آراء ثقافية

أرض النفاق بين الورق والسينما: "أرض النفاق" فيلم خالد وتجاهل تامّ للنكبة! (2)

صنّاع الفيلم وفقوا تماما في الوصول به إلى مستوى المثال المكتمل الأركان للكوميديا الفانتازية
من إنتاج إيهاب الليثي وسيناريو وحوار سعد الدين وهبة وإخراج فطين عبد الوهاب، ظهر هذا التجسيد الثاني للرواية عام 1968، وقام ببطولته فؤاد المهندس وشويكار وسميحة أيوب وعبد الرحيم الزرقاني وحسن مصطفى. وفي هذا الفِلم تمدّدت بعض خيوط الحكاية الأصلية، وانكمشَت أو تلاشَت خيوط أخرى. فمن الخيوط التي قرّر (وهبة) أن يمُدَّها خيط المعارك الانتخابية، وخيط الفساد الحكوميّ الذي قد نقول صادِقين إنّ الفِلم قد تعرّض له على نحوٍ أشدّ إخلاصًا من الرواية. لكنّ خيط القضيّة الفلسطينية تلاشى هنا كما تلاشى في "أخلاق للبيع"، وربما يكون وقتُ ظهور الفِلم سببًا في ذلك، فكما ظهر "أخلاق للبيع" عقِب هدنة رودس 1949 التي كبَّلَت يد الإدارتين المصرية والأردنية عن اتّخاذ أية إجراءاتٍ عسكريّةٍ في مواجهة المحتلّ الصهيوني، ظهر "أرض النفاق" عقِب نكسة يونيو 1967 والشعب المصري غارقٌ إلى أذنيه في مرارة الهزيمة دون حرب، وربما يكون صانعو الفِلم قد آثَروا ألّا يُثقلوا على الجمهور المتحسّر على ما ضاع آخِرًا بمزيد حسرةٍ على ما ضاع أوّلا.

الموسيقى:
في مقابل ألحان أحمد صدقي لبعض الأغاني في فِلم "أخلاق للبيع"، ولعلّ أبرزها أغنية النهاية "هنا أروسة هنا أريس" التي غنّاها شكوكو مع كيتي بلكنتها اليونانية، يخلو "أرض النفاق" من الأغنية تمامًا، لكنّه يقوم على خلفيةٍ من الموسيقى التصويرية الغربية الطابَع تمامًا، أبدعها الأمريكيُّ غوردن شِروود Gordon Sherwood، تبدأ في سلّم صغير في حوار بين الوتريات وآلات النفخ، تشبه في إيحاءاتها القصيدَ السّمفونيَّ "صبيّ الساحر" L’apprenti sorcier للفرنسي بول دوكا Paul Ducas مع خروج البطل (مسعود أبو السعد/ فؤاد المهندس) من غرفة وكيل المصلحة الحكومية التي يعمل بها، لترسم حالة المأساة العميقة الملتبسة بقَدرٍ من الغرابة، يعيشها هذا الإنسان رغم ما يكتنف حياته من المواقف المضحكة بالنسبة إلينا. وسرعان ما تنفلت الموسيقى من هذا التأثير من (دوكا) – وإن كان سيعاودها لاحقًا – وتقتحمها تتابعاتٌ نغميةٌ تحتفي بقفزات النغمة ونصف (تون ونصف) المميِّزة لجِنس الحجاز، مع لقطة دخول البطل إلى متجر الأخلاق، كأنّ الموسيقى تستحضر سِحر الشّرق وغرابته المرتبطَين بإيحاء هذا التتابع النغمي. ومنذ الدقيقة الحادية عشرة تقريبًا في الفِلم نستمع إلى تتابعات تعزفها الكمنجات، تكاد تكون تحويرًا للتيمة الموسيقية الأشهر في الرابـسودية المجرية الثانية لفرانز ليست، ما يجعلنا ننتظر حالةً من الملحمية والعظَمة في الفِلم.

