كتب

بحث عن قراءة جديدة للإرث البورقيبي لمواجهة الإسلاميين

كيف تم استثمار رمزية الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة النضالية وإرثه لمواجهة الإسلاميين؟

الكتاب: المشروع البورقيبي للدولة: كيف نقرأ البورقيبية اليوم؟
الكاتب: مجموعة من المؤلفين
الناشر: مؤسسة روزا لوكسومبورغ 
عدد الصفحات: 2002

1 ـ بين يدي الكتاب:
 
لم تبعث الثورة التونسية بورقيبة من جديد بعد أن أهمله الرفاق والأتباع ومات وحيدا وشيّع إلى قبره بما لا يليق به فحسب. بل أظهرت شيعة له تحاول أن تعود إلى "البورقيبية الأصيلة" وأن تتبرّأ من انتمائها إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحلّ. فاعتبرت سياسته انحرافا عن الفكر الدستوري الصحيح وهي تحاول أن تفتك موقعا جديدا في الساحة السياسية أو تعمل على استثمار رمزية الزعيم النضالية وإرثه لمواجهة الإسلاميين المكتسحين وقتها للمشهد السياسي التونسي.

 

وخلافا للحمّى التي رافقت هذه العودة، يحاول هذا المؤلف الجماعي الذي أشرفت عليه مؤسسة روزا لوكسومبورغ اليسارية الألمانية "المشروع البورقيبي للدولة" أن يسلّط حزمة من الضوء على نقاط معتّمة من مسيرة الرّجل من زاوية نقدية أكاديمية هادئة متسائلا: "كيف نقرأ البورقيبية اليوم؟".
 
تشمل هذه العودة مجالات كثيرة منها البحث في مرجعيات الخطاب البورقيبي الثقافية وتجربة العدالة الانتقالية ما قبل دستور 1959 وموقف الحركة النسوية من سياسته ومن مجلة الأحوال الشخصية وعلاقة بورقيبة بالجامعة وبمنتسبيها وخرّيجيها.

2 ـ المرجعية الثقافية للخطاب البورقيبي:

يقرّ سعيد بحيرة بعسر دراسة الخلفيات الموجهة لخطاب الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة باعتبار امتداد تجربته في الزمن ولكونه ظلّ يراوح بين مرجعيات عديدة في القضية الواحدة، ومع ذلك يقبل بأن يغامر بتصنيف خطابه انطلاقا من المواقف التي اتخذها والخطابات التي ألقاها والمقالات الصحفية التي نشرها. فيلاحظ أنّ المرحلة التحريرية التي تمتد إلى تاريخ الاستقلال الدّاخلي(1929- 1955) تميّزت باندفاعه عندما يتعلّق الأمر بنحت ملامح الشخصية التونسية والمرافعة عن كيان الدولة التونسية وفي الآن نفسه بحذره كلّما تعلّق الأمر بالإشارة الصريحة إلى المرجعيات الثقافية أو الفكرية. ومع ذلك يستنتج بحيرة أن الخلفية الدينية ظلت قائمة في خطابه فكثيرا ما استند إليه واستمدّ منه الحجج والبراهين بما لا يتضارب مع ضرورة التقدم والنهضة والعلم والحرية. وفي الآن نفسه رسم مسافة تبعده عن قراءات السلف الصالح التي كان عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري يستند إليها مثلا. وكثيرا ما وجد فيه خزّانا لشحذ الهمم شأنه شأن الأبعاد القومية أو المغاربية مثل المؤتمر الديني الكاثوليكي الأفختارستي الذي عقد في قرطاج في ماي 1930 بقرطاج وناهضه بورقيبة معتبرا أنه يعدّ تهديدا للإسلام أو مثل تشجيع فرنسا للنخب التونسية للحصول على الجنسية الفرنسية التي أعيد إحياؤها سنتي 1932-1933. فقد كان يرى فيها عملا على طمس الهوية التونسية وقاربها من زاوية دينية أساسا. ومع ذلك ظل خطابه متوازنا بعيدا عمّا بات يعرف اليوم بالشعبوية. فكانت الأصالة تتعايش مع الحداثة في فكره دون صدام. وكانا معا ركيزة مشروعه الذي يسعى إلى أن يكفل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للتونسيين. 

