كتاب عربي 21

الرايات المتشابهة

1300x600
أوَلم تُلاحظ  أخي القارئ أن كل الأطراف المتنازعة في المشرق اليوم، إما إسلاميون، أو تابعون لإسلاميين؟

لنقرأ الخريطة من اليمين إلى اليسار، كالخط العربي، فنظام الحكم في إيران إسلامي، واسم الدولة الرسمي، الجمهورية الإسلامية في إيران، ويعتمد عليها كل من الحكومات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية. ثم تركيا، يحكمها حزب العدالة والتنمية الإسلامي وتعتمد عليها أكثر التنظيمات المعارضة في سوريا والعراق ومصر، ثم المملكة العربية السعودية، دولة إسلامية دَعَوية تطبق الحدود، وتعتمد عليها الحكومة المصرية، وبعض التنظيمات المعارضة المقاتلة في سوريا والعراق واليمن.  

وحتى على المستوى ما دون الإقليمي، أي داخل البلد الواحد، الكل إسلاميون أو تابعون لإسلاميين: 
ففي العراق واليمن يبدو الأمر مثيراً للدهشة، لاحظ معي الأسماء: تنظيم الدولة الإسلامية يقاتل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحزب الدعوة الإسلامي وغيرهما، وفي اليمن يقاتل تنظيم اسمه الرسمي أنصار الله، تنظيماً اسمه جماعة الإخوان المسلمين، وتنظيماَ أسمه قاعدة الجهاد في جزيرة العرب بالإضافة إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

وفي لبنان، حزب الله إسلامي، والقوى المدنية في تحالف الثامن من آذار تعتمد عليه، بل إن بعض الطوائف المسيحية أصبحت تعتمد في وجودها على قوته وتعتبره المدافع الوحيد عنها. وكذلك فإن تحالف الرابع عشر من آذار يعتمد اعتماداً كلياً، بمسلميه ومسيحييه، على المملكة العربية السعودية. ومن العجب اللبناني أن يرى الرائي التنظيمات التي تحالفت مع إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية ثم اللبنانية، ونفذت مذابح صبرا وشاتيلا تتكلم عن مظلومية السنة، بينما تتكلم الأطراف التي ذبحت الفلسطينيين في تل الزعتر عن مقاتل الطالبيين ومظلومية الشيعة. 

وفي مصر، شاركت جميع فئات المجتمع في ثورة 25 يناير، وأدى بنا قرار الإخوان باقتسام السلطة مع المجلس العسكري ثم قرار التيار المدني الانتقام منهم بارتكاب أخطائهم ذاتها والتحالف مع العسكر، إلى ما نحن فيه اليوم: واحدٍ وأربعين ألف معتقل، وإعداماتٍ بالمئات وحربٍ أهلية تبحث عن شارع تبدأ منه. إلا أن هذا يعني، فيما يعني، أن الثوار من غير الإخوان المسلمين لم يكونوا قادرين على تعويض غيابهم أو عزوفهم عن العمل الثوري. كسر قرار المهندس خيرت الشاطر بتقاسم السلطة مع العسكر ظهرنا حقا، ولكن بالإضافة إلى تحميله المسؤولية، علينا أن نحمل أنفسنا مسؤولية أن ظهرنا كان قابلاً للكسر وأننا كنا نحتاجه إلى هذه الدرجة.  واليوم الخلاف في مصر يدور بين إسلاميين من مشارب شتى وبين حكومة تدعي أنها علمانية لكنها مرتهنة تماماً لحليف إقليمي إسلامي هو المملكة العربية السعودية. 

أقول إن هذه الحقيقة، حقيقة أن كل الأطراف الرئيسية المتنازعة في المشرق هي أطراف إسلامية تستأهل منا الوقوف عندها. نعم، أراك أيها القارئ، تستنتج أن  كل فريق يستخدم الدين لأغراضه وأن هذا الصراع دليل على أن الإسلام السياسي ما هو إلا واجهة لأطماع جيو استراتيجية مختلفة وليس دعوة ودعوى أيديولوجية وأخلاقية، وأن الجميع يستغلونه لجذب الأنصار.  ولكن هل سألت نفسك يا أخي القارئ، لماذا يبدو الإسلام السياسي جذاباً للأنصار إلى هذا الحد، بحيث أصبحت كل القوى الكبيرة في الإقليم تحتاجه في سياساتها الداخلة والخارجية؟ أذا افترضنا جدلاً أنه وسيلة تسويق، فما سر نجاحها الذي دفع جميع الاضداد إلى انتهاجها؟

عندي أن الجواب هو فشل البديل. فشل الدولة العربية الحديثة التي أنشأها الاستعمار في بلادنا من أواخر القرن التاسع عشر، حتى نهاية الحرب العاملية الأولى.

