تقارير

تدمير معالم غزة التاريخية يستهدف الوجود والمورث الثقافي الفلسطيني

عمدت الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى تدمير معظم المواقع والمعالم الأثرية في قطاع غزة والمنشآت التراثية الإسلامية والمسيحية على السواء.. الأناضول
يُعتبر تدمير الاحتلال الإسرائيلي لمعظم المعالم والمواقع الأثرية والتاريخية في قطاع غزة خلال حرب الإبادة عليه المستمرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر؛ استهدافا واضحا للوجود والمورث الثقافي الفلسطيني وذلك ضمن مخطط إسرائيلي قديم جديد للقضاء على كل ما يمت لتاريخ الشعب الفلسطيني على هذه الأرض.

وعمدت الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى تدمير معظم المواقع والمعالم الأثرية في قطاع غزة والمنشآت التراثية الإسلامية والمسيحية على السواء بما فيها المكتبات التاريخية، لا سيما المسجد العمري "الكبير" وسط مدينة غزة والذي يعود تاريخه إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام قصر الباشا، وحمام السمرة، وسوق القيسارية، وغيرهم من المواقع إضافة إلى فندق المتحف الذي يضم مئات من القطع الأثرية التي يعود تاريخها إلى آلاف السينين.

واعتبر الدكتور ضرغام الفارس، مدير مواقع الشمال في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية أن هذا التدمير الممنهج للمعالم الأثرية في غزة جزء لا يتجزأ من استهداف الوجود الفلسطيني وثقاته وتراثه على أرضه.


                   ضرغام الفارس مدير مواقع الشمال في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية

وقال الفارس لـ "عربي21": "الآثار هي الشاهد المادي الملموس على الحق والوجود التاريخي الفلسطيني على أرض فلسطين منذ العصور الحجرية إلى يومنا هذا، وتدميرها في غزة بهذه الطريقة الهمجية والممنهجة هي محاولة يائسة من الاحتلال لإعدام هذا الشاهد على حق الشعب الفلسطيني في أرضه ونسفا لكل روايات الاحتلال التوراتية الكاذبة".

وأضاف: "ما شهدناه من تدمير لهذه المعالم بالتزامن مع تصريحات قادة الاحتلال مجردة من كل القيم الإنسانية والأخلاقية هي في الحقيقة منسجمة تماما مع الأيديولوجية الصهيونية ومع الأهداف التي وضعها كيان الاحتلال منذ تأسيسه كدولة عام 1948م".

ووصف الفارس الكيان الإسرائيلي بأنه احتلال إحلالي يهدف إلى "تفريغ أرض فلسطين من السكان الأصليين، أي من الشعب الفلسطيني، وتأسيس دولة على كامل الأراضي الفلسطينية لا تضم إلا اليهود فقط، ويتحقق ذلك بالتدريج من خلال القتل والتهجير بالآلاف أثناء الحروب، وبالعشرات والمئات خلال فترات الهدوء من خلال التضييق على الفلسطينيين وقتل المقاومين منهم".

وربط الباحث الفلسطيني في آثار وتاريخ فلسطين بين الحرب على غزة وتصريحات اليمين الصهيوني المتطرف بدءًا من بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال الذي اعتبر أوسلو اتفاقية منتهية، ورفض أي حكم فلسطيني في قطاع غزة، والعديد من النصوص التوراتية من أسفار الخروج والتي من أهمها قول الرب لموسى "لاَ أَطْرُدُهُمْ مِنْ أَمَامِكَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، لِئَلاَّ تَصِيرَ الأَرْضُ خَرِبَةً، فَتَكْثُرَ عَلَيْكَ وُحُوشُ الْبَرِّيَّةِ. قَلِيلاً قَلِيلاً أَطْرُدُهُمْ مِنْ أَمَامِكَ إِلَى أَنْ تُثْمِرَ وَتَمْلِكَ الأَرْضَ" (الخروج: 23: 29، 30).

