مقالات مختارة

هل بلغ "داعش" المنتهى في أساليب التوحش والقتل؟!

1300x600
كتب حسن بن سالم: الجواب بكل وضوح هو: لا، وذلك لأن هذا التنظيم يعتمد على أسلوب التوحش الدموي، واستخدام وابتداع طرق وأساليب القتل بكل وحشية، بمثابة استراتيجية في ترسيخ صورته المخيفة والمرعبة والرهيبة، ونشر والرعب وبث الصدمة وإثارة الحرب النفسية؛ بتكثيف وسائل القتل وتنوعها، وتثبيت سطوته وفرض قوته وعنفه على المناطق التي يسيطر عليها.

ظن كثيرون أن الطريقة التي قتل بها المجرمون الطيار الأردني الكساسبة -رحمه الله- قد بلغت منتهى التوحش لدى هذا التنظيم، ولكن الإصدار الأخير الذي قام بنشره أخيرا وعملياته الأخيرة، فتح باب جهنم على الأرض، منهيا عصر الصَّلب والنَّحر والسَّحل والقطع والحرق، فبعدما فاضت أنهار جثث قتلاه لجأ التنظيم إلى أسلوب جديد، إذ تعمد إلى ابتداع طرق أكثر وحشية في القتل، وما يزيد فظاعتها التصوير والمونتاج لها بالمؤثرات الصوتية والبصرية، وكون هذا التنظيم أقرب ما يكون إلى طبيعة التنظيمات العسكرية النازية، فإن الصورة تهمه كما يهمه واقع العنف.

أخيرا، أقدم تنظيم «داعش» على إعدام نحو 50 شخصا في محافظة نينوى اتهمهم بالتجسس، بإغراق بعضهم داخل برك مائية، وهم محتجزون في قفص حديدي، وقتل آخرين عبر تفجيرهم داخل سيارة بعد رميهم بقذيفة RBG، وقتل آخرين بلف شريط متفجر حول رقابهم وتفجيرهم عن بعد لتنفصل الرؤوس عن الأجساد وتتطاير الأشلاء، كل هذا الإجرام وهذه البشاعة في القتل إرهاب وإجرام حقيقي، وليس في فيلم هوليوودي، وبعد أقل من يومين من نشر ذلك الشريط، ضرب إرهاب «داعش» مسجدا يعج بالمصلين في الكويت، وفندقا يستقبل سياحا أجانب في تونس.

اعتدنا، بعد تلك المشاهد والحوادث الإرهابية، على مجرد ترديد عبارات الاستنكار والاستهجان من كثير من علماء الدين والدعاة والخطباء لمثل تلك الأفعال، والقول إنها لا تمثل الدين وأن الإسلام منها براء، وإصدار بيانات الشجب والاستنكار تجاه تلك الأفعال القبيحة، وهذا الكلام يفهمه ويدركه العقلاء، وعموم أفراد المجتمع، ممن لم تتلوث عقولهم وفطرهم بفكر الإرهاب والتطرف.. 

ولكن المطلوب منهم ليس مجرد الشجب والتنديد، وإنما مشاريع وآراء جريئة وصريحة في إعادة وقراءة كثير من تراثنا الديني، وتعريضه للنقد والرد والغربلة، ولاسيما تلك الآثار والاجتهادات المذهبية الموغلة في ظرفها التاريخي والزماني والمكاني، فمجتمعاتنا لم يعد بإمكانها تحمل كل ما ينجم ويترتب من نتائج وخيمة؛ نتيجة توظيف تلك النقول والآثار من التنظيمات المتطرفة، فالدواعش القتلة يحرصون دوما على تبرير طرقهم ووسائلهم الوحشية بهذه الرغبة المحمومة في التفنّن بالقتل، والتسلية الدمويّة! لأتباعهم والمتأثرين بهم، عبر جملة الآثار والنقولات، من التراث الممتد طولا وعرضا، وليس عبر آثار محدودة من هنا وهناك.

