قضايا وآراء

التداعيات "المخيفة" ما بعد جائحة كورونا على الاتحاد الأوروبي

1300x600
دوافع تأسيس الاتحاد الأوروبي:

بعد كوارث الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ازدادت بشدّة ضرورات تأسيس ما عُرف فيما بعد باسم "الاتحاد الأوروبي"، مدفوعا بالرغبة في إعادة بناء أوروبا ومن أجل القضاء على احتمال وقوع حرب شاملة أخرى، ومحاولة الخروج من عباءة الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على الاقتصاديات العالمية.

أدّى هذا الشعور في النهاية إلى تشكيل الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951م على يد كلّ من ألمانيا (الغربية)، وفرنسا، وإيطاليا، ودول بينيلوكس (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ).

وهي أوّل وحدة جمركية عُرفت بالأصل باسم المؤسّسة الاقتصادية الأوروبية (European Economic Community)، وتُسمّى في المملكة المتحدة بصورة غير رسمية بـ"السوق المشتركة"، التي أُسّست في اتفاقية روما للعام 1957م وطُبّقت في 1 كانون الثاني/ يناير 1958م. هذا التغيير اللاحق للمؤسّسة الأوروبية يمثّل العماد الأول للاتحاد الأوروبي، وبه تطوّر الاتحاد الأوروبي من جسم تبادل تجاري إلى شراكة اقتصادية وسياسية.

هشاشة بناء الاتحاد الأوروبي كشفته جائحة كورونا:

منذ إعلان منظّمة الصحّة العالمية تحوّل "القارة العجوز" إلى مركز لوباء "كورونا"، توالت على الاتحاد الأوروبي سلسلة من الأحداث التي مثّلت صدمات متتالية؛ نتيجة اختلاف المواقف بخصوص العديد من التحرّكات الأحادية التي مثّلت محور الأزمة، لا سيما غياب مبدأ "التضامن" بين الدول الأعضاء وغلب على بعض أعضائها النزعة الأنانية والانغلاق الذاتي، ما طَرح السؤال: كيف سيكون مصير الاتحاد الأوروبي بعد جائحة كورونا (المدمّر) بعد صعود أصوات من عدّة تيّارات سياسية تطالب بالخروج من الاتحاد أو توديع فكرة الانضمام إليه؟ ما أدّى إلى حدوث شرخ في البيت الداخلي الأوروبي.

مثلا، قد أثارت قرارات إغلاق الحدود البينية دون الرجوع إلى الاتحاد الأوروبي تصدّعا داخليا، فقد انتقدت السويد إغلاق الدنمارك مجالها الحدودي معها، ثمّ إنّ الاختلافات بين أعضائها لمساعدة الدول الأكثر ضررا ألقت بظلالها كذلك، حيث تضغط إسبانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال على كبار المسؤولين الأوروبيين بقصد إيجاد صيغة ملائمة لتقاسم الأعباء المالية. لكنّ هولندا وألمانيا تدافعان عن سنّ المزيد من التدابير المقيّدة ووضع شروط اقتصادية، تلك الشروط التي ترفضها الضفة الجنوبية للاتحاد، التي تعد المنطقة المتضررة الكبرى حتى الآن من هذا الوباء، حيث ترفض تلك الدول مسارات العمل الألمانية المقترحة لمعالجة الأزمة وتدعمها هولندا، خاصّة مسار التقشّف الاقتصادي الذي تتبنّاه ألمانيا منذ فترة وقد يزيد من أعباء دفع الضرائب، ما يسبّب أزمات داخلية تعصف بالحكومات الحالية.

وكانت ألمانيا ودول أخرى قد رفضت مناشدة تسع دول، من بينها إيطاليا الأكثر تضرّرا، من أجل الاقتراض الجماعي عن طريق كما يطلق عليه "سندات كورونا"، للمساعدة في تخفيف الضربة الاقتصادية للوباء.