إن الدول تقوم لتدافع عن شعوبها ضد الغزو الخارجي والجريمة الداخلية، وقد انهزمت هذه الدول أمام إسرائيل، وبطشت بشعوبها مستخدمة الإجرام الرسمي وغير الرسمي، فنفت بذلك شرعية وجودها على الجبهتين الداخلية والخارجية. وأنا هنا لا أتكلم عن الحكومات والرؤساء فحسب، بل الدولة نفسها، الحدود البيروقراطية، العلم، فكرة الوطن والوطنية نفسها، لم تعد جذابة من الناحية الأخلاقية. فالدستور والقانون اللذان عادة ما يكونان في الدولة القومية الطبيعية في أوروبا مثلا مصدراً للهوية ومعيارا للصواب والخطأ، لم يكونا كذلك عندنا قط. الدولة ودستورها وقانونها لم تكن من إنشائنا، بل أتانا بها غاز وفرضها علينا فرضا، فظلت هي وقانونها ودستورها شراً نضطر إليه مجبورين لا نختاره. 

ثم إن منطق الدول القومية الحديثة التي بنيت دولنا على مثالها، هي أن الاجتماع السياسي يكون على اساس العرق بدلا من الدين، ولكن دولة قومية للعرق العربي لم تقم. فإن لم يكن العرق أساس الاجتماع السياسي فهي المصلحة، ولكن هذه الدول لم تحقق مصالح أهلها قط، بل كانت، منذ أن كانت، منكشفة عسكريا وتابعة اقتصاديا وباب قمع في الداخل ومذلة في الخارج. ثم إن هذه الدول إنشئت كجزء من منظومة أنشأت إسرائيل أيضاً، فكان صعباً إقناع أهل المنطقة أن يكون لليهود دولة قائمة على انتمائهم ليهوديتهم، بينما لا يمكن أن يكون للمسلمين مثلها. إن التناقض القائم في المنطق الاستعماري جلي في منطقتنا لأنها معبر عنه بدول ومؤسسات لا بكلمات وخطب.

إن وجود إسرائيل قدح في شرعية الدول العربية كلها، من ناحية لأنه تحد لدعوى أصحاب الدول أنها وسائل تنظيم كفؤة، فهزيمة الجيوش النظامية جميعاً أمام إسرائيل في ستة أيام بينت ما هية كفاءة الدولة الحديثة، ومن ناحية أخرى لأنها تحد لمنطق مدنية الدولة وضرورة أن لا تؤسس على الدين.
وإن كانت حرب الأيام الستة، ومن قبلها نكبة عام ثمانية وأربعين، بدأت عملية هدم الدولة المدنية الوطنية العربية، فإن احتلال العراق عام ألفين وثلاثة أتمها، لقد أصبح واضحاً أن هذه الدول وجيوشها غير قادرة على شيء، وأن البديل هو العودة إلى هويات ما فوق الدولة أو ما تحتها، هو العودة إلى بن خلدون، إما العصبية القبلية أو العصبية الدينية. ولما كانت القبائل أقل أعداداً من أن تقوم بنفسها عسكريا واقتصادياً، فإن الانتماء إليها جاء ثانياً بينما جاء الانتماء إلى الدين أولاً كوسيلة للتنظيم السياسي تحل محل الدولة الحديثة.

وإنك ترى اليوم أن كل جيش نظامي لدولة عربية، تهزمه مليشيا دينية أو قبلية أو هو يستعين بميليشيا دينية أو قبلية. إن الاحتلال الأمريكي للعراق، ومن قبله حروب إسرائيل كلها، لم يدمر هذه الدولة أو تلك فحسب، بل دمر فكرة الدولة الحديثة والجيش النظامي كوسيليتين لإدارة السلم والحرب في منطقتنا أساساً. 

ولما كانت هذه الدول الحديثة هي من إنتاج الإستعمار أصلا لإدارة المنطقة منذ 1917، فإن الاستعمار، بتدميرها إنما دمر نفسه. صحيح إن الفرقة الواقعة بين الإسلاميين المختلفين اليوم تترك للاستعمار أن يعيد تقسيم المنطقة كما يشاء، ولكن لا حرب أهلية تستمر إلى الأبد، والصدام الديني المعتمد على الديمغرافيا لا بد وأن يهدد وجود إسرائيل في نهاية المطاف. إن كانت سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل هي إطالة أمد الحرب الطائفية الممتدة في المشرق، فإنما يفعلان ذلك لتأجيل مواجهة حتمية مع إسرائيل ستتلو تلك الحرب. لأن المنتصر في هذه الحرب الطائفية، سواء كان إيران أو التنظيمات الإسلامية السنية، لن يجد طريقا يوحد بها مجتمعات منقسمة إلا الصراع مع العدو الخارجي المجمع عليه: إسرائيل. وحتى إن لم يقرر الجانب العربي مواجهتها، فإن هي من ستواجهه، فإسرائيل لن تقبل بإيران أخرى معززة على البحر الأبيض والولايات المتحدة لن تقبل بأفغانستان أخرى على منابع النفط العراقية والسورية.

ختاماً، إننا نشهد نهاية حقبة كامل من تاريخ المنطقة، تشبه فترة الحرب العالمية الأولى وتناقضها معاً، وإسرائيل ستخسر في النهاية، ولكن يجدر بنا أن نجد صيغاً للهوية والتنظيم السياسي تجمع ولا تفرق، حتى لانخسر نحن أضعاف ما ستخسره إسرائيل قبل ذلك.