وقال الفارس: "بناء على هذه النصوص التوراتية وهذه التصريحات العنصرية نجد أن لدى الاحتلال أهدافا أخرى غير تلك المعلنة، وقد أبقاها سرية لأنها تتنافى مع كل القيم الإنسانية والأخلاقية ولا يمكن قبولها عالميًا (على الأقل في العلن) لأنها تعتبر جرائم حرب، ولهذا لم يستطع الاحتلال إعلانها وإنما بذل قصارى جهده لتنفيذ ما يمكن منها بشكل صامت".

وأضاف: "إن هذه الأهداف غير المعلنة للاحتلال تتمثل في قتل أكبر قدر ممكن من سكان قطاع غزة بما فيهم النساء والأطفال وذلك من خلال القصف ومن خلال استهداف المستشفيات، ودفع سكان قطاع غزة إلى الهجرة من خلال التجويع والتهديد والإرهاب، تدمير الآثار التي تشهد على الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في فلسطين وأهمها المساجد والكنائس التاريخية".

وشدد على أنه رغم هذا التغول للاحتلال إلا أن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته وامتداد المقاومة إلى لبنان واليمن والعراق وأيضا صحوة الرأي العام العالمي، لجم هذا الجنون والعنصرية إلى حد كبير، ومشيرا إلى أن الاحتلال تراجع مؤخرا عن بعض أهدافه أمام المقاومة والصمود الفلسطيني وخفض سقف أهدافه المعلنة المتعلقة بالتهجير وإعادة احتلاله لقطاع غزة.

وقال الفارس: "لكي تبقى المعركة مستمرة بوتيرة متغيرة وبأدوات ووسائل متغيرة، يجب مواجهة الروايات والأكاذيب الصهيونية بالحقائق التاريخية المستندة إلى الشواهد الأثرية والتي تفيد بأن كل ما شهدته فلسطين القديمة من حضارات منذ العصور الحجرية إلى يومنا هذا هو نتاج التطور المحلي للسكان الأصلين الذين اختلطوا بعدة شعوب وتأثروا بعدة حضارات، وبالتالي فإن كل ما على أرض فلسطين من موروث ثقافي سواءً كان ملموسًا أو غير ملموس هو ملك للشعب الفلسطيني".

وتطرق الخبير الفلسطيني إلى التمييز ما بين الحركة الصهيونية والديانة اليهودية، وبالتالي التمييز ما بين السكان الأصليين الذين اعتنقوا الديانات الوثنية ثم السماوية بما فيها اليهودية وبين الهجرات اليهودية التي نظمتها الحركة الصهيونية لليهود من مختلِف أنحاء العالم مع إختلاق رابط عرقي زائف يربطهم بفلسطين عرقيًا زورا وبهتانا.

 وقال: "الشعب الفلسطيني على مر العصور هو الشعب الوثني الذي اعتنق الديانة اليهودية والموسوية ـ السامريين ـ ثم المسيحية والإسلام، أما اليهود الذين جلبتهم الحركة الصهيونية من مختلف أنحاء العالم، فلا يربطهم بفلسطين أي رابط عرقي أو تاريخي، وإنما هو رابط ديني فقط، لأن الديانة اليهودية انتشرت في فلسطين وخارجها دون ضوابط عرقية".

وأضاف الفارس: "من الأمثلة التي تؤكد ذلك اعتناق الديانة اليهودية من طرف مملكتي حِمْيَر والخزر".

ومن جهته أكد ممثل فلسطين في اتحاد المؤرخين العرب، المؤرخ حسام أبو النصر أن عشرات المواقع الأثرية تم استهدافها خلال هذه الحرب على غزة بشكل غير مسبوق وأن بعضها لا يمكن ترميمها بحال من الأحوال.


                          حسام أبو النصر.. ممثل فلسطين في اتحاد المؤرخين العرب

وكشف أبو النصر في حديثه لـ "عربي21" أن أكثر من 200 موقع أثري تضرر خلال الحرب منها 100 موقع أثري غير قابلة للترميم، و100 موقع آخر دمرت جزئيا، إضافة إلى تدمير الأرشيف المركزي لبلدية غزة التاريخي.

وقال: "ما لم تفقده غزة من آلة الحرب والعدوان من كتب، استعمل حطبا ضد برد الشتاء بعد تهجير الناس في العراء، فيما تحولت حجارة التاريخ إلى رمل، إضافة إالى حرق مخطوطات غزة وكتبها الحجرية".