 

خلافا للحمّى التي رافقت هذه العودة، يحاول هذا المؤلف الجماعي الذي أشرفت عليه مؤسسة روزا لوكسومبورغ اليسارية الألمانية "المشروع البورقيبي للدولة" أن يسلّط حزمة من الضوء على نقاط معتّمة من مسيرة الرّجل من زاوية نقدية أكاديمية هادئة متسائلا: "كيف نقرأ البورقيبية اليوم؟".

 



مع اعتلائه السلطة وتحوّله من البحث عن الاستقلال إلى ببناء الدولة ورسم توجهاتها سيتغير هذا الخطاب. وسيتسم خطابه بحدّة موجّهة إلى البايات حكّام تونس الموالين للخلافة العثمانية قبل سقوطها وإلى بعض الإصلاحيين. فقد كان البايات قساة وقمعهم الشديد للأهالي إثر ثورة علي بن غذاهم عينة من قسوتهم. أما الإصلاحي خير الدين التونسي مثلا، فلم يكن عنده أنموذجا للوطنية. فهو لم ينشا بهذه البلاد ولذلك هان عليه بيع هنشير النفيضة إلى الفرنسيين. 

لقد تعددت مرجعيات بورقيبة. فكانت أشبه بحلقات تتوسع، من البعد القطري الوطني واستلهام تاريخ البلاد البعيد إلى البعد الإقليمي المغاربي والمتوسطي إلى الانتماء العربي الإسلامي الذي يعتمد الاجتهاد لا النقل. وكان التعامل البرغماتي سمتها. فقد كان يفعّل هذه الأبعاد حسب الحاجة.

3 ـ بورقيبة والعدالة الانتقالية ما قبل دستور 1959

يدرس الباحث عبد الجليل بوقرة العدالة الانتقالية من 1956 إلى 1959. فيؤكد وراثة تونس فجر الاستقلال لخمسة أنماط من القضاء هي القضاء الفرنسي والقضاء المختلط الخاص بالشؤون العقارية والقضاء المدني التونسي والقضاء الشرعي الإسلامي ومجالس الأحبار واليهود. فعمل على توحيد القوانين. ولكنّ ظل الاضطرابات سياسية والصدام العنيف بين الزعيمين بن يوسف وبورقيبة حول الحكم أثر في هذه العدالة الناشئة. فقد استخدمها بورقيبة للتشريع للعزل السياسي وتجريم "الزيغ عن القومية". وعبرها استهدف خصومه من خارج المجلس التأسيسي الذي كان يعدّ الدستور. ومن خلال محكمة استثنائية تخالف القوانين العادية الإجراءات المعهودة في تشكيل المحاكم أو تنفيذ أحكامها فرض "التحصين القومي". فكانت أحكامها باتة غير قابلة للاستئناف أو التعقيب. 

وبعد 1956 أنشئت محكمة استثنائية جديدة عرفت باسم محكمة القضاء العليا خوّل لها قانون إنشائها مصادرة أملاك العائلة المالكة والمكاسب غير المشروعة لساسة ما قبل الاستقلال وللموظفين العموميين والنواب بالمجالس المنتخبة بالبلديات سنة 1953. وكانت هذه المحكمة تستعين بلجان جهوية مكلفة بالبحث في مصدر الثروات لا يقبل فيها تدخل المحامين. ومن القرارات التي يمكن أن اتخذتها الحرمان من المشاركة في الانتخابات والوظائف والخطط العمومية والوظائف السامية ومنع الانخراط في الجمعيات أو النقابات أو العمل بالإعلام بأي صفة. 

