كتب

في الدوافع العميقة للحرب.. مناظرة فكرية بين أنشتاين وفرويد

قد يبدو لنا أنّ العنف والحق نقيضان.. أما في تصوّر فرويد فهما متكاملان وتجمع صلات عميقة بينهما

الكتاب: "لماذا الحرب؟ ولماذا العدو؟"
المحرر: نادر كاظم

ترجمة: جهاد الشبيني
منشورات تكوين الكويت سبتمبر 2018.


1 ـ الحرب موضوعا للتفكير

يهتز الضمير الأوروبي اليوم أمام حرب روسيا على أوكرانيا ويستعيد شبح الحروب العالمية الحارة والباردة وهاجس استخدام السلاح النووي الذي يتكدس في قارته. وهذا ما يدفعنا إلى العودة إلى كتاب "لماذا الحرب؟ ولماذا العدو؟" وإلى المناظرة بين عقلين من أهم عقول العصر الحديث هما الفيزيائي ألبرت أنشتاين (1879 ـ 1955) ورائد علم النفس التحليلي سيغمون فرويد (1856 ـ 1939) التي جعلت من الحرب موضوعا للتفكير. فربما ساعدتنا على فهم الموقف الأوروبي أكثر.

يوثق الكتاب هذه المناظرة، ويوثق سياقها. وهو طلب عصبة الأمم والمعهد الدولي للتعاون الفكري في باريس سنة 1932 من ألبرت أنشتاين أن يكون طرفا في نقاش حول قضية يختارها بنفسه ويختار من يناظره فيها ويتبادل معه وجهات النظر حولها. فكان أن تساءل "هل ثمة طريقة تنقذ البشرية من خطر الحرب؟" وأن رشّح سيغموند فرويد طرفا محاورا له.

2 ـ في صلة الحرب بغرائز البشر العدوانية

وحتى يجيب عن هذا السؤال يطرح أنشتاين سؤالا منهجيا: "لماذا الحرب؟" ويردّها، على اختلاف أسبابها إلى غرائز الإنسان العدوانية التي تتخذ مظاهر مختلفة مؤكدا وجود عوامل نفسية مؤثرة تحول دون تحقيق إشاعة السلام. فداخل الإنسان توجد نزعة دفينة متسترة للكراهية والتدمير. وشهوة القوة التي تميز الطبقات الحاكمة ونهمها للسلطة يدفعانها إلى تحفيز هذه الغرائز لدى عامة الجماهير وتحويلها إلى هوس جماعي يتخذ عناوين "نبيلة" كالدفاع عن العرق أو نصرة الدّين. فيندفع الجنود إلى ساحاتها ويضحون بحياتهم من أجل هذه الزمرة الصغيرة التي تلوي إرادة الأغلبية. فليس الساسة عنده سوى أفراد غير مبالين بالقيود والاعتبارات الاجتماعية "بل يعتبرون حالة الحرب وصناعة الأسلحة وبيعها ببساطة مناسبة تتعزز فيها اهتماماتهم الفردية وتتسع خلالها سلطاتهم الشخصية".

2 ـ طريق العدالة المثالية الشائك

لاعتقاده بأن القوة والقانون يسيران بالتوازي ولتفادي الحروب وما تخلّفه من خراب ودمار وتحقيق العدالة المثالية التي تطالب بها المجتمعات، يقترح أنشتاين إنشاء هيئة قضائية وتشريعية دولية لتسوية النزاعات الممكنة. فتتمتع بالاستسلام المطلق لأحكامها وامتثال كل الدول إلى أوامرها امتثالا لا جدال فيه. ويبدو أنشتاين محبطا ليقينه بأنّ ما يقترحه يظلّ غير عملي. فالإنسانية، في ثلاثينيات القرن الماضي مازالت بعيدة عن القبول بهذا المقترح وهذه الهيأة المفترضة ستفتقر إلى أسباب بسط نفوذها على الجميع. 