وتتركّز المحادثات الحالية على حزمة مالية تتكوّن من: خطّ ائتمان احتياطي من آلية الاستقرار الأوروبية، وضمانات قروض من بنك الاستثمار الأوروبي لتوفير السيولة للشركات، ودعمٍ من الاتحاد الأوروبي للشركات المفلسة والمتعثّرة، ولا سيما دعم أجور العمّال المهدَّدين بالتسريح بسبب تداعيات أزمة كورونا.

إنّ الدول الغنيّة شماليّ الاتحاد الأوروبي (الأقلّ تضررا جرّاء فيروس كورونا)، تصرّ على ضرورة التزام أيّ دولة تحصل على مساعدة من آلية الاستقرار الأوروبية بالوفاء بشروط اقتصادية، وهو ما ترفضه دول أخرى وخاصّة إيطاليا.

ثمّ إنّ هناك خلافا حول مقترح إصدار سندات مشتركة لمنطقة اليورو، الذي تؤيّده فرنسا وإسبانيا وإيطاليا لمقاومة الانكماش الاقتصادي المتوقَّع حسب الخبراء، وقد يكون الأضخم منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنّ ألمانيا وهولندا والنمسا تعارضه بشدّة، إذ هي من الدول الغنية والأقلّ تضررا من آثار الفيروس حتّى الآن.

لقد نبّهت إسبانيا على لسان رئيس وزرائها الأسبوعَ المنصرم؛ إلى تداعيات التقشّف الصارم المعتمد في السنوات الماضية، ضاربة المثال بنتيجة الإجراءات التقشّفية المعتمدة في ظلّ أزمة الديون المترتّبة عن الركود الاقتصادي لعام 2008م، وداعية إلى عدم انهماك الدول بقضاياها الداخلية فقط؛ لأنّ من شأن ذلك أن يُفقد مشروع التكامل الأوروبي زخمَه وقوّته الدافعة.

كما عاب كثيرون داخل الاتحاد الأوروبي تردّد الجهاز التنفيذي للاتحاد في التنسيق بين البلدان في ظلّ تفشّي فيروس كورونا المستجدّ، بعدما ضرب "فيروس الأنانية" أعضاءها البارزين، ممّا سبّب تصدّعات داخلية قد تعصف بالمشروع. وقد بقي الاتحاد تحت الصدمة من هول الاستشرافات ما بعد كورونا، وقد تؤثّر سياسة احتوائه والتقليل من آثاره في مستقبل زعماء أوروبا في السلطة، ما نتج عنه غياب "التضامن" بين أعضاء الاتحاد.

ولأنّ النظر في "أزمة كورونا" أظهر تشتّت التكتّل الأوروبي القائم أساسا على روح التضامن، فقد دفع بعض زعماء أعضاء الاتحاد إلى تصنيف الجائحة على أنّها أسوأ أزمة صحّية في أوروبا منذ 1918م.

لذا، دعا "بيدرو سانشيز" رئيس وزراء إسبانيا إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لاحتواء الوباء داخل أوروبا، لافتا إلى أنّ هذا الظرف الاستثنائي يَرهن مصير الوحدة الأوروبية مستقبلا، وداعيا إلى ضرورة الاستجابة للأزمات الطارئة بصورة جماعية، عن طريق بناء "اقتصاد في زمن الحرب يعزّز المقاومة ويعيد التعافي".

التحدّيات المستقبلية داخل الاتحاد الأوروبي:

وبغضّ النظر عن الآليات التي سينتهجها الاتحاد الأوروبي لإيجاد صيغة ملائمة لتقاسم الأعباء المالية، ولا سيما للتكيّف مع صدمات المستقبل، فإنّ المزاج الشعبي الغاضب من سياسات "منطقة اليورو" إزاء أزمة "كورونا"، سيؤثّر في الاتجاهات السياسية الأوروبية مستقبلا، وسيعزّز فكرة الدخول بما يُسمّى بـ"الانعزالية الاجتماعية" حيال المجتمعات الأخرى، كما حدث لبريطانيا قبل خروجها من الاتحاد الأوروبي. فهذه الانعزالية الاجتماعية التي تولّدت نتيجة السقطات الأخلاقية وعدم الثقة حيال هذا المشروع لدى كثير من الشعوب المتضرّرة؛ قد تُؤشِّر على عاصفة سياسية في الانتخابات القادمة.