وبلغت أعمالها في الفترة الممتدة من 9 أيار (مايو) 1956 إلى 24  آب (أغسطس) 1959 35 محاكمة شملت 600 متهم تقريبا أصدرت أحكاما بالمؤبد والأشغال الشاقة فيما بلغت الأحكام بالإعدام 33 حكما بالإعدام منها حكمان بحق صالح بن يوسف وحكم في حق المقاوم الطيب الزلاق. علاوة على ذلك يذكر الباحث أنّ رئيس الجمهورية صادر بعض الأملاك مباشرة من قبل دون الاستناد إلى حكم قضائي. ويستنتج من خلال هذا القضاء صدى الاضطرابات السياسية التي عاشتها تونس بعد الاستقلال وعمل بورقيبة على حسم الموقف لصالحه للمسك بمقاليد الدولة ولتصفية خصومه بتوظيف القضاء خارج معايير المحاكمات العادلة.

4 ـ بورقيبة والحركة النسوية

تبحث حفيظة شقير في صفحة منسية من علاقة بورقيبة مع النساء. فتبرز أنه لم يكن يحوز رضاءهنّ جميعا رغم ارتباط اسمه بمجلة الأحوال الشخصية التي منحتهن حقوقا غير مسبوقة في العالم العربي. وتعرض صدامه مع الجمعيات النسوية التي لم تقنع بما تم تحقيقه. وتعرض سياق ظهور الحركة النسوية في سبعينات القرن الماضي مبرزة أنها تشكلت من نساء يشتغلن بالتعليم أساسا أو من طالبات ينتمين إلى الحركة الديمقراطية والحركة اليسارية وأنها ظهرت إثر تعدّد المحاكمات السياسية بعد فشل السياسة الاقتصادية وتجربة التعاضد. 

فكانت حركة احتجاجية ضد ما أسمينه وقتها بالفكر الواحد وبأبوية الدولة التي مارست عليهن التمييز وأقصتهنّ من الترشح للمجلس التأسيسي أو من انتخاب أعضائه. فلم يتمتع بصفة ناخب سنة 1956 إلا التونسيون من الذكور البالغين عشرين سنة والذين يحسنون الكتابة والقراءة.

وكانت هذه الحركة تعمل على القطع مع الخطاب السائد الذي يكرّس بورقيبة محررا المرأة وكافلا لمساواتها بالرجل. فركزت على ما اعتبرته مظاهر تمييز ضد المرأة في مجلة الأحوال الشخصية مثل فرض المهر واعتبار الرجل رئيسا للعائلة والولي الأبناء الأساسي والتمييز في الإرث. وناهضت تحفظات الدولة التونسية على بعض الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالمرأة من خلفيات ثقافية أو دينية. 

وطالبت بتخصيص مقاعد في البرلمان للنساء على أساس التمييز الإيجابي.وفرضت الاحتفال باليوم العالمي للمرأة الذي لم تكن السلطة تأبه له بقدر ما تحتفي ب 13 أوت تاريخ إصدار مجلة الأحوال الشخصية. وعامّةً مثلت الحركة النسوية رؤية نقدية لدولة الاستقلال ومقاربة مختلفة لمجلة الأحوال الشخصية تتجاوز الجرأة التي اتسم بها بورقيبة.

5 ـ بورقيبة والجامعة 1956 ـ 1987 أو التعايش الصعب 

يعود الباحث عادل بن يوسف إلى علاقة بورقيبة بالجامعة والجامعيين. فقد كان من الطبيعي أن تكون لبورقيبة صلة خاصة بهم وأن يعوّل على دعمهم في نضاله من أجل الاستقلال لاهتمام المؤسسات التعليمية بالشأن السياسي والوطني. فعمّق علاقته بجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين في باريس وبالشعبة الدستورية للحزب بباريس وكانت تضم الطلبة أساسا. وكان الطلبة بدورهم يترددون عليه أثناء إقامته الجبرية بجزيرة لا قروا. 