وعليه يقترح تكوين رابطة من المثقفين ومن "الرجال ذوي المكانة الحقيقية" للنضال ضد الحرب. ويريد نخبة من أولئك الذين يحظون باحترام كبير لإنجازاتهم الشخصية، لـ"تقدّم دعما معنويا لتلك العناصر في عصبة الأمم الذين يدعمون بنشاط الهدف الكبير الذي أنشئت من أجله تلك المؤسسة". فمن شأن التطور الذهني للإنسان أن يحول دون هذه الاختلالات العقلية للكراهية والدمار. وهنا يبدو محبطا أيضا. فهو يدرك أنّ النخب المثقفة هي الأكثر بعدا عن تمثّل الواقع والأكثر قابلية لأن تذعن للمقترحات الجمعية التدميرية. فـ"المثقفون لا يتواصلون مع الحقيقة، بل يتعرفون إليها في أسهل أشكالها الاصطناعية على الصفحات المطبوعة".

تبدو المسألة شائكة أبعد من أن تحلّ من خلال تجلياتها السطحية. فجليّ أن للحرب دوافع نفسية يدركها المرء العادي غير المختص ولكنه سيعجز لمحالة عن فهم علاقاتها المترابطة وتقلباتها مما يستوجب أساليب تربوية تقع خارج نطاق السياسة. فهذا التشابك بين العوامل "لغز يمكن للخبير في العلم المختص بالغرائز الإنسانية وحده أن يحلّه". وما دوّنه أنشتاين يبرز أنه كان على اطلاع على منجز فرويد في أثره "قلق في الحضارة" الذي تناول فيه الغرائز الإنسانية بالدرس. فيتوجّه إليه بالخطاب مقدّرا "أنّ عرض مشكلة السلام العالمي في ضوء أحدث اكتشافاتك سيكون أحد أعظم الخدمات التي نقدمها إلينا جميعا".
 
3 ـ في صلة الحرب بالغرائز البشرية

لا يخفي فرويد مفاجأته بمقترح أنشتاين الذي تختفي فيه صورة عالم الفيزياء لتفسح المجال إلى أنشتاين "الإنسان المحب للخير". ولكن إنقاذ البشرية من الحرب "مشكلة عملية من شأن رجال الدولة" قد يقف المثقف عاجزا دون التأثير في مسارها. ومع ذلك يقبل بالمقترح ويحاول أن يجعلها موضوعا لتفكيره. ويستند إلى منجزه في "قلق في الحضارة" ليشرح أسباب العنف، والحرب من بين أشكاله، مقدّرا أنّ الإنسان محكوم بغريزتين. فمبعث ما ينتابه من الشبق وشهوة الجنس التعلّقُ بالحياة أو هو ببساطة، غريزة البقاء. ومبعث النفور بين الأطراف المتصادمة غريزةُ التدمير والقتل أي الخوف من الموت وحب البقاء. وتتجلى الغريزتان في ما يصنّف تقليديا ضمن مشاعر الحب والكره. 

 

تماسك المجتمعات يتحقق من خلال تضافر عاملين ويفتقد بغياب أحدهما أو بغيابهما معا، هما الروابط العاطفية بين الأفراد المتّحدين والقوة الغاشمة للعنف التي تضمن استمرار نصرهم واتحادهم وقد أضحت ممارسته شرعية تعبر من الفوضى وتنضبط بمقومات ومعايير محددة سلفا،

 



وحتى يرفع أي لبس يمكن أن يشوش فكرته ينفي أن يتعلّق الأمر بثنائية الخير والشر لأن الدعوة إلى الحرب لا تكون دنيئة مطلقا كما الشر ولا هي نبيلة دائما كما الخير. لأن الحياة لا تنشأ إلا عن أفعال متعارضة بشكل متبادل بين هتين النزعتين السلوكيتين، حتى كأنهما لا تعملان بمعزل عن بعضهما البعض. فغريزة البقاء ترتبط بالبعد الشهواني ولكنها تحتاج إلى العدوانية لتتحقق. وبالمحصلة: فالكائنات الحية لا تحافظ على بقائها إلاّ عن طريق تدمير حيوات أخرى دخيلة.

