كتب

أزمات العالم تكمن في الحداثة لا خارجها.. قراءة في كتاب

ثمة مساع فوضوية وجنونية لتعويض الفراغ الذي تركته الروابط التقليدية، عبر أفعال لا يتقبلها العقل..
ثمة مساع فوضوية وجنونية لتعويض الفراغ الذي تركته الروابط التقليدية، عبر أفعال لا يتقبلها العقل..
الكتاب: "زمن الغضب.. تأريخ الحاضر"
المؤلف: بانكاج ميشرا
المترجم: معاوية سعيدوني
الناشر : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/عالم المعرفة


القلق والاستياء والإحباط والعنف مظاهر شائعة باتت تسيطر على مشاعر وسلوكيات البشر في زمننا هذا، لكن جذورها وأسبابها، على عكس ما يعتقد البعض، تعود إلى بداية عصر التنوير وانطلاق قطار الحداثة، وليست مرتبطة فقط بأوضاع سياسية واقتصادية آنية أو عجز بعض الشعوب عن التقدم واللحاق بركب التطور.

من زاوية الرؤية هذه يقدم الروائي والمفكر الهندي بانكاج ميشرا كتابه هذا، الذي يحلل فيه بعمق الأوضاع السائدة في العالم والاحداث التي صاغته منذ عصر التنوير. حيث يتتبع منابع الشعبوية والتطرف الذين أصبحا يهيمنان على عصرنا، ويخلص إلى أن هذه الوضع مرده الإحباطات التي يشعر بها المهمشون الذين لم يجدوا ضالتهم في الحداثة كما تبلورت في العالم الغربي أولا ثم انتشرت في العوالم الأخرى. وبالتالي يدحض المقاربة التي تعتبر أن معضلات العالم تكمن أسبابها خارج الحداثة الليبرالية، وتضعها بالأساس على كاهل الإسلام وطبيعته العدائية المزعومة، ويذهب إلى اعتبار أن ظواهر مثل القومية الثقافية، والإسلام السياسي، والإرهاب ، والتعددية، تضرب جذورها كلها في فكر التنوير.

وبحسب ما يرى ميشرا فالنموذج الذي صدره الغرب (أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) القائم على العلمنة والتقدم الصناعي وحرية المبادرة، وابتغاء الربح المادي، والسلطة، والفردانية، يحمل في طياته بذور أزماته. فالحداثة التي تعصف بالبنى التقليدية تظل عاجزة عن الوفاء بوعودها بتحقيق المساواة والارتقاء الاجتماعي والسعادة والرفاهية للأغلبية العظمى من البشر.

التاريخ القريب

يحشد ميشرا في كتابه العديد من الأحداث التاريخية، والمقولات الفكرية للكثير من الفلاسفة والأدباء والمنظّرين على مدى قرون، ليشرح كيف أننا نعيش اليوم واقعا مضطربا هو صورة لواقع آخر مضطرب، تكرر في فترات تاريخية سابقة، نتيجة لتوجهات فرضتها الحداثة الغربية على شعوب الأرض منذ زمن بعيد. وفي التمهيد يبدأ بالشاعر والأديب القومي الإيطالي غابريالي دانونزيو الذي استولى في العام 1919 على مدينة فيومي على ساحل بحر الإدرياتيك، والذي راوده حلم عظيم بالاستيلاء على كل الأراضي التي كانت على مر العصور جزءا من وطنه الأم إيطاليا. يقول ميشرا أن هذا الشاعر، الذي كان موسوليني وهتلر من المتحمسين لخطبه، أيد بحماس كبير الغزو الإيطالي لليبيا. وقد التف حوله آلاف الشباب من مختلف البلدان، من المهمشين الغاضبين الذين كانوا يشعرون بعدم الجدوى في مجتمع يُغني نموه الاقتصادي الأقلية دون الأكثرية، وتحولت فيه الديمقراطية، بحسب ما رأوا، إلى لعبة يحرك خيوطها ذوو النفوذ. وقبل ذلك ومن بعد، يضيف ميشرا، ابتكر المحبطون باختلاف مشاربهم أنماطا جديدة تماما في عالم السياسة، من القومية إلى الإرهاب.