ثم تأسس الاتحاد العام لطلبة تونس في تموز (يوليو) 1953 وانخرط في العمل الوطني خاصة مع بداية الكفاح المسلح. فوجد فيه الزعيم بورقيبة واجهة جديدة لدعم مشروعه قبل الاستقلال أو دعم حكمه بعده. فأشاد بدوره وحضر مؤتمراته التي انعقدت بين 1956 و1961. ولكن بعيدا عن هذه النزعة النفعية تكشف خطاباته أنه كان يعوّل على التعليم بالفعل لبناء تونس الجديدة. ففي ندوة جمعية الطلبة الدستوريين بفرنسا 1956وفي خطبته [طلبتنا محطّ آمال الأمة] أكّد "المراهنة الكبيرة على الطلبة المزاولين لدراستهم في فرنسا لكونهم أمل الأمة التي يجب أن تعوّل عليهم ليكونوا العقل المفكّر القادر على تسيير دواليب الدولة". ولكن بوادر التوتر ظهرت مع اتفاقية الاستقلال الداخلي 1955 حين انقسم منتسبو المؤسسات التعليمية بين مناصر له ومعارض مطالب بالاستقلال التّام ومنهم خاصّة الزيتونيون الذين اصطفوا مع الأمانة العامة بقيادة صالح بن يوسف. 

لقد جعلت طموحات بورقيبة للاستفراد بالسلطة علاقته تسوء مع مختلف الأطراف السياسية في الجامعة بعد الاستقلال. فتضامن طلبة الاتحاد مع خصمه في الاتحاد العام التونسي للشغل أحمد بن صالح واحتجوا على عدم تشريك هيكلهم في معالجة قضايا التعليم وتبنت مركزيته الطلابية مبدأ الاستقلالية عن كل حزب سياسي. ووجد الزيتونيون أنفسهم على هامش منظومة الحكم. ثم أُغلق القسم التعليمي من جامع الزيتونة سنة 1958 وبعد سنتين تم تأسيس كلية الشريعة وأصول الدين. وأخذت صورة بورقيبة التحديثي التغريبي تتشكّل عند الإسلاميين بعد أن كان يجمع عندهم بين الحداثة والأصالة.

 

لقد جعلت طموحات بورقيبة للاستفراد بالسلطة علاقته تسوء مع مختلف الأطراف السياسية في الجامعة بعد الاستقلال. فتضامن طلبة الاتحاد مع خصمه في الاتحاد العام التونسي للشغل أحمد بن صالح واحتجوا على عدم تشريك هيكلهم في معالجة قضايا التعليم وتبنت مركزيته الطلابية مبدأ الاستقلالية عن كل حزب سياسي.

 



مما يحسب لبورقيبة مراهنته على التعليم وعلى تأسيس جامعة تونسية عصرية على النمط الأوروبي. وعمل على توحيد مناهج التدريس ودعمه استجابة لتطلعات البلاد وتوفير حاجتها من الإطارات العليا لتسيير شؤونها. وبرزت هذه الجهود في الهيكلة والتنظيم وفي إرساء القوانين المنظمة ثم في العمل على تجسيم لا مركزية الجامعة بعد نحو عشرين سنة من الاستقلال. فظهرت كلية الطب بسوسة وكلية طب الأسنان بالمنستير وكليتا التقنية والعلوم الاقتصادية بصفاقس. ومما يسجل له كذلك احترامه للحريات الأكاديمية وقرارات المؤسسات الجامعية ومجالسها العلمية والتأديبية. وبالمقابل يؤخذ عليه في تعامله مع الطلبة والجامعيين تقريبه للدستوريين منهم وعمله على تدجين الجامعة واحتواء الطلبة. أما على مستوى اللامركزية. فقد كرّس تمييز المناطق الساحلية وإقصاء المناطق الداخلية من تركيز المؤسسات الجامعية.

والعجيب أن النظام كان يفسر هذا التهميش بتواضع البنية التحتية لمدن الدّاخل وكأنه ليس هو المسؤول عن التفاوت الجهوي. أما على مستوى التسيير فكان يؤخذ على بورقيبة تكريسه للتبعية الأكاديمية لفرنسا. فقد كان يدير الجامعة موظف سام برتبة نائب رئيس الجامعة فيما ظلت رئاستها مرتبطة بجامعة باريس.

وعامة مثلت العلاقة بين بورقيبة والجامعة صدى للأوضاع الداخلية بعد فشل سياسة التعاضد وانعدام الحريات العامة وفرض هيمنة الحزب الواحد. وبلغ التوتر أحيانا أوجه. فحدثت المواجهات العنيفة التي واجهتها السلطة بالقمع والمحاكمات وتجنيد الطلبة.