آراء ثقافية

المسلسل التونسي"الحرقة".. العلاج النفسي بواسطة الدراما!

تغلغلت الدراما في عمق الوجع التونسي لتخلق عملا فنيا- تويتر

يشترك التحليل النفسي والفن والأدب والفلسفة في "قول الحقيقة". الفكرة أصّلها علميا المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان وطرحها أدبيا أنطونيو فيريو في كتابه "التحليل النفسي بعده أدبا وعلاجا" وثمّنها المحلل النفسي الفرنسي "بيار هنري كاستل".


قول الحقيقة بما هي اختلاق للواقع يقوم من خلاله الأدب بنقل أعراض الظاهرة الاجتماعية. وإخضاعها لدراسة مجهرية تفكيكية لدوالها ورموزها.

 

التجربة التي اشتغل عليها عدد من المحللين النفسيين تجد لها امتدادا في المسلسل الدرامي الرمضاني التونسي "الحرقة".

 

هذا المسلسل الذي اختلق الواقع في شموليته فأتى بنظرة بانورامية على الدوافع البيولوجية والاجتماعية والنفسية لسلوك "الحرقة".


حاك المسلسل بالمشاهد التمثيلية ومحتوياتها من شخصيات وإكسسوارات وديكور، حاك دراسة نفسية اجتماعية تحيلنا إلى الواقع الحالي وتسمح للمخيلة أن تفتعل الواقع المنشود المغاير.. هي قوة الصورة بعيدا عن تشويهات اللغة التي حذرنا منها لاكان.

تغلغلت الدراما في عمق الوجع التونسي لتخلق عملا فنيا. فكيف يمكن أن يُخلق الإبداع من حالة اختناق؟


نحن الآن أمام المسلسل الأكثر متابعة خلال الموسم الرمضاني الحالي في تونس في بعض المناطق العربية من خلال البث على القنوات الافتراضية، "الحرقة" المسلسل الذي اتفق الجميع بين جمهور ونقاد على تميزه فنّا ومضمونا، هو دراما اجتماعية تطرح الهجرة السرية وألقى الضوء على معاناة المهاجرين غير الشرعيين من مفقودين في عرض البحر وناجين في مراكز الحجز بعد وصولهم إلى التراب الإيطالي.

 

يضم المسلسل باقة من أهم الممثلين على غرار وجيهة الجندوبي ورياض حمدي ومهذب الرميلي وعائشة بن أحمد..
 
تعيدنا كاميرا المخرج الأسعد الوسلاتي إلى السيكودراما أو العلاج بالدراما. فتمرر الصور بنفس ثقل وجعها في الواقع.

ما الحرقة؟ قد يبدو ظاهريا من السهل الإجابة عن هذا السؤال... بل قد تكون الإجابة جاهزة في تقرير يسرد مجموعة من الأرقام عن عدد المهاجرين غير الشرعيين من تونس إلى البلدان الأوروبية أو عدد الجثث التي تم العثور عليها مرمية على الشواطئ أو عدد الجنائز.

 

وهو مثال عن التقارير التي تخبرنا بها النشرات الإخبارية وتقارير المنظمات الحقوقية أو مداخلات مسقطة على بعض البرامج التلفزية.

 

فماذا لو أعدنا طرح السّؤال على هذه الشاكلة: لماذا "يحرق" الشباب التونسي حتى بعد ما يسمى بالربيع العربي؟


اقرأ أيضا: صالح علماني: أن تفتح قارة أدبية بأكملها


يغوص بنا المسلسل في سيميولوجيا الحياة اليومية "الخارقة"، يكشف عن تفاصيل تربك الجميع حتى أمام مرآته الخاصّة وتجرؤ عليها كاميرا تحولت بمفردها إلى شخصيّة أخرى لها أيضا مواقفها وتفاعلاتها وبناءها المقترح للواقع المنشود. تمرّر ذلك دون جعجعة أو مبالغات بل بحرفية فنية وتدقيق يعكس ذكاءً شديدا بمستوى إبداعي راقٍ جدّا.

