آراء ثقافية

"إذاعة القرآن الكريم من القاهرة": عن روحانيتنا المُهددة بالإعلانات ووزير الأوقاف

يثير موضوع الإعلانات خلال فترة بث الإذاعة العديد من الجدل
حين أسسها الرئيس جمال عبد الناصر كان "مانيفستو" إذاعة القرآن الكريم واضحًا أنها تأسست لحفظ القرآن الكريم من التحريف حيث كان قد انتشر آنذاك مصحف وُزع على نطاق واسع كُتبت فيه آية من سورة آل عمران: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" مع حذف كلمة "غير" والتي تعطي الجملة عكس معناها.

وعلى مر سنوات تأسيسها منذ العام 1965 أخذت ساعات إرسال الإذاعة اليومي تتسع من 14 ساعة لـ 24 ساعة على مدار اليوم كما هي الآن، وإلى جانب ذلك أخذت برامجها تتسع لتشمل بالإضافة لفقرات القرآن المرتل والمجود لعمالقة التلاوة المصريين، برامج خاصة بتفسير القرآن وخاصة بالأحاديث والسنة النبوية، لتُصبح إذاعة القرآن الكريم كما تُدرس حتى الآن في مناهج كلية الإعلام بجامعة القاهرة إذاعة "خدمية" أي أنها تقدم خدمات في تلك الحالة "دينية" لجمهورها من المستعمين، وليست إذاعة "تجارية" تبتغي الربح وتعطي من وقت بثها دقائق لبث الإعلانات التجارية، وهي الآفة التي ضربت الإذاعة منذ العام 2014 في مفارقة مع نفس التي اعتلى فيها الرئيس السيسي حكم مصر، ولتصبح للإذاعة في عهد السيسي حالة جديدة تثير نفور مستمعيها سنناقشها في مقالتنا الآتية.

"الطريق إلى التوعوية والتسول"
تحتفظ "إذاعة القرآن الكريم" بالعديد من السمات التقليدية والمحافظة منذ تأسيسها، فعندما تستمع إلى برنامجها اليومي الذي يبدأ في السابعة صباحًا من كل يوم بجملة "إذاعة القرآن الكريم من القاهرة" يعقبها تلاوة ثابتة للشيخ "محمد رفعت" تشعر وكأنك قد دخلت إلى حقبة أخرى، ويعزز ذلك الشعور "شارات" البرامج التي لم تتغير منذ إذاعتها للمرة الأولى منذ أكثر من خمسين سنة. وتتميز بخاصية لا تتوفر لغيرها من الإذاعات العربية وهي نسبة الاستماع التي تتصاعد أو تحافظ على نسبة 92% على مدار العشرة سنوات الماضية في أكثر من إحصاء. تلك الخاصية جعلت من إذاعة القرآن الكريم مطمعًا للمُعلنين في زمن لا تتراجع فيه شعبية الإذاعة برغم تراجع ثقافة الاستماع إلى الراديو، وكان لذلك المطلب أن يصطدم مع رونق الإذاعة "الروحاني" ومع دورها "الخدمي" الديني وليس التجاري وهو ما سبب الأزمة في العام 2014م حين تلقى رئيس الإذاعة عبد الرحمن رشاد طلبًا من القطاع الاقتصادي باتحاد الإذاعة والتلفزيون بإدخال الإعلانات إلى القناة وما ستجلبه على القناة من عوائد جيدة، رغم أن القناة لا تعاني من أزمة تمويل من الأساس -حتى لحظة كتابة هذه السطور- وقد وافق بعد أن وضع مجموعة من ضوابط تتحكم في تلك العملية التي ستقتصر على إعلانات لشركات "الحج والعمرة" فقط مع قصر وقت الإعلان ورصانة مضمون كلماته.

وحين بدأت الإذاعة في بث تلك الإعلانات والاقتطاع من الوقت الديني للقناة أثيرت احتجاجات استجابت لها وزيرة الإعلام آنذاك درية شرف الدين بقرار إيقاف الإعلانات على الإذاعة واحترام قدسيتها.