فـ«داعش» لم يأت بهذه الممارسات الوحشية من فراغ، وإنما ثمة تراث ديني في بطون الكتب يتكئ عليه، وثمة مرجعية كان لها الفضل والأثر المباشر في بناء العقيدة القتالية، وتحديد الخيارات الفقهية المتعلقة بالذبح والنحر وقطع الرؤوس، وعمليات الاختطاف والاغتيال وتكتيكات العنف والرعب، فهذا التنظيم منذ نشأته يعتمد بشكل كبير على كتب ورسائل أبي عبدالله المهاجر، التي تشكل الأساس الفقهي والأيديولوجي لـ«داعش» منذ بداياته، وتمثل في الوقت ذاته سلطة مرجعية حاكمة في التنظيم، ورافدا من أهم روافد العنف والتوحش.

هذا الرجل ألف كتابا اسمه «مسائل من فقه الجهاد» والمعروف باسم «فقه الدماء»، والذي يقع في 600 صفحة، هذا الكتاب يعتبر الأساس الفقهي لمعظم المنطلقات الفقهية والدينية لتنظيم «داعش»، إذ لا نظير له في بحث وإيجاد الآثار والنقول كافة من التراث الفقهي، والتي تفضي إلى أبشع وسائل القتل، ولو قلبناه من أوله إلى آخره. 

فإن رائحة الدم والقتل والتوحش تفوح من الكتاب (من الغلاف إلى الغلاف)، ولن يعجز أحد من أتباع هذا التنظيم عن أن يجد بين دفتي هذا الكتاب ما يسوَّغ له شرعا أي عمل يريد أن يقوم به، فقد خصص هذا الكتاب مبحثا كاملا بعنوان: «مشروعية قطع رؤوس الكفار المحاربين»، أكد فيه أن قطع الرؤوس أمرٌ مقصود، بل محبوب لله ورسوله على رغم أنوف الكارهين، وأن صفة القتل بقطع رؤوس الكفار وحزها سواء أكانوا أحياء أم أمواتا صفة مشروعة درج عليها الأنبياء والرسل. 

وقام مؤلف الكتاب بإيجاد الشواهد والآثار الدينية في تبرير وتسويغ مختلف وسائل القتل والتعذيب، فهو لم يكتف بالذبح والإحراق، وإنما تناول القتل بإلقاء الحيات والعقارب، وبالإغراق بالماء، وبهدم الجدر والبيوت، وبالرمي من الشاهق، وصولا إلى نتيجة دعا إليها الكتاب بأن كل وسيلة تتحقق منها نكاية وإخافة وإرهاب في صفوف الأعداء، وكل وسيلة تخطف أرواحهم وتنتزع أرواحهم، فلا حرج في استعمالها؛ وهو ما جعل المؤلف يدعو إلى أهمية امتلاك أقوى الأسلحة وأشدها فتكا، والسعي وبكل قوة ممكنة لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، من نووية وكيماوية وجرثومية، وأن الضرورة في أعلى درجاتها، وليس مجرد الحاجة هو ما يدعو إلى ذلك.

ولا غرابة في أن تنظيم البغدادي يبدو جادا في السعي إلى ترجمة ذلك واقعيا بالحصول على قنابل بيولوجية أو أسلحة كيماوية، ويبدو ذلك من خلال دعوتهم ومطالبتهم في مبادلة أسراهم من الأميركيين بعافية الصديقي، وهي أميركية من أصول باكستانية انضمت إلى تنظيم القاعدة، وحصلت على شهادة البكالوريوس في علم الأحياء، والدكتوراه في علم الأعصاب، وتم القبض عليها عام 2008 في أفغانستان وفي حوزتها وثائق عن كيفية صنع أسلحة كيماوية، واللافت للنظر أن «القاعدة» لم يطالب بإطلاق سراحها.. 

بينما ألح تنظيم البغدادي على مبادلتها مع أسراه الأميركيين، إذ طالب «بعافية» ثمنا لحياة الصحافي الأميركي جيمس فولي، وبعد ذلك، اقترح التنظيم أيضا إطلاق سراح «عافية» في مقابل الإفراج عن ستيفن سوتلوف، ثم ديفيد هينز، وكلاهما رهينتان تم إعدامهما بعد إعدام الصحافي جيمس فولي، وما يخيف في هذا الكتاب عما سواه، كونه يعد موسوعة أو مدونة فقهية تضم كثيرا من الآراء والآثار لعلماء وأتباع من المذاهب الأربعة، لا أقول إن المشكلة تتلخص في التراث الديني والفقهي، ولكنه واحد من أهم الأسباب الموضوعية في صعود هذا التنظيم المتوحش.

(عن صحيفة الحياة اللندنية، 30 حزيران/ يونيو 2015)