جثث تطفو فوق البحر، جوع، برد ومشكلات ليس فقط في ظروف "الحرقة" وانما حتى بعد نجاح العملية ووصول الشاب الى البلد الأمل ليكتشف أن كل ما فعله أنه غير نقطة تعذيبه من أرض الى أرض أخرى. هم المعذبون فوق الأرض، هم المغتربون داخل أوطانهم وخارجها.

ينطلق المخرج التونسي الأسعد الوسلاتي من تصوير حالة القلق الاجتماعي والوجودي التي تستبد بالفرد وتقض مضجعه فتختزل روحه المريضة داخل شعور قاس بالاغتراب يساوي بين الحياة والموت، بين الوطن والغربة.

 

لم تتوقف كاميرا الوسلاتي عند ذلك بل رصدت بدقة كيفية تحول "الحرقة" من مجرد شعور بالاغتراب الى سلوك فردي ثم سلوك مجتمعي وتعدّت ذلك إلى كشف حقائق عن حياة هؤلاء المهاجرين في الأوروبية.

لماذا "الحرقة"؟

 
تفسر المدرسة السلوكية سلوك الفرد ضمن تفاعلاته مع محركات خارجية والبيئة التي ينشأ داخلها. لقد نجح مسلسل "الحرقة" في إعادة إنتاج هذه البيئة بمصداقية كبيرة.

بالرجوع إلى ماسلو فإن الانسان مجبول على مجموعة من الاحتياجات: "الاحتياجات الفسيولوجية مثل الغذاء والماء والدفء والراحة، واحتياجات السلامة مثل الأمن، والحاجة للانتماء والحب من خلال العلاقات الحميمة، والأصدقاء، والحاجة لاحترام الآخرين وتقديرهم، وأخيرًا في أعلى التسلسل الهرميّ فهناك احتياجات تحقيق الذات." ولا يمكن المرور من مرحلة إلى أخرى إلا بتلبية الاحتياج السابق. 

إن سلوك "الحرقة" هو ترجمةٌ لكلّ هذه الاحتياجات. "ما الذي تغير في البلاد إذا كان لليوم العشرات بل المئات يرمون بأجسادهم الضّعيفة للحيتان." هذه الجملة تكرّرت كثيرا في المسلسل وبطرق مختلفة ولكن المعنى واحدٌ.

ملأ المسلسل صمت العلوم الإنسانية في واقع تونسي وعربي متحوّل وقدّم بمزاوجة بين العلم والفن أطروحة في بناء شخصية مغايرة للشاب التونسي.

 

فتابع الاضطرابات النفسية التي تسبق حركة الهجرة غير الشرعية واستمرارية هذه الاضطرابات حتى بعد النجاح في الهجرة وهو ما يجعل من المسلسل أشبه بدراسة علمية دقيقة تحترم منهج التشخيص العلمي والتحليل والمقارنة والاستنتاج.

تعامل مخرج العمل مع ممثلين أفارقة من السنغال وساحل العاج في المسلسل، ويعتبر “مشاركتهم مهمة جدا ولا يمكن تجاهلها، لأن تونس أصبحت منطقة عبور لمواطني دول أفريقيا جنوب الصحراء، حيث أصبحت تستقبل المئات من المهاجرين غير النظاميين الأفارقة، الذين يأتون إلى تونس للعمل، ويتخذونها مطية للسفر إلى إيطاليا.".


ويتابع الأسعد الوسلاتي في أحد تصريحاته الإعلاميّة: "لذلك كانت العنصرية التي تُمارس عليهم من قبل الإيطاليين والتونسيين أيضا محورا أساسيا، ولا بد من التعريج عليها في المسلسل ونقدها."

كاتب السيناريو: حذفنا هذه الحقائق خوفا على نفسيّة المشاهد التونسي..!


