قضايا وآراء

الأردن: الجماعة.. الجمعية.. خلاف فكر أم طواف حول أصنام!!

1300x600
في كلِّ التكتّلاتِ أو الجماعاتِ البشرية الساعية لتجسيدِ وجودها، عناصرُ ومقوماتٌ ثلاثة، لا يتحقّقُ لها مُرادها إلا من خلالها، وهي كما يُقَرِّرها علماء الاجتماع (ومنهم مالك بن نبي): (الأفكارُ، والأشياءُ، والأشخاصُ) فإذا ما تمّ تسخيرُ الأخيرين منهما لخدمة الأول، نجحت الفكرة، وتجسّدت حتى لو كانت باطلة مهينة هابطة منحدرة!!

وبالنظر للمقوّمات الثلاثة الضرورية لتوليد أيّ مُجتمع جديد فاعلٍ، مُغايرٍ لما كان عليه الحال قبل ذلك، فإننا نجدُ أن المُقَوِّمَ الأبرزَ المتحكمَ في باقي المقوّمات، هو مقومُ الأشخاص، ذلك أن المقوِّمَيْن الأول وثاني(الأفكار، والأشياء) يصدران عنه، ويخضعان لتداخلاتِه، وتقلّباته، وأحواله: ارتقاءً وهبوطا، صحة ومرضا، نشاطا وفتورا.

فالشخص حين يتضخمُ، وتصبح نفسه صنما، يمتصُّ بريقَ الفكرة، ويستنزفُ الموارد في غير سبيلها، فَتَنْهدِمُ أركانُ توليدِ المُجتمع المنشود، وندخلُ دوّامةَ صراع البقاء، بين الشخوص في مواقع التأثير!!!
لذا وجدنا هذه المجتمعاتِ الناشطةِ لتحقيق وجودها، تبتكرُ الضوابطَ التي تضمنُ حركةَ الشخوصِ وتضبطُها، مِن بيئاتِها الخاصة، وموروثاتِها الثقافية، ومِن القِيم الإنسانية العليا، التي لا تختلفُ عليها الأفهامُ والفِطَرُ التي خُلق عليها البشر!!

أمَّا عندنا -نحن المسلمين- فقد جاءت ضوابطُنَا لحركةِ الشخوصِ -بالإضافة لما تقدّم- من عقيدتِنا ودينِنا، وشريعتِنا، حيث ربطَتْ بهذه الضوابطُ(أو النوايا والدوافع)، صحةَ الإيمانِ، وزكاةَ النفس، وقيمةَ العمل، ونتيجةَ الفعل في الدنيا، والآخرة: قبولا وحُبوطا!!

ما مُؤمنا مَن يسألُ التْــــ  ***  ــــــــــــــــتَوحيدَ أنْ يَصْقُلَ فأسَهْ
لِيُحَطِّـــــــمَ الأصنــامَ أجْـ  ***  ــــمَعها، وينســـــــــــى نَفْسَهْ!!

هكذا أكّدت فلسفة عملاق الفكر الإسلامي الرِّصين، محمد إقبال -رحمه الله-  على القيم الإيمانية النفسية الضابطة لسلوك الأفراد، والحائلة دون تضخّم الذَّاوات على حسابِ الأفكار، خصوصا إذا كُنَّا نتكلّمُ عن حركةٍ تحملُ تعاليمَ، وقيمًا سماويةً سامية، لا عن بيئة غير مؤمنة تحملُ أفكارا وقيما قاصرةً، وضع أُطُرَها العقلُ البشريّ، لتخدمها ضمن ظروفِها واحتياجِها الآني!! 

تحطيمُ أحلامِ النفوس، والحيلولةُ بينها وبين توظيف نزاهة الفكرة؛ لخدمة رُعونة حامليها، هو المهمّة الأصعبُ في مُعادلة بناءِ الحضارات، وتوليدِ المجتمعات الراقية، لكن حين تسيطرُ الغفلة على الجماعة المتحركة نحو غاياتها، وتنسى مُراقبةَ الأداء، وحراسةَ الفكرة، فإنّ نفوس بعض القائمين على شأنها، تصيرُ أصناما لأصحابها، وتَشْرَعُ في بناءِ عوالمها الذاتية -كأصنام إضافية- تطوفُ حولها، وتُسخِّرُ لها باقي المقوماتِ، بمخادعة أثيمة للذات وللمجموعة، شَعرَتْ بذلك أم لمْ تشعر، وما هذا إلا من ضلال السعي الذي أثبته سورة الكهف، وتؤكده علوم النفس: 

نَفْسٌ أقامَ لأجلِهــــــــا  ***  مَا شـــــــــاءَ مِن أصْنامِــهِ
وَيُرِيْــــــدُها صَنَـــــــمًـا  ***  يُرافِقُـــهُ إلى إســـــــلامِهِ

