قضايا وآراء

بلاد الهدر والصراعات

1300x600
أكبر جرائم الاستعمار في حق الشعوب المستعمرة أن أفقدها هويتها ودمر مواطن الإجماع فيها.. لم يكن استعمارا، بل كان دمارا.. فقدت تلك الشعوب بفعل جرائمه هويتها، ونشأت فيها نخب تربت في مدارس الاستعمار، اشتغلت لعقود طويلة على تدمير ما حافظت عليه المجتمعات المستعمرة (بفتح الميم الثانية) من عناصر الهوية الجامعة ومن القضايا محل الإجماع الأهلي، وهو ما خلق مجتمعات ودولا ذاهلة متخبطة، لا تعرف من هي ولا ماذا تريد.. من هو عدوها ومن هو صديقها.. كيف تصنع تنمية وعلى أي منوال؟

هذا الأمر جعل مجتمعات ما بعد الاستعمار، وخاصة العربية والمسلمة، تنشأ فيها صراعات هووية منفلتة من عقالها.. نخب متغربة في مواجهة الشعوب وثقافتها التقليدية، ودول قطرية صغيرة تختنق بالأمة الجامعة وتضيق بها، تريد اجتثاثها من كينونتها، وصناعة مفهوم جديد للأمة يطابق الدولة القطرية الضيقة، وهو مفهوم لا تجد الشعوب فيها نفسها ولا ترضى به ولا يستغرق أشواقها.

في تونس بدأت معركة الدولة والنخب مع الهوية العربية الإسلامية لتونس مبكرا.. فمنذ الاستقلال، أُغلق جامع الزيتونة، وجاهر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بتناول كوب عصير برتقال في نهار شهر رمضان، وتم اعتماد مجلة للأحوال الشخصية مسكونة بروح الصراع مع المجتمع وتقاليده..

في هذا المناخ عشش اليسار الهوياتي التونسي وفرّخ.. انطلق مما ذهبت فيه الدولة وزايد عليها في أيديولوجيا التحديث (بل الاجتثاث) العمياء.. وجاء حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ليكمل المسار ويفاقمه، وليعمل اليسار ودولة القمع والفساد معا ويدا بيد لاستكمال اجتثاث الهوية العربية الإسلامية للبلاد.

بلاد الصراعات

منذ ظهور التيار الإسلامي في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، حرص اليسار على قتل الوليد قبل أن يكبر.. لكن الوليد نجح في الاحتماء بالثقافة الشعبية والقيم التقليدية وحاضنتها الاجتماعية.. وسريعا ما صار ممثلا لأشواق قطاعات واسعة من المجتمع.. هنا تضافرت جهود الدولة القهرية ونخب اليسار في محاولات الإجهاز على التيار الإسلامي..

في عام 1981، اعترفت الدولة الداخلة حديثا في تجربة التعددية السياسية؛ بالحزب الشيوعي التونسي، فيما كانت قوات الأمن والمحاكم تعتقل الإسلاميين وتحاكمهم، في رد عجيب على مطالبتهم برخصة العمل السياسي القانوني، أسوة ببقية القوى والأحزاب.

عام 1987، وبعد أن ظهرت قدرة التيار الإسلامي اليافع على الصمود في وجه الدولة القمعية حتى رحل بورقيبة من الحكم، أعلن اليسار ممثلا في قواه الرئيسية (تيار الوطد، حزب العمال الشيوعي التونسي، وبقايا مجموعة آفاق)، في نقاشات علنية على صفحات الجرائد والمجلات التونسية، أن الدولة هي الحصن الوحيد الباقي والسد القادر وحده على صد "الأصولية".. ومن هنا دخل اليسار جماعات وأفرادا في التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم بهدف مركزي: القضاء على الإسلاميين..

أعدوا خطة تجفيف الينابيع الدينية، وتولوا "إصلاح" التعليم، بل إفساده وإفساد أجهزة الثقافة والإعلام؛ للقضاء التام على التربة التي تنتج الناشط الإسلامي.. لقد تضافرت دولة القمع مع قوى اليسار للقضاء على الظاهرة الإسلامية.. واستمر الحلف الأثيم يخرب قيم المجتمع ويدمر نسيجه العلائقي، حتى قامت الثورة وهرب المخلوع ابن علي.

بعد الثورة، عاد التيار الإسلامي أقوى مما كان عليه في الثمانينيات، رغم عقدين من القمع والنفي والتشريد.. لم يجد اليسار الذي هزمته حركة النهضة انتخابيا مرة تلو مرة؛ سوى الكيد للحركة من أجل اتهامها باختراق أجهزة الدولة، وأن لها تنظيما عسكريا وأمنيا سريا. والغرض النهائي حل الحركة وإلغاء وجودها السياسي، حتى يتمكن اليسار من الاستفراد بالساحة، كما كان يفعل بالمناولة في عهد الرئيس المخلوع، لعل ذلك يسمح له بالفوز في الانتخابات مرة في غياب خصمه.

