قضايا وآراء

اقتصاد مترنح يحتاج الاستقرار.. وسياسيون يفضلون كسر العظام

1300x600
أعلن رئيس مجلس النواب التونسي محمد الناصر، في خطابه في افتتاح السنة البرلمانية الجديدة الخامسة والأخيرة من عمر المجلس، عن ترتيب جديد للكتل البرلمانية، جاءت بمقتضاه حركة النهضة الأولى بـ68 مقعدا، ثم ثانيا كتلة الائتلاف الوطني الموالية لرئيس الحكومة يوسف الشاهد بـ47 مقعدا، وثالثا كتلة نداء تونس بـ43 مقعدا..

وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الإعلان رسميا عن تزحزح كتلة النداء من المرتبة الثانية إلى الثالثة، بعد أن كانت الكتلة الأولى بـ86 مقعدا عقب انتخابات 2014، وذلك بسبب كثرة ما حصل في الحزب من صراعات وانشقاقات خلال الأعوام الأربعة الماضية.

بعد يوم واحد فقط من إعلان رئيس البرلمان عن الترتيب الجديد للكتل البرلمانية، نُكبت كتلة نداء تونس باستقالة أربعة أعضاء جدد منها، ما يجعل عدد نوابها ينزل إلى 39 نائبا فقط، في عملية ضغط شديد على قيادة الحزب وقيادة كتلته البرلمانية.

وأعلن النواب المستقيلون من كتلة النداء، في ندوة صحفية الأربعاء 3 تشرين الأول/ أكتوبر، أنهم لم يستقيلوا بعد من الحزب، وأنهم يطالبون بإصلاحه وانفتاحه على العائلة الديمقراطية، لإعادة إشعاع الحزب وحضوره السياسي، مشددين على ضرورة تغيير قيادته الحالية حتى يكون الإصلاح ممكنا.

أخبار سارة للشاهد

تنزل الاستقالات الجديدة من النداء وتبدل ترتيب الكتل النيابية على قلب رئيس الحكومة يوسف الشاهد بردا وسلاما، فهذه التغيرات تعني تبدلا في المقامات السياسية وفي درجة النفوذ والتأثير في المشهد السياسي التونسي الجديد، استعداد لانتخابات 2019 الرئاسية والبرلمانية..

ومن هنا، فقد صار بوسع رئيس الحكومة، الذي كان سيف الإقالة من المنصب مرفوعا فوق رأسه منذ مطلع السنة الإدارية الجارية في كانون الثاني/ يناير الماضي، أن يتنفس الصعداء، وأن يشعر أن بوسعه القيام بالكثير من المناورات الآمنة، التي تضمن له البقاء في مقعده حتى الانتخابات المقررة بعد نحو عام من الآن.

ومما يزيد رئيس الحكومة اطمئنانا على موقعه، فضلا عن دعم المؤسسات المالية الدولية له، تحسن نسبة نمو الاقتصاد التونسي، بحيث بلغت 2.8 في المئة في الأشهر الستة الأولى من السنة الحالية، وهي نسبة نمو لم تعرفها تونس منذ سنوات.

وفي ضوء ذلك، يرى الخبير الاقتصادي محمد الصادق جبنون أن الاقتصاد التونسي غادر سرير العمليات لكنه ما زال في غرفة الانعاش. ويرى جبنون أن هذه النسبة تؤشر إلى بداية تعافي الاقتصاد الوطني، ولكن لن يحصل التعافي التام إلا إذا تم ضمان الاستقرار السياسي في البلاد.

هل يتحقق الاستقرار المنشود؟

للأسف، لا تبدو في سماء تونس مؤشرات كثيرة على اقتراب البلاد من الاستقرار السياسي المنشود.. فالصراعات السياسية لا تبدو مضبوطة ولا عقلانية؛ في بلاد باتت خلافات السياسيين ومناكفاتهم فيها مقلقة أشد القلق للرأي العام، الذي فقد الثقة أو يكاد في جميع السياسيين، ولم يعد يهتم كثيرا بالسياسة، بل بات متشائما من الوضع (86 في المئة من التونسيين متشائمون)، متخوفا من المستقبل، غاضبا أشد الغضب من تدهور القدرة الشرائية للمواطن، ومن انزلاق الدينار وتهاويه أمام العملات الرئيسية مثل اليورو والدولار.

ومن المؤسف أن تحسن مؤشرات نمو الاقتصاد لن يلمسها التونسيون قريبا، ولن تؤثر مباشرة على جيوبهم. ولذلك لا يبدو أن مؤشرات التشاؤم ستتراجع قريبا..