وباعتقادي أن الغفلة قد حصلت فعلا، في بِنية الجماعة، وهذا ليس عجيبا، ولكن العجبَ، هو استسلامُ الجميع للحالة، وعدمُ مُحاولتِهم الجادّة لعلاجها، وتجاوزِ آثارها، بل والعملِ باتّجاهِ تكريسها وتعزيزها، ولو أسفرَ  هذا عن التّشظية والانقسام والتّفكيك, لبينة جماعة عريقة، كانت صَمّامَ أمانٍ، وعاملَ استقرارٍ، وضابطَ إيقاعٍ مهمّ، في ترشيدِ الأداء السياسي العام، مع الحفاظ على بِنية الّدولة من الاختلال!!
فترى فريقا منهم بعدما جاهدوا الاستبدادَ سبعين سنة.. عاندُوه في محطات، وتشاركوا معه في أخرى..  دَعَوْا له.. وشَكَوا منه.. !!  تراهُم حين فَقَسَتْ حُظوظُهم، تهارشوا فيما بينهم، وأكلتْهم ذواتُهم!! فلمّا أُسْقِطَ في أيدي فريقٍ منهم، ولم يصمِدْ لقواعِدِ لُعبة التَّهارُشِ الدّاخلي التي ارتَضَوْها، وحكمتْ أداءهم في الحقبة الماضية، اخترعَ لحظوظهِ أسبابَ الانتصارِ لها، وألبسها لباسَ الحرصِ، مُستخدما ذكائَه الفذَّ لهذه الغاية الدفينة:

هذا هو الصَّمُ الــــذي  ***  شيطانُه عقلُ العليـمْ
خُدّامُه أهلُ الطّريـــق  ***  كُتّابُه العِـــلمُ الأثيـــمْ

وقد سبق بها إخوة يوسف عليه السلام، فسنُّوا لهم قانونها: { اقتلوا يوسفَ أو اطرحوه أرضا، يخلُ لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعده قوما صالحين}!! ليصبح الذكاءُ الآثمُ، سبيلا لتبرير الفعل الأثيم، وإعطائِه الشَّرعية، بنِيَّة صالحةٍ مَزْعُومَةٍ، لا تُسْعِفُها اللغةُ، ولا المفْرداتُ، ولا مُجرياتُ الأحداث!!!

وأبدعُ ما توصَّل إليه فريقٌ مِن القوم، أن جعلوا من أنفسهم حِجارة في منجنيق الاستبداد الذي صاولوه زمنا، ليرجموا بها بيتَ العائلة، ويهدِموا مسجِدها -لصالح صوامعهم شخصية- فوق رؤوس أجيال الدعوة الأولى أمواتا، وشهداء، وَيَحْصِروا بها أحلام الأحياء!!

 ولو صحّت النوايا لما ذهب هذا الفريق بهذا الاتجاه -إلا أنْ يكون لُبِّسَ عليه الأمر- مما يدفعَ المراقبين من عموم المنتسبين للدعوة، أن يقولوا عن وَعْيٍ وألمٍ : اللهم بَرِئْنا إليك، فنجِّنا من أهواء الأذكياء!!
كلُّ الذين يتذرَّعون للانفصالِ عن الجماعة الأم بانغلاقِ الأفق الفكري، وتردّي الأداء الإداري، واختلالِ الفرزِ الشُّوري، إنما هم في الحقيقة يهربون من تراجعِ المكانة أو الموقع أو الدّور ، في واقعٍ صنعُوه جميعا -بلا استثناء- وفي ظل كل القيادات سابقة ولاحقة، أو أسّسوا لصنعه، ومارسوه بتكافؤ، مدى عشرين سنة كاملة، فلما يئس البعض مِن تعديل موازينه لصالحهم، راحوا يتذرَّعون للانفصال إمّا بحَنَقٍ، أو بتذاكٍ مُغلفٍ بالحرصِ والحكمة!!

ومَعْلومٌ أنَّه حينَ يشترك جماعةٌ في عملٍ، ضمنَ شُروطِ أداءٍ  مُعينة(نظام داخليٍّ باختلالاته)، تُفرزُ قياداتِها، وَتُدَاوِلُ السُّلطة بين مكوّناتها، وقد تعاطَوا بها جميعا طوال عُمُرِ الجماعة، ثم يذهبُ فريقٌ ليُغيّرَ قواعد اللعبة مُنفردا، ويجترحُ قواعدَ لَعِبٍ جديدةٍ، بمعزلٍ عن المجموع، ويفرضُ إيقاعها على الجميع، فإنَّ الحالة الناشئة عن هذا الوضع، ستكون انفصلا أو انشقاقا -مهما ابتكرَ له أصحابُه مِن مسمّيات- ولن يلقى مِن جمهورِ التنظيم قبولا، وسيظل محلّ إدانة من الأعضاء، ومن أصحاب الفكر والاهتمام، ومن مكونات المجتمع!!

