آراء ثقافية

نظرتان في فيلم (الوداع يا بونابرت): في ذكرى يوسف شاهين والحملة الفرنسية

الفيلم من تأليف وإخراج يوسف شاهين وإنتاج مصري فرنسي مشترك- أرشيفية
في تقديري أنّه لم يكن مطلوبًا من الراحل يوسف شاهين أن يأتيَنا في فلمِه المُنتَج عام 1985 بشاهدٍ تاريخيٍّ على أنّ هتافاتٍ "وطنيّةً" - بالمعنى الذي كرَّسَه تنامي الوعي الوطني المصري في القرن التاسع عشر وما تلاه – كهذا الهتاف كانت ضِمنَ هُتافات الخارِجين على الحُكم الفرنسيّ في ثورتَي القاهرة الأولى والثانية في أكتوبر 1798 ومارس 1800. 

هذا الهُتاف الذي يتفتّق عنه ذِهن علي (الذي قام بدَوره محسن محيي الدين) فيلقّنُه أخاه الأصغر يحيى (محمد عاطف) يكاد يغطّي على ما يتردد في ثنايا الفِلم على لسان أخيهما الأكبر (بكر) - الذي جسَّدَه أحمد عبد العزيز – وأصدقائه من الأزهريين، مِن أنّ الجنود الفرنسيين كُفّار، ومِن ثَمّ فإنّ مقاومتَهم تدخَلُ في باب الجِهاد.

والحَقُّ أنّ يوسف شاهين لم يتجاهل العاطفة الدينيةَ بوَصفِها دافعًا مهمًّا وراءَ جِهادِ المصريين الحملةَ الفرنسيةَ، ولا ينبغي أن ننسى المَشهد الذي يَخترقُ فيه (بكر/ أحمد عبد العزيز) صفوفَ المتمايلين على الإنشاد الدينيّ ومعركةُ الأهرام – بين الفرنسيين والمماليك - على وشك الابتداء، إذ يصرخ فيهم بَكرٌ مذكِّرًا إياهم بأنّ المسلمين الأوائل لم يكونوا يحاربون بالدروَشَة والتمايُل طَرَبًا وإنما بالسيف، وبه كانوا ينتصرون. بَيدَ أنّ مَشهد "مصر حتفضل غالية عليّا" يَبقى هو المَشهد الأيقونة الذي لا ينساه مَن شاهدوا الفِلم.



 وذلك أنه يتصادى ورَاهِنَ الخِطاب الوطنيّ المهيمِن في مصر، إذ يتراجع فيه الباعثُ الدينيُّ خطوةً إلى الوراء مفسِحًا الصدارةَ لخِطاب التاريخ العريق وضرورة العَيش المشترَك، كما يتجاوب هذا المَشهد مع تفاصيلَ زرعَها شاهين في فِلمِه، أهمُّها (فلتاؤوس) القِبطيّ الذي يقِف بين الثُّوّار رفيقًا لهم في جِهادِهم - وقد جسّده (فريد محمود) – وأخته (ناهد/ داليا يونس). 

هذا مع ملاحظة أنّ مِثلَ هذه التفاصيل لا تبدو متّسِقةً مع المَرويّات التاريخية عن أحداث ثورتَي القاهرة، فها هو ذا موقع (الأقباط متّحِدون) يقول عن ثورة القاهرة الثانية: "اشتبك الثوار مع طوائف الأقليات في معارك راح ضحيتها عديدون من نصارى القبط والشوام وغيرهم، وتحصن الفرنسيون بمعسكرهم بالأزبكية"، وهو ما يردده موقع ويكيبيديا العربي وغيرُه، أي أنّ جِهادَ المحتلّ الفرنسيّ آنذاك لا يمثّل فردوسَ الوحدة الوطنية كما كرَّسَها الخِطابُ المصريُّ الرسميُّ ابتداءً من ثورة عام 1919. 

لكنّي أعود إلى ما بدأتُ به هذا المقالَ لأكرِّر أنّ شاهين لم يكن مضطرًّا إلى الإتيان بشواهد تاريخيّةٍ على ما أحَبَّ أن يُثبتَه، وذلك انطلاقًا من حريتِه الإبداعية التي كان معتزًّا بها أيّما اعتزاز، تلك الحريةِ التي جعلَته يتناول في فِلمِه اللاحق (المُهاجِر) سيرةَ نبي الله يوسف دون أن تتوافَق الأحداثُ تمامًا مع الحكاية القرآنية، وكذلك في فِلمِه (المصير) الذي خلقَ فيه أحداثًا وشخصيّاتٍ من خيالِه لتُحيطَ بالفيلسوف الإسلامي أبي الوليد ابن رُشدٍ في الأندلس. 