‌رسوم المقدِّمة للشَّحري:
من الإجحاف أن نُغفل عبقرية المقدمة التي صمّمها الشحري للفِلم، والتي تدور بالكامل داخل متجر الأخلاق، إذ تمثّل برُسومها المتحركة البديعة رافدًا مهمًّا في إغناء العمل وتأهيلنا لتلقّي أحداثه، فهناك كلمة (النِّفاق) التي تتكاثر حتى تكاد تملأ الشاشة، وهناك رسم فؤاد المهندس الذي يحتبس في دُرج المروءة حتى يكاد يختنق، إلى غير ذلك من التصميمات المبتكَرة التي لا تُضيف بُعدًا جديدًا إلى كوميديّة الفِلم فحَسب، وإنما تمتدّ بخيط مُجاوزة الواقع فيه إلى أرضٍ غير متوقَّعة.

مخطَّط الفِلم (السيناريو):
اختار سعد الدين وهبة للأحداث بدايةً متوتّرةً، فألقى بنا في أَتون حياة بطلِه الوظيفية والزوجية المحبِطة، فيما بدأ السباعي روايتَه بدايةً مسترخيةً بالراوي الذي جلس يتلذذ بطعامه قبل أن ينعس ثمّ يقرر الخروج من البيت. ربما أراد (وهبة) أن يلكزنا بهذا التوتر من اللحظة الأولى ويحثّنا على الاستيقاظ لكلّ ثانيةٍ من فِلمِه

ونجد أنّه قد أجرى على أحداث الرواية وشخصياتها بعض التغييرات الجديرة بالالتفات، فقد حذفَ مثَلًا شخصيّة حماة البطل وأسقطَ نقائصَها كلَّها على زوجته، ما جعل وضع البطل أشدَّ تأزُّما. كذلك فقد مهّد لفكرة الافتقار إلى الأخلاق ولَيّ مفهومها حسب غرض المتكلّم، بأن جعل كلًّا من الساعي في المصلحة الحكومية، والزوجة في البيت، يتطاول على البطل بالسؤال الاستنكاريّ "إيه؟ ما فيش أخلاق؟!" لكنّ التغيير الأهمّ تمثَّل في إضافة الأخلاق الفاسدة، والنفاق تحديدًا، إلى البضاعة التي يجرّبها البطل، ما لوَّن العمل مقارنةً بالرواية، وفتح المجال لتَبِعاتٍ كوميديةٍ لا مفرَّ من توقُّع حدوثها. كذلك فقد صادر (وهبة) مَشاهد المعارك الانتخابية التي لا يزيد بطل الرواية عن أن يشاهدها، وجعلها ميدانًا لنفاق بطلِه (مسعود)، فنجدُ هذا الأخير يستبدل بملابسِه المهندَمة ملابس رثّةً ويرشِّح نفسَه لمجلس النوّاب ويَخطب في الجماهير متملّقًا إيّاهم مُظهِرًا غير ما يُبطن لكَسب أصواتهم، وكان هذا التغيير أقوى أثرًا ممّا في رواية السباعي. كما استبدل (وهبة) بنقائص الرئيس المباشر للبطل في عمله (عويجة أفندي/ حسن مصطفى) – تلك النقائص التي يُفيض بطلُ الرواية في الحديث عنها، كالتّصابي ومطاردة النساء – علاقةً متوتّرةً بالقلَم، فقلمُه يضيع منه كلّما احتاج إليه، ولا يلبث أن يخاطبَه مؤنِّبًا، وفي هذا الاستبدال تغييرٌ لمنظور شخصية (عويجة)، جعلها أكثر اتّساقًا مع البيروقراطيّة الحكوميّة التي تمثّلها هذه الشخصية، باعتبار القلَم أداةَ هذه البيروقراطيّة.

‌الإخراج:
أمّا اللمحات الإخراجية اللافتة لفطين عبد الوهاب فمنها إضافتُه أجهزة التقطير وزجاجيّات المَعامل إلى متجر الأخلاق، فيما لا نرى في الرواية إلّا أجوِلةً تضمُّ حبوب الأخلاق ومساحيقَها، وفي هذه الإضافة تقويةٌ للإيحاء بحقيقيّة المَتجر وطبيعة المُنتَج الذي يبيعُه، إذ ترتبط هذه الزجاجيّات في وعينا الجَمعيّ بالعِلم ومُفرداته، فلا نلبث حين نراها أن يتسرّب إلينا أنّ هذا التاجرَ ليس دجّالًا ولا محضَ حُلمٍ يراه البطل، وإنما هو عالِمٌ زاهدٌ، ولعلّ اختلاف الزيّ الذي ألبسَه المُخرج لعبد الرحيم الزرقاني هنا عن زيّ علي الكسّار في "أخلاق للبيع" يضيف إلى هذا التأثير، فعلي الكسّار يرتدي جلبابًا بلديًّا، ويُسمَّى "الحاجّ حبّهان"، ما يُوحي بأنّه أصلًا عطّارٌ تقليديٌّ، أمّا الزرقاني فيرتدي عباءةً أنيقةً فوق بِذلةٍ مهندَمة، ما يَشي – بحُكم الارتباطات بين هذه الأزياء وسياقاتٍ محدَّدةٍ – بأنّه رجُلُ عِلمٍ لا مجرّد عطّار.