وتطرح الأزمة القائمة منظورَين منفصلَين:

- منظورا أول يسير في اتجاه حال عدم تعزيز الاندماج الداخلي بين أعضاء الاتحاد عن طريق إصلاحات جوهرية، قد يؤدّي هذا المنظور إلى خروج بعض الدول من الاتحاد الأوروبي، وتستغلّ ذلك التيارات القومية الشعبوية في الانتخابات القادمة كما حدث في بريطانيا.

- ومنظورا ثانيا يدعو إلى وضع مزيد من الشروط حيال مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد؛ لأنّ أزمة فيروس كورونا التي كشفت هشاشة الاتحاد في احتواء الوباء، راجعة إلى الفوارق في إدارة الأزمات بين دول في الاتحاد.

وتذهب جلّ تصريحات زعماء دول الاتحاد، لا سيما أقطابه الكبرى صوب خيار تدعيم صلاحيات المؤسّسات الأوروبية وعدّها أولوية قصوى للحدّ من صعود تيارات قومية يمينية مناهضة لمشروع الاتحاد الأوروبي، لكنها تشترط إعادة التفكير في المنظومة كلّها، بحيث تساير مطالب الأجيال والنخب الحالية في الاتحاد الذي تقوده الآن عقلية تقليدية بنفس تفكير ما قبل الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يتطلّب إعادة نمط التفكير ومنظومة التفكير والإدارة لدى القادة المستقبَليّين لدول الاتحاد، وهي نفس المعضلة لدى الولايات المتّحدة الأمريكية.

وقد تداولت وسائل الإعلام في الدول الأوروبية العديد من التقارير التي تضمّنت انتقادات كثيرة لتراجع شعبية الحكومات الحالية داخل الاتحاد؛ بسبب نمط التفكير التقليدي داخل الاتحاد، ومخاوف صعود يمين جديد يستغلّ الثقافة الشعبوية ووسائل الاتصال، حيث أحيت الأزمة الصحّية الراهنة المشاعر القومية من جديد لدى الشعوب الأوروبية، مقتنعة أكثر فأكثر بعدم فعالية مؤسّسات الاتحاد ونجاعتها حيال حماية الأمن القومي داخل أقاليم دولها. ثمّ إنّ غياب التضامن وبروز النزعة الأنانية كشف القناع الأخلاقي للاتحاد، الأمر الذي قد يُعزّز أزمة المشروعية لدى النادي الأوروبي.

وفي هذا السياق، شنّت الصحف الإيطالية هجوما عنيفا على الاتحاد الأوروبي، غداة قرار بإرجاء اعتماد تدابير قوّية في مواجهة التداعيات الاقتصادية لتفشّي وباء كورونا المستجدّ.

وكان رئيس الوزراء الإيطالي "جوسيبي كونتي" قد هدّد في أثناء القمّة التي نُظّمت بواسطة الفيديو؛ بعدم التوقيع على الإعلان المشترك في حال لم يعتمد الاتحاد تدابير قوّية، "مرفقة بأدوات مالية مبتكَرة وملائمة بالفعل لحرب يجب علينا خوضها معا".

واختارت صحيفة "فاتو كوتيديانو" عنوان "كونتي يقول لأوروبا.. ميتة أن تذهب إلى الجحيم". كما عنونت "لا ريبوبليكا" ذات الخطّ السياسي المؤيّد للاتحاد الأوروبي تقليديا: "أوروبا قبيحة".