في حديث خص به عربي 21 قال عماد الدين الحكيم: "اشتغلنا جيدا على البحث في حركة الهجرة غير الشرعية وأدرنا لقاءات مع أناس خاضوا التجربة بالإضافة لشهادات لبعض العاملين في مراكز الإيواء في ايطاليا وأخص هنا بالذكر الصديق محمد أمين شوشان الذي أفادني بعديد الشهادات المستمدة من تجارب كان قد خاضها هو بنفسه.. علما بأنّ الفكرة كان قد اقترحها علي صديقي المخرج الأسعد الوسلاتي. باعتبارها ظاهرة ما فتئت تتفاقم في السنوات الأخيرة وقد امتدت الكتابة حوالي سنة".

وأكد عماد الدين الحكيم أن "هناك أحداثا لا يمكن عرضها إما لقساوتها أو لوقع الصدمة التي قد تخلفها لدى المتفرج لذلك كنت أحاول جاهدا أن أمرر الرسائل بطريقة سلسة وإن كانت صادمة أحيانا كما أن كاميرا الأسعد الوسلاتي كانت نجحت في ايصال الصور التي تضمنها النص بحرفية عالية وبصدق".

وأضاف: "هنالك عديد الأحداث، مثل الدعارة التي تمارس في مراكز الإيواء، العنصرية المفرطة الممارسة على الأفارقة في تونس والتي حاولت تلخيصها في شخصية كوفي، دعم مطلق في بعض الجهات للحراقة ما تسبب لنا في مشاكل عديدة في التصوير، بعض الأمهات في الأحياء الشعبية لا يأبهن بمصير أبنائهن المهم هو المال".


وفي خصوص الشخصيات التي أرقته أثناء كتابتها قال الحكيم: "كل الشخصيات كانت تؤرقني صراحة لأنها كانت تختزل فئة اجتماعية بعينها، كنت متحيزا لبعض الشخوص، كارها لأخرى حتى إن الشخصيات تفلت من بين يدي في أحيان كثيرة".


وفي خصوص العوائق وصعوبات التصوير فأكد أنه تم منعهم من التصوير في بعض المناطق التونسية من بينها مدينة جرجيس وذلك من قبل العاملين في الميناء. على أن العائلات التي فقدت أبناءها رحبت بالعمل".


كيف تفاعل المتفرج مع المسلسل؟

 
المسلسل الذي أبكى التونسيين ورج السياسيين وأرق المسؤولين قالت عنه الجامعية هدى الكافي إنه "نقلة نوعية في الإنتاج الدرامي التونسي هو الأفضل دون منازع". وحسب تصريح الحكيم لعربي21، فإنه تظل للجمهور سلطته المتفردة.

 

وكتب الممثل والمخرج عبد القادر بن سعيد أنه: "مسلسل تونسي أفريقي عربي بمواصفات عالمية نصا وتمثيلا وتقنيا واخراجا".

أما الباحثة والجامعية ألف يوسف فدونت التالي في تعليقها على المسلسل: "مسلسل "حرقة" من أكثر المسلسلات التونسية تميزا لهذه السنة.. رغم بطء في تتالي الأحداث أحيانًا فإن التصوير كان رائعا والتمثيل مذهلا (لا سيما وجيهة الجندوبي ورياض حمدي) والشخصيات مركبة والواقع المعروض مدروسا.. هذا المسلسل أزعج كثيرا من التونسيين الذين فضلوا أن يتجاهلوه.. بالضبط مثلما يتجاهلون واقع الدمار الذي ينخرنا وعمق الآلام التي تسكننا.. التونسي اليوم في أقصى درجات النكران (le déni).. يريد أن يغمض عينيه حتى لا يرى بشاعة الواقع.. وحتى يهرب من مسؤوليته في هذه البشاعة.. ومن مسؤوليته في تغييرها.. عاقبة النكران إما انفصال تام عن الواقع أو انفجار غير متوقع يخرج عن السيطرة".

ومن المتوقع أن يتحول المسلسل وحسب تصريحات مخرجه الأسعد الوسلاتي إلى فيلم بالشراكة مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.