في العام 2017م ومع بدء الشراكة بين "إعلام المصريين" المخابراتية والتي ستتحول فيما بعد إلى "المتحدة للخدمات الإعلامية" لتسيطر على منافذ الإعلام في مصر كلها و"الهيئة الوطنية للإعلام-ماسبيرو" قرر "ماسبيرو" حسين زين رئيس، الذي اتهم في قضية فساد آنذاك حين كان يدير القطاع الرياضي للإذاعة، أن يعيد الإعلانات للإذاعة من جديد مع تحديد الضوابط لتلك العملية وهي اقتصارها على إعلانات شركات "الحج والعمرة" والإعلانات الإرشادية الحكومية، أي الجمع بين التسويق التجاري من أجل التربح والتسويق الاجتماعي من أجل نشر الأجندات والتوجيهات الرئاسية في قضايا مثل "تحديد النسل" و"ختان الإناث" وكثيرًا ما تتنوع تلك الحملات وآخرها حملة ضد "الهجرة غير الشرعية" تأتي دومًا بصوت  مفتي الجمهورية السابق علي جمعة، وفيها يتكلم بلكنة عامية بسيطة "فلاحية" للتأثير على تلك الطبقة التي تطمح بالهجرة إلى أي أرض من أراضي الله الواسعة لتوفير حياة كريمة لهم ولأسرهم.

ولكن، سرعان ما تفسخت تلك الضوابط بتوالي السنين لتشمل إعلانات التسول الخاصة بالتبرعات والجمعيات الخيرية وإعلانات لشركات التأمين مثل تأمين السكك الحديدية والذي يُعرض كأكثر الأشياء نشازًا في الإذاعة، فبينما يمكن التحجج والتعذر بتصور سياق يربط بين الإعلانات والحملات الإعلامية في إطار تجديد الخطاب الديني، يأتي ذلك الإعلان الاقتصادي البحت عن التأمين غريبًا ولا يمكن تبريره حتى. وبعد أن كان مقررًا أن تكون الإعلانات قصيرة الوقت وقليلة الكلمات، أصبحت تستحوذ على 20 دقيقة كاملة من فترة البث الصباحي فقط تدر 25 مليون جنيهًا.

يثير موضوع الإعلانات خلال فترة بث الإذاعة العديد من الجدل، حتى أن رئيس الإذاعة رضا عبد السلام اعتذر في حصاد برامج الإذاعة خلال شهر رمضان عن ذلك الموضوع قائلًا: "ليس بيدنا"، وقد تنبه نواب في البرلمان إلى تلك المشكلة وقُدم طلب إحاطة لرئيس الوزراء ووزير الأوقاف محمد مختار جمعة بشأن أزمة الإعلانات على الإذاعة وما تسببه في تراجع شعبية الإذاعة وتأثيرها على المستمع وانتهاك لقدسيتها وقدسية محتواها، ولكن هذا الطلب لم يبُت فيه أو يلقى اهتمامًا على كل حال، ولكن، وإن كان البرلمان قد تجرأ على تقديم مثل هذا الطلب ليغيث المستمع من الإعلانات، فمن يغيث المستمع من صوت الشيخ مختار جمعة؟

"مختار جمعة"
شيء آخر وربما أهم قد ضرب إذاعة القرآن الكريم وهو صوت وزير الأوقاف الشيخ محمد مختار جمعة وبرامجه العديدة وفقراته التي لا تنتهي من التلفاز إلى الراديو، فهو صوت "تجديد الخطاب الديني" الرسمي من الدولة، وهو الوزير الوحيد الذي لم يتغير من منصبه منذ عشرة سنوات في وزارة الرئيس المؤقت عدلي منصور وحتى الآن.

تثير شخصية جمعة الكثير من السخرية التي لا تليق مع كونه صورة رسمية لرجل الدين الممُثل للدولة، بسبب العديد من الزلات التي يقع فيها أثناء خطبة الجمعة صوتًا وصورة على التلفاز وصوتًا على الإذاعة.