الشعبوية، السِّيْمَةُ الأساسية في الديمقراطية الغربية، قد تحدّد مستقبل الاتحاد بعد أزمة كورونا:

إنّ المجتمعات لا تؤسّس آراءها واتجاهاتها أو تتّخذ قراراتها وفق أحكام المنطق والعقل المتّزن بالضرورة، فهناك جانب آخر عاطفي يؤثر بالأساس في اتجاهات الجمهور في العولمة الإعلامية، ويُطلَق عليه عددٌ من المصطلحات، مثل "العاطفة الجمعية أو المزاج العام"، يتحكّم فيه الإعلام والخطابات الشعبوية في النظم الديمقراطية الحديثة. ووجود اتجاهات عامّة ترفض التداعيات السلبية للعولمة من التيارات المتطرّفة في الاتحاد، قد ترفع من شعبيتها مقابل التيارات المعتدلة المتمسّكة بمشروع الاتحاد.

وفي ظلّ الأحداث المفاجئة وغير المتوقَّعة التي صدمت العالم بأسره، فإنّ التكتّل الأوروبي بات ملزَما بالبحث عن صيغة توافقية من شأنها استيعاب الصدمات المتتالية، لا سيما في ظلّ التداعيات الاقتصادية ما بعد جائحة كورونا، التي ستؤثر على الخريطة العالمية بظهور أقطاب أخرى تعزّز مكانتها، مثل المحور الشرقي كالصين وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وبالأخصّ المحور التركي الذي ينظر إليه كقوة صاعدة في المنطقة، ما يتطلّب من الاتحاد إصلاحات عميقة ومدروسة للحدّ من آثار الجائحة، ما يمكنها ترميم الدمار سريعا بأقلّ الخسائر، للمحافظة على مكانتها لاعبا ومؤثّرا أساسيا في الخريطة العالمية، سواء السياسية أو الاقتصادية وحتى العسكرية، والاستعدادات الاستباقية الفعّالة للتعامل مع الأزمات الطارئة مستقبلا، عن طريق تصحيح المسار الحالي الذي يشجّع الشعبوية التي تحوّلت إلى نمط سياسي "جاذب" في أوروبا، بعدما نجح في جرّ بريطانيا إلى خارج الاتحاد الاوروبي.

الاتحاد الأوروبي ما يزال تحت صدمة بعد خروج بريطانيا، ولا يريد إعادة السيناريو، خاصة بعد أن أثبتت صدمة كورونا أن خيار التيارات المؤيّدة للخروج في بريطانيا، (وعلى رأسها تيّار يرأسه "بوريس جونسون" داخل حزب المحافظين، والآخر يرأسه "نايجل فاراج" الزعيم السابق لحزب "الاستقلال (يوكيب) ومؤسس حزب بريكست، وهما من أبرز الداعين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، كان صائبا ومحقّا، وهو ما سمح لبريطانيا بالتعامل مع الأزمة خارج الاتحاد بسلاسة واستقلالية، ولا سيما عدم تقاسمها أعباء آثار ما بعد الجائحة حيال الدول الأكثر تضرّرا.

وهذا الأمر يشجّع التيارات القومية داخل الاتحاد في الانتخابات القادمة على تجنيد الطبقة المتضرّرة وراءها، وهي الفئة الواسعة في المجتمع داخل الاتحاد، لتحريك عواطف الشعوب نحو انعزالية اجتماعية ذات طابع قومي، تمهّد لتفكيك الاتحاد الأوروبي، المشروع الجامع للشعوب الغربية، بعدما سقط أخلاقيا تحت ضربات فيروس كورونا، مع عجز الاتحاد في إدارة الأزمة وفي ترسيخ المساواة والعدالة بين شعوبها المتضرّرة والأقلّ تضررا، جراء هذه الصدمة التاريخية التي بينت هشاشة الاتحاد كقوة متماسكة.