فكيف إذا كانت هذه الحالة الناشئة الجديدة، قد جاءت برعاية الوضع الرّسمي، الذي ظلت الجماعة معه في حالة مدافعة سلمية، منذ التأسيس، حتى وصلت ذروتها إبّان موجة الربيع العربي!! 

عندما تخطئ كلُّ الأطرف في الجماعة أخطاءً متوازية، وتتعسفُ في ممارسة حُقوقها، وفقَ قناعاتها، بعيدا عن مركزية الإدارة، وتتصلّب في شُروطها للتوافق والتسوية، وتشرعُ في العملِ على شكلِ جيوب، وكانتونات منفصلة متضاربة، نكون عمليا أمام عملية احتضار ، لا عملية ميلاد تنظيمي لمكونات جديدة، خاصة حين يكون أنصارُ هذه المكونات قِلّةً محدودة، مما يُحتمّ على القاعدة الصلبة للجماعة أن تتلاقى، وتلتفَّ وراء الجهة التي تحملُ الشرعية، التي جاءت عبر قانون الفرز التاريخي، الذي حكم الأداء في الفترات السابقة، وإن ذهب البعض -فجأة- لغيرِه، غير معترفين به، ثم راحوا يبنون خطواتِهم الخاطئِة على هذا الأساس!!

ليستْ كلُّ المزاعم التي يتمُّ الاتكاءُ عليها صحيحة، ولا كلُّها يصلحُ أن يكون مُبررا لما يجري، والكلُّ في طروحاته يؤكد على تبنِّيهِ ما يتبنَّاهُ الطرف الآخر، مع اختلافٍ في ترتيب الأولويات، مما لا يبيحُ هذه القدرَ من التراشقِ والعدوان، والتدابُر، ويجعلنا نقتربُ من الجزم بأن البُعدَ الشّخصي، باتَ يحظي بالنصيب الأوفرِ مما يجري، مما أتاحَ للرسمي أن يفتحَ جيبا في جسد الجماعة، ويدق مسمار جحا في جدارها، ويمتلك زمام الحالة باسم القانون!!

الطوافُ حول الأصنام هو سيد الموقف، وكلُّ المزاعم لا تُقنعُ ولا تُبرّرُ للجمهورِ العريضِ من الجماعة شيئا مما يجري، فكلُّ  الانشقاقات بريئة كانت، وغير بريئة  -وإن غُلِّفت بألف ذريعة- لن تنجح، ولن تلقى قبولا من القواعد، وستبوءُ كلها بالفشل، لأنها تحمل مُبررات ذلك، وفق السياق الذي جاءت به!!

ولا حلّ إلا أن يتغلّبَ كلُّ فريق على أصنامه التي زيّنتها له أهواءه، ويتجرد من حظوظه، ويلتفّ حول رَمزية وجود قيادة –وإن كانت هي الأخرى جزءا من الحالة الصّنميّة بنظر فُرقائها- لكنها تبقى الجامع المعنوي للجميع، والذي لا يَعني غيابه إلا الفوضى المطلقة-  وانفراط العقد عمليا وتلاشي الفاعلية للتنظيم.

ومن خلال هذه القيادة -وبحكم الضرورة- يتمُّ العبورُ لمرحلةٍ جديدة، بعد أن يَصْدُقَ الجميع، ويشرعوا فعلا بتحطم أصنامهم، ويتجردوا للدعوة بمقتضى روحها وأصولها الراسخة، ليؤسسوا جميعا بوعي وحكمة معا، لمرحلة لن يجدوا مَن يُعينهم على صُنعها إلا فِكرُهم، ووحدةُ قلوبِهم، وسواعدِهم:

إن أصنامي التي في معبدي  ***  مثلها التي في معبدك
لم تحطمــــها يد غيـر يـــدي  ***  فترفــع عن يدٍ غير يدك

يا كل الإخوان الذين لم يشطحوا بعيدا، أصلحوا البيتَ مِن داخله، واستظلِّوا به، ولا تَجلِسوا في الشَّمس، تحترقوا !!

أما من شطح فليذهب وراء مشروعه وليقنع به الناس بعيدا عن منازعة الأصل والأكثرية وجودهم وقناعاتهم، فهذا أزكى لهم وأطهر، وأدعى للقبول، وإلا فالحقائق لا تُصادم، ولا تُعاند، والمصداقية لا تُنتزع انتزاعا، وإنما تتولّد تولُّدا طبيعيا!