أكثر من ذلك، فإن الفساد وانتشاره الواسع في البلاد جعل الاقتصاد الموازي يتجاوز الاقتصاد المنظم. فنحو 54 في المئة من الاقتصاد التونسي يجري خارج الإطار الذي تتحكم فيه الدولة، وهو ما يعني أن قطاعات معينة ستستمر في دفع الضرائب المثقلة لكاهلها، في حين أن 54 في المئة من النشاط الاقتصادي سيبقى بعيدا عن أيدي الدولة، وستبقى التوازنات المالية مختلة، لا يمكن معالجتها إلا بالقروض، التي باتت خطرا محدقا بالبلاد.

وينتقد الخبير الاقتصادي محمد صادق جبنون ارتفاع الضغط الجبائي على المؤسسات الاقتصادية، وينبه إلى أنه بلغ 30.1 في المئة، وهي أعلى نسبة في أفريقيا، حسب قوله، ويمكن أن تصل إلى 34 في المئة إذا احتسبنا كلفة المساهمات الاجتماعية، وهو ما يرفع من كلفة الإنتاج ويقلص من القدرة التنافسية للمؤسسات التونسية، كما يؤكد الخبير محمد صادق جبنون .

صراعات منفلتة

رغم هذا الوضع الاقتصادي الصعب، لم يجد رئيس الجمهورية، الغاضب من حركة النهضة لأنها لم تسايره في إقالة رئيس الحكومة، من حرج في إعلان إنهاء التوافق السياسي بينه وبين شيخ النهضة السيد راشد الغنوشي، وهو التوافق الذي ميز التجربة التونسية، وحمى تونس من المصير الذي آلت إليه باقي ثورات الربيع العربي، وحافظ لها على مسارها الديمقراطي، رغم ما رافقته من تعثرات ومن عجز اقتصادي.

كذلك، فإن الجبهة الشعبية، العدو التقليدي للتيار الإسلامي عامة وحركة النهضة خاصة، قد وجدت في انتهاء التوافق بين النهضة ورئيس الجمهورية فرصة لإحياء مطالبها القديمة بحل حركة النهضة، القوة الأولى في البرلمان، بزعم أنها متورطة في اغتيال القيادي السابق في الجبهة الشعبية شكري بالعيد في العام 2013، وأن لها تنظيما عسكريا سريا، وهو ما نفته النهضة بشدة، مهددة برفع الأمر للقضاء.

النهضة ذاتها تعيش مخاضا حادا بين تياراتها المختلفة. ويبدو أن موقف رئيس الجمهورية المطالب بإقالة رئيس الحكومة، والخوف من أن يصير رئيس الحكومة الشاب دكتاتورا جديدا في تونس، يجد مؤيدين داخل الحركة. فقد أعلن القيادي السيد فرجاني، عبر قناة تلفزيونية خاصة، أن على النهضة أن تعود لتوافقها مع رئيس الدولة، وأن عليها أن تكون حذرة كل الحذر من رئيس الحكومة، الذي اعتبره سيد الفرجاني دكتاتورا صغيرا يترعرع بالتدريج.

في الأثناء يستمر استخدام الملفات بين الخصوم والمتصارعين داخل نداء تونس، ويمضي النداء من انشقاق إلى انشقاق آخر، ومن صراع إلى صراع أشد. ويتوقع أن يكون التنفيذ العاجل للحكم بسنتين سجنا نافذتين على القيادي في نداء تونس، برهان بسيس، القشة التي قد تقصم ظهر الحزب.

فتنفيذ الحكم بشكل عاجل سيطلق صيحة فزع داخل قيادات الحزب، وربما يعجل برحيل جماعي نحو مظلة يوسف الشاهد. وتنفيذ الحكم على بسيس يعني أن مظلة رئيس الجمهورية لم تعد حامية من أمطار السياسة الساخنة، وأن يوسف الشاهد هو من يملك المظلة الحامية لناشطين في الحزب المترهل، كثير منهم على علاقات مشبوهة مع رجال أعمال يوصفون بالفاسدين.

إنها صراعات السياسة التي يعشق فيها البعض خيار كسر العظم بدلا من جبره.. صراعات يرجو الكثيرون أن لا تعصف آخر المطاف بالمسار الديمقراطي الهش، وبالاقتصاد المترنح، وبنمو يحتاجه التونسيون، ويفسد مناخه السياسيون، بصراعاتهم المنفلتة من عقلها وعقالها.