لا يمكن لمجتمع أن يبني ذاته في مناخ الصراعات.. بل ربما للدقة قلّ أن ينجح مجتمع ما في بناء تنمية مستدامة، ويحقق نجاحات اقتصادية في مناخات الصراع والكيد والتآمر.. من أجل ذلك، تشكو تونس من مصاعب اقتصادية كبيرة.. ديونها تتراكم واقتصادها يترنح وعملتها تنهار أمام سلة العملات الدولية، وخاصة اليورو والدولار.. هذا الوضع لا يلقى ما يكفي من اهتمام قطاع واسع من الطبقة السياسية ونخب اليسار.. فصراعاتها وتصفيات خصوماتها التاريخية أولى من النهوض بالبلاد.

دولة الهدر

أظهرت فيضانات نابل الأخيرة أن الحديث عن دولة حقيقية وعن نجاحات اقتصادية وعمرانية كانت الأنظمة ما قبل الثورة تفخر بها إنما هي مجرد مزاعم لا غير.. فيضانات غير متوقعة كشفت درجة تردي البنية التحتية، وبينت عن عمليات فساد وغش واسعة، كان المقاولون يمارسونها، ربما تحت بصر الدولة وعيونها.. طرقات وجسور أنجزتها دولة ما بعد الاستقلال اجتاحتها المياه، كأنما هي مجرد لعب أطفال، بينما صمدت جسور وطرق من عهد الاستعمار، وهو ما يكشف درجة الهدر والفساد المسيطر في دولة الفشل والإخفاق.

ليست نابل وحدها تقف دليلا على الهدر والإخفاق.. تونس التي كانت تعرف بأنها مخزن غذاء روما، صارت اليوم تستورد الحليب من بلجيكا وفرنسا.. تكتشف الحكومة فجأة أن قطيع البقر الحلوب في تونس يكاد يتبخر.. أعداد كبيرة من البقر جرى تهريبها نحو الجارة الجزائر.. أبقار لحوم وحليب..

العلف يرتفع سعره والحليب يحافظ على سعره القديم.. والفلاح بات عاجزا عن تربية البقر.. لم يعد يجد فيها مكسبا.. وعصابات التهريب على الحدود لا تنام.. وفجأة تكتشف الحكومة أن البلاد لم تعد توفر ما تحتاجه من حليب.

حوارات واحتجاجات كثيرة خاضها اتحاد الفلاحين والفلاحون من خلفه للمطالبة بتعديل سعر الحليب، حتى يجد الفلاح آخر العام توازنه المالي.. لكن الحكومة ترفض الزيادة بأقل من ربع دينار، وتستورد الحليف بما يقرب من ضعف سعره في تونس.. أما كان أولى أن تصل تلك الأموال للفلاح التونسي بدلا من الفلاح البلجيكي وبالعملة الصعبة؟

الفلاح الذي يزرع البصل ويبيعه بلا ثمن تقريبا لن يزرعه في العام القادم.. في العام القادم سيكتوي المستهلك بالتهاب الأسعار.. ودولة الهدر تتفرج أو غائبة.. والفلاح الذي يزرع البطاطا ويقضى عامه ينتظر ثمرتها، ويفاجأ بأن الحيتان الكبيرة من التجار ورجال الأعمال الفاسدين الممولين للأحزاب الفاسدة تستورد بطاطا من أسواق قريبة أو بعيدة لن يزرع هو أيضا البطاطا العام القادم.. فإما تلتهب الأسعار وإما تستورد الدولة وتغرق أكثر في الديون واختلال ميزانها التجاري العاجز أصلا.

يشكو وزير الفلاحة التونسي أحيانا من الجفاف، ويبرر به عجز وزارته عن إيصال الماء الشروب للناس في الأرياف والمدن.. لكن الوزير لا يلقي بالا ولا وزارته للماء الثمين الذي ينتهي في البحار وتغرق فيه المدن التونسية شتاء وتعطش لفقدانه صيفا..

خبير متقاعد في وزارة الفلاحة قال لنا إن نحو 40 في المئة من المياه التونسية تهدر في طريقها لمستهلكيها.. ثمانية مترات مكعبة من الماء تضيع كل ثانية في كل كيلومتر من القنوات الموصلة للماء للسكان.. قنوات قديمة متهرئة لا تكاد توصل للناس إلا 60 في المئة من الماء، ويضيع ما يقرب من النصف هدرا في الطريق.. والوزير يشكو الله لأنه سبب الجفاف.

عامان فقط شذا عن هذا الوضع بعد الثورة.. عامان حكمت فيهما ما عرف في تونس باسم الترويكا.. في هذين العامين عملت الحكومة على إعادة بناء البنية التحتية وعلى توسعه شبكة المسالك الريفية والفلاحية من أجل إدماج الفلاح أكثر في النسيج الاقتصادي.. لكن تلك الحكومة تألب عليها الجميع، وشهدت أكثر من 35 ألف إضراب واحتجاج فسقطت، وكان لليسار اليد العليا في إسقاطها.. ومنذ ذلك اليوم عادت دولة الهدر والصراعات..

كل هذا الهدر وهذا الفساد لا يراه اليسار التونسي.. ما يراه هو حركة النهضة.. ما يبحث عنه هو إلغاؤها واستئصالها من الوجود، حتى تخلو له الساحة ويعود لسيرته القديمة موظفا بالمناولة تحت جناح البورجوازية الحاكمة.