في السنوات الأخيرة وجه الغوغائيون حقد وإحباط مواطنيهم الذين يشعرون بالتهميش، بعدما تراجعت المساواة في مجتمعاتهم، التي يلفها الغموض السياسي والاقتصادي، نحو المسلمين.
وفي فرنسا بلد الثورة صُدم كثيرون على مدى وقت طويل بالتناقض البشع بين أمجاد الثورة والعهد النابليوني من جهة، والتسويات الدنيئة التالية لهما في إطار الليبرالية الاقتصادية والسياسات المحافظة من جهة أخرى. فنادى أليكسي دوتوكفيل (فيلسوف ورجل سياسة 1805 ـ 1859) مرارا بضرورة خوض مغامرة كبيرة تجدد طاقات الأمة الفرنسية، وكانت تلك مغامرة الهيمنة على الشعب الجزائري، وتأسيس إمبراطورية فرنسية في الشمال الإفريقي!. وفي تسعينيات القرن التاسع عشر، في زمن تسارعت فيه آلة العولمة الاقتصادية الأولى، طالب السياسيون المعادون للأجانب في فرنسا باتباع سياسة حمائية، ووجهوا سهامهم إلى العمال الأجانب، فقتل عشرات العمال المهاجرين الإيطاليين من طرف فرنسيين غاضبين في العام 1893.

وفي مطلع القرن العشرين الذي واجه فيه العالم أولى أزمات الرأسمالية العالمية الكبرى وأكبر هجرة دولية في التاريخ، ظهر فوضويون وعدميون يبغون تحرير الإرادة الفردية من القيود القديمة والمعاصرة التي تكبلها، وكانت وسيلتهم في ذلك العنف الإرهابي، فقتلوا العديد من رؤساء الدول، إلى جانب أعداد كبيرة من المدنيين في الأماكن العامة. يقول ميشرا إن دانونزيو لم يكن إلا واحدا من متلاعبين كثر انجبتهم الثقافة السياسية المنبثقة عن انتقال الغرب إلى الرأسمالية الصناعية وممارسة السياسة على نطاق شامل. لقد كان مناخا ثقيلا مسمم ملأ العالم كله بالريبة والجشع والهلع، بحسب وصف شاعر الهند طاغور. ويضيف: في زمننا الذي يلتحق فيه متطرفون من كل حدب وصوب بحركات عنيفة، تظهر لنا حركة دانونزيو كنقطة تحول مهمة في تاريخ حاضرنا ، فهي من وقائع التاريخ القريب الكثيرة التي نسيناهاعلى رغم أهميتها في فهم واقعنا.

وعود الحداثة

خلال العشرين سنة الماضية تبنت نخب كثيرة، بما فيها تلك الموجودة في دول اشتراكية سابقا، الليبرالية العالمية نموذجا لمجتمع تحكمه مصالح الأفراد الذاتية، وهو مجتمع بشر به في القرن الثامن عشر مفكرو التنوير مثل مونتسكيو، وآدم سميث، وفولتير، وكانط. ويرى ميشرا أننا نعيش اليوم بالفعل ضمن سوق عالمية موسعة ومتجانسة، يبرمج فيها البشر لتحقيق مصالحهم الذاتية من دون تنازل، ويتوقون فيها لتملك الأشياء نفسها من دون اعتبار لاختلاف ثقافاتهم ومزاجهم الشخصي. وهو عالم بدون شك أكثر تعلما وتواصلا من أي فترة تاريخية أخرى، حيث ازداد متوسط مستوى المعيشة وإن لم تكن تلك الزيادة عادلة، وحدثت فيه ثورة علمية أساسها الذكاء الاصطناعي والروبوت والطائرات الصغيرة المسيرة..الخ، لكن كل هذه الإنجازات وبالرغم منها لم تتحقق وعود الحضارة الجديدة، فالعولمة أضعفت أشكال السلطة القديمة في الديمقراطيات الأوروبية كما في الأنظمة الاستبدادية، وأنجبت فاعلين كثيرين عبر العالم يصعب التنبؤ بسلوكهم، من القوميين الانجليز والصينيين إلى القراصنة الصوماليين، مرورا بتنظيم الدولة الإسلامية. ولا تزال الصين المنفتحة على اقتصاد السوق ابعد عن الديمقراطية من ذي قبل، وفي روسيا أنجبت تجربة رأسمالية السوق الحرة نظاما ناهبا، وأدت الانتفاضة ضد العولمة والمستفيدين منها إلى مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وأصبحت ردود الفعل العنيفة الرافضة للديمقراطية، وتجذر التطرف اليميني من مميزات الحقل السياسي في بلدان مثل النمسا وفرنسا والولايات المتحدة، كما في الهند وتايلند والفلبين، وراجت كراهية المهاجرين والأقليات وكل ما قد يوصف بـ"الآخر".