ومن هذه اللمحات تلك اللقطة القريبة التي يهمس فيها المهندس في أذن سميحة أيوب بعد أن يتناول حبوب النفاق، مهاجمًا مفهوم الشرَف كما يردِّده العامّة دون تمحيصٍ لدوافعهم الحقيقية إلى أفعالهم. هذه اللقطة تؤتي أثرَين يتصارعان في نفس المُشاهِد، فهي من ناحيةٍ تُوحي بشيطنة النِّفاق، إذ يتحول البطل إلى شيطانٍ يوسوس لجارته بالفاحشة، ومن ناحيةٍ أخرى تجعل المُشاهد يفكّر في فحوى هذا الهجوم على المفاهيم الأخلاقية المستقرّة، لا سيّما أنّه هجومٌ هادئٌ هامسٌ يتّخذ شكل الجُمَل الأنيقة المرتَّبة.

ومنها مرور المهندس بوكيل الوزارة في العزاء عدّة مرّاتٍ، كأنه بدافع الرغبة في التقرُّب من صاحب المنصب الكبير قد فقد مرونته الإنسانية وتحوّل إلى آلةٍ للنِّفاق، ما يبعث على الضحك بالتأكيد.

ومنها الحركات البهلوانية التي يقوم بها البطل بعد أن يتناول حبوب الشجاعة وينتصر في معركة الشارع، إذ تضيف تنفيسًا كوميديًّا إضافيًّا، لكنّها توحي كذلك من طرفٍ خفيٍّ بأنّ الأخلاق الحميدة – ولا سيّما الشجاعة – عبءٌ قد لا تحتمله النفس، ومن السخرية أنّ لها أعراضًا جانبيّةً مجنونةً كالتي نراها!

كذلك لدينا إشارة الزُّرقاني إلى الجمهور وهو يردُّ على سؤال المهندس عن نَفاد حُبوب النِّفاق: "أُمّال الناس كلّها كده ليه؟ مش عشان خدوا الحبوب؟". في هذه الإشارة كسرٌ للحائط الرابع بين العالَم الداخليّ للفِلم وبين المُشاهِد، وكسرٌ للإيهام السينمائيّ بالتالي، ما يدعونا إلى التّماهي مع البطل في مأساة اتّصافه بالأخلاق الحميدة في عالَمٍ ظالمٍ منافقٍ، أو مع تاجر الأخلاق الحكيم. وحكمةُ هذا التّاجر هنا هي أقرب إلى حكمة الكلبيين أتباع ديوجين الكلبيّ الذي كان يحمل مصباحًا بالنهار وهو يسير في شوارع أثينا ليبحث عن رجُلٍ صادق. إنه حكيمٌ يهاجمُنا ويقولُ في وجوهنا إننا زائفون!

‌ومن هذه اللمحات تداخُل آخر هُتافات "يحيا الفقير مسعود" من مشهد المخيَّم الانتخابي مع اللقطة البانورامية التي استعرضَت أصناف الطعام والشراب في المأدبة الباذخة المُقامة في بيت مسعود في المشهد التالي، إذ أبرز هذا التداخُل مقدار ما في ادّعاءات المرشَّح من زيفٍ، ومثَّل سخريةً مريرةً من هذا الموقف.

‌وأخيرًا، لا ننسى القلم الذي يعطس ويترك جنازة عويجة أفندي، كما لو كان قد شرب هو الآخَر من الماء المحتوي على مسحوق خلاصة الأخلاق. في هذه اللقطة تصل الفانتازيا الكوميدية إلى قمّتها.