والشاهد أنّ لسانَ حال مُخرجِنا كان ينطِق بأنّ لصانع الأفلام سُلطةً لا تُنازَع في خَلق تاريخٍ بديلٍ، يكرّسُ مِن خلالِه أفكارَه وما يراه جديرًا بأن يكون الحقيقة، وأن يُسقِط من وقائع التاريخ ما لا يتوافَق مع ما يراه جديرًا بالإثبات. 

ففي (الوداع يا بونابرت) مثَلًا نرى جميل راتب في دور (فَرط الرمّان) – وهو الاسم الذي أطلقَه المصريون على اليوناني بارتلِمي خادم المملوك محمد بك الألفي، سخريةً منه – ذلك الشخص غير المحدَّد الهُويّة، المجنون بالتعذيب والإحراق وإهانة المصريين تزلُّفًا لسادتِه الفرنسيين، ولا نكاد نَلمح في ثنايا الفِلم أية إشارةٍ إلى هويّتِه العِرقية، كأنّ شاهين قد أراد أن يسلّط الضوء على هذا النموذج الوحشيّ من البشَر دون التفاتٍ إلى أصلِه، فقد يكونُ مملوكيًّا أو مصريًّا أو غير ذلك، لا يهم. 

كما أنه قد أسقطَ تمامًا تلك المناوَشات بين المسلمين والمسيحيين في سياق جِهاد الفرنسيين، ولم يُلمِح مِن قريبٍ أو بعيدٍ إلى شخصيّة المعلّم يعقوب، ذلك العسكريّ القبطيّ الذي رقّاه الفرنسيون إلى رتبة جنرال واعتمدوا عليه في إحكام قبضتِهم على الصعيد، والذي مازالَ إلى الآن شخصيةً جدَليةً مهمّةً، فالبعضُ يراهُ خائنًا باعَ وطنَه للمحتلّ، والبعضُ يراه وطنيًّا مخلِصًا حالمًا باستقلال بلادِه عن الدولة العثمانية وتخليصِها من حُكم المماليك، ومن الفريق الأخير مؤرّخٌ كبيرٌ هو (محمد شفيق غربال) في كتابِه "الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس".

هذا إلى أنّه يبدو أنّ هَمّ الوحدة الوطنية قد سيطرَ فترةً كبيرةً على ذهن شاهين، فكما نرى هنا (فلتاؤوس)، نرى في فِلم (الناصر صلاح الدين) شخصية (عيسى العوّام) التي جسّدَها صلاح ذو الفقار.

والمعروف تاريخيًّا أن هذا العوّامَ كان غوّاصًا مسلمًا قاتلَ إلى جوار صلاح الدين الأيوبي، وقد أوردَ أخبارَه القاضي أبو المحاسنِ بهاءُ الدين بنُ شدّادٍ في كتابِه (النوادر السُّلطانية والمحاسن اليوسُفيّة) وأبو شامةَ المَقدِسيُّ في (كِتاب الروضتَين في أخبار الدولتَين النُّوريّة والصلاحيّة).

لكنّ شاهينَ قد صادرَ هذه الشخصيّةَ وتصرَّفَ في هويّتِها الدينية، فجعلَ عيسى العوّام مسيحيًّا ليَخدُمَ فكرةَ الوَحدة الوطنية والانتماءَ القوميّ بوَصفِه متعاليًا على الانتماءات العَقَديّةِ مِن وجهة نظرِه.

وأرى أنه من الظُّلم أن يُحاكَم عملٌ فنّيٌّ بمقاييسِ الموثوقيّة التاريخيةِ وإن اغترفَ مادّتَه وموضوعَه من التاريخ، فالأولويّة في الفنّ لمَعاييرَ أخرى مُنبَتّة الصِّلة بتلك الموثوقية. كما أننا نجانبُ الصوابَ إذا اعتمدنا في معلوماتِنا التاريخيةِ على أفلام السينما أو غيرِها من أعمال الفنّ، فما إلى هذا أصلًا يَرمي الفنانُ المُخلِصُ لفنِّه!

كافارِلِّي ونابليون وحديثُ المِثلية:

لا ينبغي أن يفوتَنا أنّ عنوانَ الفِلم يُتلفَّظ به مرّةً واحدةً فحَسبُ خلالَ الحِوار، وذلك في المشهد الذي يبدأ في الدقيقة 29 بعد الساعة الأولى، ويدور في غرفة الجنرال كافارِلّي (ذي الساق الخشبية) بين الجنرال الذي جسَّده الممثّل الفرنسي ميشيل بيكولي Michel Piccoli وعلي، تحديدًا بعد مشهد الحمّام الذي يُصارحُ فيه كافارلّي رفيقًا له من رِجال الحَملة بأنه لن ينسى الشابّ (يحيى) أبدًا، وأنّ لأخيه (علي) نظرةَ يحيى نفسَها التي أسَرَته، فيردّ عليه الرفيق بأنّ الشابَّين يحيى وعليًّا يبحثان عن أبٍ، وأنه قدَّم لهما حبًّا متسلِّطًا، وعليه أن يحبَّهما إلى درجةٍ أقلّ، فإنّ ذلك سيكونُ أفضلَ لهما.