الحداثة التي تعصف بالبنى التقليدية تظل عاجزة عن الوفاء بوعودها بتحقيق المساواة والارتقاء الاجتماعي والسعادة والرفاهية للأغلبية العظمى من البشر.
يوضح ميشرا أنه في أواخر القرن التاسع عشر كان رد الطبقات الحاكمة في أوروبا واليابان على الأضرار والاختلالات الناجمة عن السوق العالمية، الحث على رص الصفوف لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، فنسجت خرافات جديدة عن التضامن الإثني والديني، وفسح المجال للقومية العسكرية لخوض ما اعتبر صراعا من أجل البقاء. وفي النصف الأول من القرن العشرين لم يعتنق النازيون والفاشيون وحدهم نظريات الداروينية الاجتماعية في سعيهم المسعور إلى التحديث، بل اتسعت القاعدة الداعمة لهذه النظريات في أوروبا وأمريكا، وبين الطبقات المتعلمة في تركيا والهند والصين. وبحلول أربعينيات القرن العشرين تصادمت القوميات المتنافسة في أوروبا في أكثر الحروب وحشية وبشاعة بحق الأفليات الدينية والإثنية. ويستغرب ميشرا كيف أنه مع كل هذه التجارب المريرة نادرا ما يتم الإقرار بأن تاريخ التحديث غلبت عليه المجازر والجنون وليس التوافق السلمي، وأن الهيستيريا واليأس لم يكونا حكرا على النازية والفاشية أو الشيوعية، إذ غطى نمو أوروبا الاقتصادي وديمقراطيتها الاجتماعية الفريدة بعد العام 1945على اضطرابات عميقة وصدامات طويلة.

ووضعت كتابات تاريخية مطهرة تمجد تأسيس العالم الحديث وتنسبه إلى عصر التنوير أو بريطانيا العظمى أو الغرب، وفصلت الحربين العالميتين عن سيرورة التاريخ، وعزلت الستالينية والفاشية والنازية عن حركية التاريخ الأوروبي ورأت فيها مجرد انحرافات مشينة. كما اعتبرت التوتاليتارية وعشرات الملايين من ضحاياها مجرد رد فعل حاقد على تراث التنوير الخيَر، ونظر إلى هذا التراث باعتباره نموذجا منزها عن إي إشكال. بينما الحقيقة الواضحة، بحسب ميشرا، أنه كان من المحرج الاعتراف بأن السياسة التوتاليتارية أسهمت في تشكل تيارات أيديولوجية عمت أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر( العنصرية العلمية، والقومية المتطرفة، والإمبريالية، والثقة العمياء في التكنولوجيا، والهندسة الاجتماعية..). ويتابع : إن التجاهل الغريب لماض متعدد الأوجه، والتركيز على الحرب الباردة والتوتاليتارية، والترويج لفكرة مواجهة الغرب للآخرين منذ أحداث 11 سبتمبر، ظواهر تفسر إفراز زمن الغضب الذي نعيشه حيرة وخوفا.

هشاشة وخيبة أمل

يرى ميشرا أننا ندخل في ما يشبه الفوضى العالمية، ذلك أن العطب الذي أصاب المؤسسات الديمقراطية، والأزمات الاقتصادية، والسياسات العنصرية في أوروبا الغربية وأمريكا، كشف عن هشاشة توازن النظام العالمي الذي توصل إليه بعد العام 1945.

لقد اتضح أن مشاريع تقدم الإنسان وإنجازاته التي روج لها اليسار واليمين والوسط الليبرالي والتكنوقراط، أغفلت الإكراهات التي يفرضها الحيز الجغرافي المحدود، والموارد الطبيعية المتقلصة، والمنظومات البيئية الهشة، حيث تم تجاهل كل هذه الإكراهات من قبل واضعي السياسات، كما أنهم لم يتوقعوا النتائج السلبية للنمو الصناعي والاستهلاك المكثف من قبيل الاحتباس الحراري.