وأضاف: "عدد الوثائق والارشيف الذي فقد في غزة يعادل 100 ضعف أرشيف الذي فقد في مركز الأبحاث بيروت".

وشدد أبو النصر على أن كافة متاحف غزة تضررت جزئيا وكليا بما فيها من مقتنيات أثرية من الكنعانيين حتى الانتداب البريطاني.

وأشار المؤرخ الفلسطيني إلى استشهاد أكثر من 10 من العاملين في مجال التاريخ، منوها إلى أن أغلب المؤسسات العاملة في مجال التاريخ والتوثيق قصفت أو تضررت.

وكشف ممثل فلسطين في اتحاد المؤرخين العرب أنهم وجهوا منذ بدء أيام الحرب رسائل للجهات المعنية والدولية وعلى رأسها منظمة "اليونسكو" ضرورة التدخل لإنقاذ ما يمكن انقاذه دون جدوى.

واستعرض تاريخ سريع لبعض المواقع المدمرة مثل: الجامع العمري في بلدة جباليا شمال قطاع غزة، وهو على طراز مملوكي لكن يرجح أن يكون تأسيسه في عام 15 هجرية، وقد تعرض المسجد الأثري للتدمير الكلي يوم 19 أكتوبر 2023.

وقال: "أما جامع بيت سليم أبو مسلم في بيت لاهيا شمال القطاع، وفيها مقامه، والذي يعود تاريخ لنحو 6 قرون، فقد تعرض للتدمير الكلي ولا يمكن ترميمه".

وأضاف: "كما أنها تعرض جامع الشيخ سعد في بيت لاهيا كذلك، وفيه مقامه، الذي يعود إلى 5 قرون مضت لتدمير جزئي ويمكن ترميمه، فيما تعرض جامع كاتب الولاية غزة، والذي تم إنشاؤه على طراز مملوكي عثماني، لتدمير جزئي في 17 أكتوبر ويمكن ترميمه".

وتابع: "لم تسلم الكنائس الأثرية، من تعديات الاحتلال الإسرائيلي والتي لم يكن حظها أفضل من المساجد، حيث تعرضت كنيسة القديس بروفيرويس التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 406 ميلادية، وهي أقدم كنيسة في غزة، لتدمير كلي لمبنى مجلس وكلاء الكنيسة، وأضرار جسيمة لكنيسة الصلوات الرئيسية، وكذلك استشهاد أكثر من 20 فلسطينيا في 19 أكتوبر من العائلات المسيحية والمسلمين الذين لجأوا لها هرباً من القصف الإسرائيلي".

وأوضح أن كنيسة العائلة المقدسة للاتين، والتي أنشئت في عام 1869م تم استهدافها بالقصف، مشيرا إلى أنها تعد الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة، مؤكدا أن تدميراً جزئياً لحق بهات بسبب قصف غير مباشر أدى لتشققات في الجدران والنوافذ، والتي لجأ لها أهل الرعية خلال العدوان.

وأشار إلى أن المستشفى الأهلي العربي "المعمداني" في مدينة غزة، ويضم الكنيسة المعمدانية تم قصفه ما أدى لسقوط مئات الشهداء والجرحى، وإلى دمار كبير في المباني الرئيسية والملحقة.

وقال أبو النصر: "تم استهداف دائرة الآثار والمخطوطات التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بشكل كامل عبر قصف مباشر من طائرات الاحتلال لمسجد العباس، والذي يضم مكتبة العباس التاريخية، وتضم كتباً حجرية وبعض المخطوطات التاريخية التي أحرقت بالكامل، وغير قابلة للترميم".

وأضاف: "إلى جانب مواقع أثرية أخرى تضررت بشكل غير مباشر بأضرار جزئية وما زالت مهددة؛ منها مقبرة الإنجليز 1904، ومبنى بلدية غزة 1893، وحمام السمرة والذي تأس قبل 9 قرون، وقصر الباشا الذي يعود تاريخه إلى العصر المملوكي وتحديداً عام 1260م، ومسجد السيد هاشم ويضم قبر جد الرسول هاشم بن عبد مناف، وبني في العهد المملوكي، ومواقع أخرى لا تزال مهددة".