4 ـ في الأسباب العميقة للحرب

هل يعني هذا أن الحرب حتمية وأنْ لا سبيل إلى السيطرة عليها ومنعها؟ يصادر فرويد على أنّ المبدأ العام أن تسوى الصراعات بين الأطراف المتنافسة عن طريق العنف. والتمعن في سلوك الكائنات الحية يُثبت بداهة هذا القول. وتاريخ الجنس البشري يكاد يختزل في سلسلة لا نهائية من الصراعات بين المجتمعات أو بين وحدات داخل المجتمع الواحد. فيتخذ أشكالا مختلفة. فتكون صراعا بين الأعراق أو الأديان أو المذاهب أو الأقاليم وتنتهي غالبا بحلّ الإشكالات القائمة عبر الإخضاع والإكراه. ولئن اتخذ هذا العنف في مملكة الحيوان وعند الإنسان البدائي مظهر القوة العضلية فإنّه أضحى يتجسّد عبر القوة الفكرية  مع اكتشاف العقل الإنساني للأسلحة. غير أنّ هذه المصادرة لا تعني أنّ الحرب هي الوسيلة المثلى لحلّ الإشكالات وتحقيق السلام الأبدي. فقد تكون هي نفسها سببا في خلق حروب جديدة بين الاتحادات التي تخلقها.

5 ـ مأسسة العنف وتحويله إلى قانون منظّم للمجتمعات 

قد يبدو لنا أنّ العنف والحق نقيضان. أما في تصوّر فرويد، فهما متكاملان وتجمع صلات عميقة بينهما. فالأصل في العلاقات بين المجموعات سيطرة الأقوى. وعبر العنف يجبر المهزوم على التنازل عن مطالبه أو يفرّط في حقوقه نتيجة تقويض قوته. وقتله لا يضمن للمنتصر الاستيلاء الكامل عن موضوع الصراع فقط وإنما يردع الآخرين ويجعلهم يمتثلون لإرادته. ولا سبيل إلى ردّ قوة القوي إلاّ باتحاد عدد من الضعفاء. واتحادهم يمنحهم الاستقرار واستمرار التفوّق. أما انحلاله بعد مواجهة الفرد فيفتح المجال حتما إلى فرد آخر ليحل محلّه ويمارس عنفه بدوره. وهذا ما يدفعهم إلى الاتفاق على قيم تنظيمية تكون بمثابة القانون. ومن هنا يتّخذ عنف المجموعة معنى الحقّ. 

 

تاريخ الجنس البشري يكاد يختزل في سلسلة لا نهائية من الصراعات بين المجتمعات أو بين وحدات داخل المجتمع الواحد. فيتخذ أشكالا مختلفة. فتكون صراعا بين الأعراق أو الأديان أو المذاهب أو الأقاليم وتنتهي غالبا بحلّ الإشكالات القائمة عبر الإخضاع والإكراه. 

 



فتماسك المجتمعات يتحقق من خلال تضافر عاملين ويفتقد بغياب أحدهما أو بغيابهما معا، هما الروابط العاطفية بين الأفراد المتّحدين والقوة الغاشمة للعنف التي تضمن استمرار نصرهم واتحادهم وقد أضحت ممارسته شرعية تعبر من الفوضى وتنضبط بمقومات ومعايير محددة سلفا، لذا "يجب أن تتم المحافظة على المجتمع بشكل دائم، وأن يخضع للتنظيم وأن توضع قواعد تنظيمية تتنبأ بخطر التمرّد وأن يتمّ إنشاء هيئات للتأكد من أنّ هذه القوة تخضع للاحترام ولمراقبة تنفيذ أعمال العنف القانونية". ولا شكّ المطّلع على أثر "رجل العلم ورجل السياسة" الذي يصوغ من خلاله ماكس فيبر المفهوم السياسي للعنف المشروع والذي يعرّف فيه الدولة بانها أنها المؤسسة الوحيدة التي تحتكر شرعية استخدامه سيجد ظلالا لفكرة فرويد هذه.