وهكذا، بحسب ما يقول، قوضت ديانات الخلاص العلمانية الحديثة أهم فرضية تأسست عليها والقائلة بأن المستقبل سوف يكون أفضل من الحاضر ماديا، مضيفا أنه في مثل هذه الظروف تزدهر معاداة الإسلام أو الإسلاموفوبيا، لتقوي شوكة الغوغائيين كما قوتهم معاداة السامية خلال الأزمات التي عاشتها أوروبا خلال مسيرتها نحو الحداثة. ففي السنوات الأخيرة وجه الغوغائيون حقد وإحباط مواطنيهم الذين يشعرون بالتهميش، بعدما تراجعت المساواة في مجتمعاتهم، التي يلفها الغموض السياسي والاقتصادي، نحو المسلمين.

ومن جهة أخرى يتساءل ميشرا؛ هل يستطيع ملايين الشباب في مختلف بقاع الأرض تحقيق وعد الحداثة المتمثل في الحرية والازدهار؟ وهل تستطيع المسلمات السائدة مثل استقلالية الفرد والبحث عن المصلحة، التي وضعتها وروجت لها أقلية محظوظة، أن تعمل لصالح أغلبية البشر في عالم مزدحم ومترابط؟ أم أن شباب اليوم محكوم عليه بالتأرجح بين الشعور بعدم جدواه والنزوات الانتقامية؟.

ويقول أنه حتى العام 1919 كانت قلة من البشر من شعروا بخيبة أمل من الحداثة الليبرالية، فحتى ذلك الوقت وتحديدا في آسيا وإفريقيا كانت الديانات والتصورات التقليدية توفر لأغلب الناس حاجاتهم الضرورية والأساسية لفهم العالم بطريقة تعطي معنى لحياتهم، وتؤسس لعلاقاتهم الاجتماعية، وكانت هذه المجالات لا تزال محافظة على بنية أسرية متينة ومؤسسات مهنية ودينية مباشرة تحدد المصلحة العامة ومعالم الهوية الفردية، وعلى رغم أن هذه الروابط التقليدية عادة ما تكون قاهرة جدا فإنها كانت تسمح للأفراد بالتعايش في المجتمعات التي ولدوا فيها.

أما اليوم وقد اتسعت تجربة الحرية الفردية السابحة في فضاء مقفر، وترسخت لدى أغلب البشر في البلدان المتطورة والنامية والمتخلفة على حد سواء، فثمة مساع فوضوية وجنونية لتعويض الفراغ الذي تركته الروابط التقليدية، عبر أفعال لا يتقبلها العقل، مثل أن يتم صناعة أساطير، أو تخيل أمجاد، وهي تظهر مثلا في البحث عن التضامن لإعادة بناء مجد الهندوسية المفقود في الهند، أو في الدعوة إلى بعث نظام الخلافة في الشرق الأوسط عبر تنظيمات إرهابية كتنظيم الدولة الإسلامية.

يلخص ميشرا الفكرة الأساسية لكتابه بأنه يتناول الخلفية الثقيلة لبناء الأمم والتحول بوتائر متفاوتة من اقتصاديات إقليمية وزراعية إلى اقتصاديات صناعية وعالمية، مع تصاعد ممارسة السياسة على نطاق واسع، وتزايد نفوذ وسائل الاتصال، فهو يصف أساسا منظومة سلوك عقلي ونفسي رافقت انتشار مشهد الحداثة من الغرب الأطلسي إلى قلب أوروبا وإلى روسيا وإلى الشرق منها، ويبين كيف أوجد الزوال الوشيك للنظام القديم، والوعود التي حملها النظام الجديد، هياكل عالمية في الشعور والفكر بشكل شبه متزامن.

كما يعتبر الكتاب ظاهرة الاستياء الخاصية الأساسية المميزة لعالم تنتشر فيه بلا حدود ظاهرة محاكاة رغبات الآخرين، أو عالم يصطدم فيه وعد الحداثة بتحقيق المساواة بالفوارق الشاسعة في السلطة والتعليم والجاه والملكية.
التعليقات (0)