المهمّ أنّ المَشهد المُرادَ يقدِّم لنا حوارًا يحاولُ فيه كافارِلّي إقناعَ عليٍّ بأن يرضخَ لمحاولاتِه الاقترابَ منه، فيستنكِر عليٌّ هذه المحاولات، ويتصاعد التوتُّر بينهما فيَرمي عليٌّ صديقَه الجنرالَ بأنه مِثلُ باقي الفرنسيين، بدأ باغتصاب الوطن والأرض ثمّ بُيوت الناس، وها هو ذا ينتهي باغتصاب الأخوَين! وينتهي المشهدُ بقطيعةٍ وشيكةٍ بينهما، إذ يوحِّد عليٌّ بين كافارِلّي – الوَجه الثقافيّ للحملة الفرنسية – ونابليون، وجهِها العسكريّ الذي لا يتورّع عن استخدام القوّة المُفرِطة في سَحق مَن يعترضون طريقَ أهدافِه، فيقولُ لكافارِلّي: "أنتَ الجنرال. الوداع يا بونابارت!".

 وبعد تتابُعٍ من المَشاهِد نَرى كافارِلّي وقد أصابَت ذراعَه طلقةٌ في حصار الفرنسيين لعكّا، وانتقضَ جُرحُه وأصابَته حُمّى موشكةٌ على إنهاء حياتِه، وقد ذهبَ إليه عليٌّ ليزورَه، ويدور بينهما حديثٌ قصيرٌ يبدو فيه أنّ كافارِلّي قد ندِم على ما بدرَ منه من محاولاتٍ لإغواء عليٍّ كما أغوى أخاه الأصغر الراحلَ يحيى، ويكرِّر ما نصحَه به رفيقُ مَشهد الحمّام، فيقول لعليّ: "إنني أحبك الآن أقلّ، ولكن هذا أفضل!".

ويلوحُ لي أنّ مسألةَ المِثليةِ هنا ليسَت مجرَّدَ صدىً لهمٍّ مؤرِّقٍ لدى شاهين، تكرَّرَ تعبيرُه عنه في كثيرٍ من أفلامِه. 

وذلك أنّ أحدَ أهمّ مَحاورِ الفِلم يتمثّل في العلاقة المُريبة بين عليّ وذلك الجنرال الفرنسي، فعليٌّ هو الوَجه المصري الذي لم يُعطِ ظهرَه للغُزاة مثلَ أخيه الأزهريِّ المُحافِظِ (بكر)، وإنما جالَدَهم تارةً ودخلَ بينهم تارةً، فتعلَّمَ لغتَهم وحديثَهم وأفادَ منهم فيما قد نسمّيه شكلًا من أشكال المُثاقَفة. 

وقد جرَّ عليه ذلك درجةً من درجات النبذ الاجتماعيِّ مِن ناحيةِ أهلِه، فأصبح حالُه حالَ النُّخبة المصرية المثقَّفة (المستنيرة بلُغة بعض مثقَّفينا)، يعاني قطيعةً من ذَويه ولكنّه لا يستطيعُ أن ينسى جذورَه. 

فحين تتطور تلك العلاقةُ إلى مشروعٍ جنسيٍّ صريحٍ، فإنّ ذلك يَرمز إلى إعلان هيمنة الغازي على ابنِ البلَد ثقافيًّا كما هيمنَ عليه عسكريّا. وتظلُّ عِبارةُ "الوداع يا بونابارت" التي قذفَها عليٌّ في وجه كافارِلّي إعلانًا غاضبًا عن رفضِ هذه الهيمنةِ الكاملة، وتمرُّدًا على حالة الخُضوع غير المشروط لثقافةِ الغازي، كما تَبقى عبارة "أحبُّك الآنَ أقلَّ، ولكن هذا أفضل" دعوةً متجددةً من مُخرجِنا الكبير لمثقَّفي الغرب أن يَخرجوا من شرنقة المركزية الأوربّيّة ويدَعوا نظرةَ الاستعلاء الثقافيّ التي دأَبوا على أن يَنظُروها إلى عالَمِنا العربيّ.

وتَبقى أخيرًا هذه الرؤيةُ محضَ رؤيةٍ شخصيّةٍ من جانبي، وإن كنتُ أزعمُ أنّ ظواهِرَ الحكاية السينمائيّة في هذا الفِلم تَدعمُها. ويَبقى هذا المقالُ القصيرُ بعيدًا عن لُغة النقد السينمائيّ المدقِّقة، فهو ليس إلا نظرتَين إلى مسألتَين رأيتُهما مهمَّتين في تلقّي هذا النصّ السينمائيّ الفريد.