6 ـ سبل تفادي الحرب من وجهة نظر فرويد

رغم قناعة فرويد بأن الحرب مرتبطة بالفطرة الإنسانية يدينها لفظاعتها. فهي تنزع الحق في الحياة من البشر وتضعهم في وضعيات مهينة. ويحاول أن يعرض تصوّره لإمكانات تلافيها مستندا إلى نظريته حول الغرائز التي من أجلها رشحه أنشتاين ليكون محاوره. فيشدد على ضرورة تدعيم غريزة البقاء وتدعيم الشبق بالنتيجة ويحث على تشجيع الروابط العاطفية بين الناس. وبعد؟ لا شيء. لذلك يظل محبطا بدوره شأن أنشتاين لما في تصوّره من طوباوية. فما يقترحه سيصطدم بعقبات جمة بكل تأكيد. من ذلك أنّ البشر فئتان، فئة القادة وتمثّل الأقلية. وفئة التابعين وتمثّل الغالبية العظمى من الذين ينصاعون إلى الشخصيات القيادية انصياعا غير مشروط. وهذا ما يستوجب عقولا نيّرة باحثة عن الحقيقة بعيدا عن الترهيب لتوجه حشود التابعين وتحفّزهم على الاستقلالية.
 
يظل فرويد على قناعة بأنّ التطور الثقافي للجنس البشري وتمدّنه يقيدان دوافعنا الغريزية وتجعلاننا مسالمين غير متسامحين مع الحرب. ولكن "كم من الوقت يجب أن ننتظر قبل أن تصبح باقي البشرية مسالمة هي الأخرى؟".

7 ـ العقل الغربي يظل حبيس أزمته

يجد قارئ هذه المناظرة تشابها بين أبرز مؤسسين للعقل الغربي الحديث:

ـ فكلاهما ينزع عنه الصورة النمطية التي عرف به. ينزع ألبرت أنشتاين جبة الفيزيائي الألمعي ليرتدي جبة الحقوقي الذي يبحث دون جدوى عن حلول قضائية مؤسسة للعدالة الدولية. وفي بحثه إقرار ضمني بفشل "المحكمة الدائمة للعدالة الدولية" التي تم تأسيسها سنة بموجب المادة 14 من ميثاق عصبة الأمم 1920 في لاهاي، وظل دورها يتراجع في الثلاثينات إثر تصاعد التوتر الدولي إلى أن احتلت ألمانيا هولندا. فاندثرت لتحل محلها محكمة العدل الدولية لاحقا بعد تأسيس الأمم المتحدة في 1945. ويتقمّص فرويد شخصية الباحث الاجتماعي الذي يدرس سلوك المجموعة ويرصد قانونها أكثر مما يجسد شخصية عالم التحليل النفسي الذي يركز على السلوك الفردي اللاواعي.
 
ـ يبدو كلاهما محبطا وهو يقرّ بأن منع الحرب يظل رغبة طوباوية تنسفها الوقائع.

ـ ينفي كلاهما عن النّخب المثقفة القدرة على التأثير المباشر في الأحداث الكبرى.  فـ "حقيقة انقسامها إلى عدة زمر تجعل من المستحيل على أعضائها التعاون في حل مشكلات اليوم" وفق أنشتاين. وارتباطها بما هو نظري يجعلها غير قادرة على التأثير في ما هو عملي وفق فرويد.

ـ يظل كلاهما مطمئنا إلى أنّ التمدّن كفيل بالحدّ من الحروب. وتبدو هذه القناعة أكثر رسوخا اليوم في العقل الغربي المعاصر. لذلك نراه يهتز لحرب روسيا على أوكرانيا ولا يحرّك ساكنا للحروب التي تجري في العالم النامي، في الشرق الأوسط وفي إفريقيا. ففي عمق العقلين الحديث والمعاصر، قناعة راسخة بأن رحاها تدور بين شعوب همجية غير قادرة على حل مشاكلها بالطرق الحضارية والمدنية ولم يكن يرى حرجا في صبّ الزيت على النار أو أن يكون طرفا مباشرا فيها. ومن أين سيأتيه الحرج وهو يستهدفها بصناعة الأسلحة وتجارتها؟