وأشار إلى تدمير متحف العقاد والذي تم تأسيسه قبل 45 عاماً ويضم أكثر من 3200 قطعة أثرية.

وقال أبو النصر: "تعرض المتحف الفلسطيني لأضرار جسيمة خلال استهدافات غير مباشرة في محيطه مما أدت إلى تدمير خزانة أثرية كاملة تضم عشرات القطع تعود للعصر اليوناني والروماني والبيزنطي وأضرار جسيمة جراء الاستهدافات، كذلك متحف التراث الفلسطيني الذي أسسه مروان شهوان منذ أكثر من 30 عاماً في مدينة خان يونس، ويضم أكثر من 10000 قطعة أثرية وتاريخية متفاوتة العصور وأغلبها ذات طابع تراثي".

وأضاف: "أما متحف خانيونس، والذي أنشئ حديثاً ليوضع فيه المكتشفات الأثرية التي يتم الكشف عنها خلال عمليات التنقيب، فقد تم تدمير أجزاء منه خلال غارات عنيفة على خانيونس ما أدى إلى تهشم عشرات القطع الأثرية منها فخارية فيما جزء منها غير قابل للترميم".

وأضاف المؤرخ الفلسطيني: "كما أنه تم تدمير متحف الخضري والذي أسسه رجل الأعمال جودت الخضري، حيث عمل على جمع الآثار وحفظها منذ 45 عاماً، حتى قرر بناء هذا المتحف المطل على البحر ويضم آلاف القطع الأثرية الفريدة، منها ما يعود إلى الكنعاني والإغريقي، وقد تعرض المتحف لأضرار جسيمة منذ اندلاع الحرب، وجراء قصف مسجد الخالدي الذي يقابله شمال غزة".

وأوضح أن قلعة برقوق، "خان الأمير يونس"، والتي بناها الأمير يونس في عام 1387م وسط خانيونس، تعرضت لتشققات وتصدعات خطيرة إثر قصف مبنى بلدية خانيونس التاريخي الذي يعود تاريخه إلى عام 1917م.

وأكدت نريمان خلة، الباحثة في الآثار والتاريخ على أن ما تعرضت له المعالم والمواقع الأثرية في غزة من دمار هو خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني صعب تعوضيها.


                                               نريمان خلة.. باحثة في التاريخ والآثار

وقالت خلة لـ"عربي21": "التدمير الممنهج للآثار ليس حديثا فهو مستمر على مدار الساعة في الضفة الغربية المحتلة والاقتحامات المستمرة لبلدة سبسطية التاريخية وغيرها من المواقع".

وأضافت: "ما عجز الاحتلال عن سرقته من آثار غزة خلال احتلاله لها قبل 30 عاما يقوم الآن بتدميره على مرأى ومسمع العالم دون أن يحرك أحد ساكنا".

وتابعت: "حينما تم تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان قبل سنوات قامت الدنيا ولم تقعد ولكن تدمير آثار فلسطين لم نسمع أحد يرفع صوته".

وأوضحت خلة أن وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق موشي ديان نفذ في سبعينيات القرن الماضي حملة سرقة ممنهجة لآثار قطاع غزة، كاشفة أنه كان ينقلها جوا إلى دولة الاحتلال حيث تعرض في متحف في تل أبيب الآن على أنها آثار يهودية.

واعتبرت خلة أن الاعتداء على الآثار وتدميرها انتهاك صارخ لاتفاقية لاهاي لعام 1954م وهي اتفاقية لحماية الممتلكات الثقافية في حالة الحرب وهي أول اتفاق دولي شامل لحماية الممتلكات الثقافية في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.

وطلبت السلطة الفلسطينية أن تشمل الدعوة في محكمة الجنايات الدولية هذه الانتهاكات وتجهيز ملف كامل لها تبدأ الآن من خلال حصر الأضرار لهذه المعالم، وهي كثيرة وصعب تعويضها وبعضها لا يمكن ترميمه.