‌الأداء التمثيلي، خاصةً فؤاد المهندس:
إنّ ملامح معيّنةً في أدائه التمثيليّ قد ارتفعَت بالعمل إلى مستوىً خاصٍّ، ومن هذه الملامح قدرته على تلوين صوتِه ذلك التلوين الإلقائيّ المسرحيّ، فهو يهبط به حتى يكون همسًا في مَشاهد الضعف، ويرتفع ليُقارب الخَطابة في ذلك الحديث الأحاديّ إلى زوجته (إلهام/ شويكار) في المشهد الذي يجمعهما فورَ تناوُله حبوب النِّفاق، أو ليُصبح خَطابةً حقيقيّةً تقتبس من أغاني فهد بلّان ونجاة الصغيرة في المخيَّم الانتخابيّ، ليرُدّ عليه الجمهور بالآهات وبالهُتاف تبعًا لأغنية بلّان "يا سالِمة، يا سالِمة"! وأهمية هذا التلوين الصوتي والأدائيّ أنه يوظِّف المبالَغة المسرحية في مكانها، فلا يدَع للمُشاهد فرصةً لعدم الضحك. هذا، إلى أنّ معرفته العميقة بالعربية الفصحى وتراثِها تترك بصمتها في أدائه، فنراه مثلًا في مَشهد عزاء عمّة وكيل الوزارة (عبد الله فرغلي) يقول: "الموت نَقّاد يختار الجِياد"، ويَنطق جُملة التعزية "البقيّة فْ حياتك" بقافٍ فصيحةٍ، لا همزةٍ كالتي ينطقها كلُّ من في العَزاء، ما يَلفت انتباه المُشاهِد إلى ما في أداء البطل (مسعود) من تكلُّفٍ ونفاق. كما أنّ المهندس لا يتوقف عن الصعود والهبوط بين مستويات اللغة في الحِوار، فنجدُه يقول إحدى جُمَله الفصيحة المتكررة في أعماله لسميحة أيوب/ سوسو: "أضحكتِني يا امرأة"، إلى غير ذلك، وهذا التحرُّك بين مستويات اللُّغة يتّسق من ناحيةٍ مع انقلابات الأخلاق التي يَشهدها الفِلم، ويتجاوب من ناحيةٍ أخرى مع أسلوب السباعي اللغوي، فكأنّ المهندس هو التجسيد الأصَحّ لبطل الرواية الأصلي، مهما اختلفت أحداث النصَّين الورقي والسينمائي. وتَلحق بذلك تجلّياتٌ أخرى للحاسّة اللغوية المتطورة لدى المهندس، فهو يستغلّ إتقانَه نُطق الفرنسية والإيطالية في المَشاهد التالية لتناوُل حبوب النِّفاق، ليصبح الرطن بهاتين اللغتين قرينةً على ما حازته شخصية مسعود من ترَقٍّ اجتماعيٍّ بفضل النفاق.

ولا ننسى بمناسبة هذا الحديث عن اللغة تلك اللغة التي اصطنعها حسن مصطفى في حديثه الذي لا يُنسى مع المهندس في مَشهد الشنكل الناقص، بعد أن تناول البطل حبوب الصراحة بطريق الخطأ. في هذا المشهد نسمع لغة المخاطَبات الحكومية الرسمية وقد أصبحَت أداةً للإضحاك لما توحي به من تعنُّت، فلا ننسى جُملة "ليست خُروم شنكل، وإنما خدوش تكوَّنَت بمعرفة قطّة"، فضلًا عن زلّة اللسان التي يقع فيها عويجة أفندي حين يقول "شنقل" بدلًا من "شنكل"، حيث تلحق هذه القاف المتكلَّفة بقاف "البقية ف حياتك" في مشهد العزاء السالف الذِّكر.

‌الخلاصة أنّ صُنّاع هذا الفِلم قد وُفِّقوا تمامًا في الوصول به إلى مستوى المِثال المكتمل الأركان للكوميديا الفانتازية العميقة، وقد استطاع سعد الدين وهبة وفطين عبد الوهاب وغوردن شِروود وطاقَم التمثيل وعلى رأسه فؤاد المهندس ومن معهم أن يبدعوا نصًّا سينمائيًّا يُطاول رواية السباعي إن لم يتجاوزها أهمّيةً وإبداعا. وظلَّ إسقاطُ ذِكر النكبة من هذا التناوُل السينمائيّ شاهدًا على عُقدة لسانٍ ابتُلِيَت بها السينما المصرية طويلًا، حتى في أحد أرقى إنتاجاتها!

للاطلاع على الجزء الأول من المقال اضغط (هنا)