ولكن افتقاده للسمات الشخصية مجرد أزمات فرعية للأزمة التي يثيرها جمعة ببرامجه في تجديد الخطاب الديني التي تُبث في الإذاعة منذ أكثر من أربع سنوات في العديد من الأسماء مثل "خاطرة دعوية\ في رحاب القرآن الكريم".

تعاقد جمعة على تقديم برنامجه للمرة الأولى في عهد رئاسة محمد نوار للإذاعة عام 2019، وربما كانت رئاسة نوار نفسه للإذاعة أحد أكثر الأشياء المثيرة للسخرية، فهو الشخص الذي يدير إذاعات الأغاني الآن، كما أن تاريخه المهني منذ أن بدأ في "صوت العرب" كان عبارة عن تقديم برامج خاصة بوزارة الداخلية المصرية، أي أن رئاسة إذاعة القرآن الكريم قد أسُندت شخص من خارجها من الأساس.

أواظب على الاستماع لإذاعة القرآن باستمرار، بل وأكثر ما أصبح يشد انتباهي هو برنامج "خاطرة دعوية" للشيخ جمعة من أجل سماع ما سيحويه من مزاعم تجديد الخطاب الديني، ولكن أكثر ما يثير السخرية أن الشطط قد وصل بتجديد الخطاب الديني المزعوم لأن يُخصص الشيخ مختار جمعة أحد حلقات برنامجه للحديث عن فضل "مصر القديمة" على الطب والكتابة في العالم كله، وبغض النظر عن تفصيل هذا الكلام ومحله من التاريخ، فبالتأكيد مكان تلك المناقشة تتسع له برامج "البرنامج العام" وغيرها من القنوات المنوعة والثقافية، ولكنك تجد العجب العجاب بينما تستمع لكلمات الشيخ جمعة حتى أنك تشعر أنها خواطر دعوية بالفعل ولكن من أجل إحياء اليمين القومي الفرعوني، والمثير للسخرية أن تلك الحلقة قد أذيعت في وقت الزخم حول "موكب المومياوات" الكبير الذي جرى تنظيمه منذ عامين.

أيضًا، يظن الشيخ جمعة أن تجديد الخطاب الديني يتمثل في الحديث للناس عن كيف قاوم الناس في عهد الرسول غلاء الأسعار بالزهد تارة والصبر تارة، في الوقت الذي كثر فيه الحديث عن غلاء الأسعار في استفزاز فج لجمهور المستمعين للإذاعة من البسطاء ومحدودي الدخل بالتحديد من أصحاب المحلات وسائقي الميكروباصات وعربيات الأجُرة.

وبغض النظر عن مضمون محتوى الحلقات التي لا يهتم المستمعون لها كثيرًا لأنها  فُرضت عليهم فرضًا، عكس برنامج الشيخ الشعراوي الذي لا يزال يُذاع يوميًا في الإذاعة ويهتم الناس بالاستماع إليه، وبرنامج "حديث الإمام" في شهر رمضان لشيخ الأزهر، يصبح الاستماع إلى حلقة من برنامج "خاطرة دعوية" ممتلئة بحرف "الراء" بمثابة كارثة في حق اللغة العربية، مثل تلك "الحلقة" عن العمل. وليست السخرية من لثغة الرجل هي المراد، ولكن المُستغرب فقط هو إصراره على الظهور رغم أنه وعد بإعطاء الفرصة للمذيعين الشباب في غير مرة مما يفرض علينا أن نطرح سؤالا: لماذا لا يعطيهم الشيخ جمعة دقيقة من برامجه اللانهائية تلفازًا وراديو.

وتحت ذلك الغزو التجاري للإذاعة، وتمرير خطاب وأجندة الدولة البعيد عن الدين، وتدني قيمة الإلقاء وقيمة الخطيب والمذيع الأساسي للإذاعة الذي يُسمع على مدار أربعة مرات في اليوم في مُدد وفقرات مختلفة، أصبحت الحالة الروحانية التي تبثها الإذاعة في نفس كل مستمع هشة ومعرضة للسقوط تحت ذلك الهجوم الجارف للاستهلاك والرداءة معًا دون رحمة ودون مُغيث.