان الرجل يخطب بطلاقة والدموع تسيل والكاميرات تسترق اللقطات.

ومن أغرب الطرائف أن جماعة عبدالخالص "السود المسلمين" في أمريكا اجتاحت واشنطن بعد مشاهدة الفيلم واحتجزت رهائن انتصارا للرسول الذي تم تمثيله بشخصية "انطوان كوين", رغم أن الأخير أخذ دور حمزة بن عبدالمطلب في النسخة الانجليزية، وأخذ "غيث" نفس الدور في النسخة العربية.

ومن الطرائف أن مشهد اغتيال حمزة تكرر التمثيل فيه مرات، والمتحاربين لا يسمحون لوحشي بالمرور حتى لا يقتل حمزة!.. والأكثر طرافة أن الشاب الليبي "علي سالم قدارة" الذي كان يعمل مهندس كهربائي في الفندق الذي يقيم فيه العقاد قد أدى دور وحشي، وبعدها جلب المشائخ لإقناع أمه بأنه ليس قاتل حمزة!.

ومشهد انسحاب المسلحين في غزوة أحد رفضوا وقالوا نحن مسلمين لن ننسحب.. واللافت أن شهادات الشكر ورسائل التهديد لم تتوقفا في حياة العقاد حتى وفاته.

أما كيف تحولت التسمية من "محمد رسول الله" إلى "الرسالة" فيرويها العقاد أن المسلمين الأسيويين في لندن احتجوا بشدة على الفيلم، فطلب منهم الحضور إلى صالة في المجمع الإسلامي لرؤيته، وعند انتهاء عرض الفيلم انهالوا يقبلون يده ورأسه، وقالوا له نريد عمل دعاية للفيلم في كل مكان بما فيها البارات والحانات ولا نريد وضع اسم رسول الله في هذه الأماكن، وظل يتوددونه بتغيير الاسم، واقترحوا تسميته بـ"الرسالة".

من شهادة العقاد والسنعوسي نجد أن الفضل -بعد الله- يعود إلى الرئيس القذافي ثم وزير المالية والنفط الكويتي عبدالرحمن العتيقي فهو من راسل نظراءه في كل الدول وسهل لهم كل الصعاب، ثم رجل الأعمال عدنان خاشقجي الذي منحهم ضوء البداية.

وقد كان لنجاح فيلم الرسالة دافعا للرئيس الليبي أن يطلب من العقاد عمل فيلم عن شيخ المجاهدين الليبين، فكان فيلم أسد الصحراء "عمر المختار".

رحم الله ابن حلب مصطفى العقاد فقد خدم الإسلام في كل عمل وترصدته الفتاوى في كل منعطف، وشاءت له الاقدار أن يكون ضحية عمل إرهابي لم يستهدفه لشخصه وإنما في جملة من حصد مع ابنته ريما في تفجير استهدف فندق حياة جراند في عمان الأردن في نوفمبر 2005.