كتب

هل الابتكار التكنولوجي مرتبط بنمو الاقتصادات الرأسمالية؟ قراءة في كتاب

الأمر الأكثر ترجيحاً من البطالة الجماعية في العالم الغربي هو استمرار تردي الطبقة الوسطى..
الأمر الأكثر ترجيحاً من البطالة الجماعية في العالم الغربي هو استمرار تردي الطبقة الوسطى..
الكتاب: "قدوم الإقطاع الجديد - تحذير إلى الطبقة الوسطى العالمية"
الكاتب: جويل كوتكين 
ترجمة: د. نايف الياسين
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب،دمشق، الطبعة الأولى 2023
(373 صفحة من القطع الكبير)

غذى التقدم التكنولوجي المحرز في وقت من الأوقات تحقيق المزيد من الرخاء للأغلبية في الدول الرأسمالية الليبرالية. أما اليوم، فإن الأتمتة واستعمال الذكاء الاصطناعي يعد بتسريع الانقسامات الاجتماعية بين البلدان وداخلها على حد سواء. ورغم أنه من غير الواضح أن ينجم عن هذه التكنولوجيا عدد أقل من الوظائف إجمالاً، فإنَّ بعض القطاعات تتعرض للتهديد على نحو خاص، ولا سيما التصنيع والنقل، وتجارة التجزئة ـ وهي القطاعات التي وفرت تاريخياً وظائف مستقرة لليد العاملة. إلا أن الوظائف في تلك القطاعات قد تتعرض لتهديد أكبر بسبب التغييرات في الأنظمة، والتي تبرر غالباً على أساس بيئي، وبشكل يؤدي إلى تقييد النمو في صناعات ملموسة.

الأمر الأكثر ترجيحاً من البطالة الجماعية في العالم الغربي هو استمرار تردي الطبقة الوسطى، حيث يُجبر كثيرون على العيش في الحد الأدنى على عقود قصيرة الأجل ومؤقتة. بين عامي 2005 و2014، ارتفعت نسبة الأسر التي تعيش على دخول ثابتة أو متناقصة بأكثر من 60 في المئة في الاقتصادات الـ 25 الأكثر تقدماًعلى صعيد عالمي.

يقول المؤلف جويل: "في وجه هذه التحديات الاجتماعية، تسعى الطبقات المفكرة في الدول ذات الدخول المرتفعة ـ في الجامعات ووسائل الإعلام والفنون ـ بشكل شامل تقريباً إلى تفكيك القيم التي وجهت صعود بلدانهم، ووفرت الأساس للرخاء واسع الانتشار. وبدلاً من إشغال أنفسهم بمعالجة تبعات الركود الاقتصادي ـ المزيد من الفقر، وانعدام المرونة الحركية الاجتماعية والصراع الطبقي ـ فإنَّ كثيرين في طبقة الكتبة، حتى في الطبقة الأوليغارشية، يعززون مثل "الاستدامة" أكثر مما يعززون النمو الاقتصادي ذا القاعدة الواسعة.... تماماً كما كان رجال الدين القروسطيون يعظون ضد المادية، فإنَّ الشخصيات القيادية في العالمين الأكاديمي والإعلامي، حتى بعض النخب في الشركات الكبرى، تنظر شزراً إلى فكرة الاقتصاد الديناميكي بحد ذاتها، وروح الابتكار، والالتزام بتحسين الحياة اليومية. بل إن البعض يشير إلى أن التقدم أسطورة." وبهذه الطريقة تعزز طبقة الكتبة الفكرة المتشائمة القائلة بأن المرونة الحركية التي تمكّن الناس من الارتقاء ما هي إلا تحفة من تحف الماضي، وأن مهامنا الرئيسية الآن تتمثل في معالجة المظالم الاجتماعية وحماية البيئة، بدلاً من البحث عن سبل توسيع انتشار الثروة والفرص.

لن تجد في الإقطاع فرساناً شجعاناً. يرتدون الدروع أو قلاعاً محصنة، ولن تبنى كاتدرائيات سامقة تُطلق فيها الأناشيد الطقسية بدلاً من ذلك فإنها ستتبجح بالتكنولوجيا الجديدة المذهلة، وستغلف نفسها بعقيدة العالمية والتقى البيئي. لكن رغم كل حداثته يبدو من المؤكد أن العصر القادم سيستبدل الديناميكية الليبرالية والتعددية الفكرية بعقيدة موحدة ثابتة تؤكد الركود، وتقبل بالتراتبية الاجتماعية بوصفها النظام الطبيعي للأشياء(ص39)..

الأمر الأكثر ترجيحاً من البطالة الجماعية في العالم الغربي هو استمرار تردي الطبقة الوسطى، حيث يُجبر كثيرون على العيش في الحد الأدنى على عقود قصيرة الأجل ومؤقتة. بين عامي 2005 و2014، ارتفعت نسبة الأسر التي تعيش على دخول ثابتة أو متناقصة بأكثر من 60 في المئة في الاقتصادات الـ 25 الأكثر تقدماًعلى صعيد عالمي.
ويرى الخبراء في الاقتصاد أنَّ الابتكار التكنولوجي كان تاريخيًا مرتبطاً بنمو الاقتصادات الرأسمالية. وقد كان للثورة الرأسمالية في مطلع العصر الحديث تبعات واسعة النطاق، فقد عطلت الإيقاعات القديمة للحياة.إلا أن الرأسمالية والتقانة الجديدة معاً وضعتا الأساس لتحسين مشترك على نطاق واسع في الرفاه المادي وللمرونة الحركية الاجتماعية. وفي السياق نفسه، كان ينظر إلى الثورة التكنولوجية الحديثة في وقت من الأوقات على أنها ليست تحويلية وحسب، بل مفيدة بشكل عام. وقد تصور البعض حضارة جديدة زاخرة بالفرص العظيمة للتنمية البشرية والتحسينات المجتمعية. لكن اليوم نرى مرونة حركية اجتماعية أقل والقليل من التقدم المادي الحقيقي بالنسبة لمعظم الناس، مع تركز القوة الاقتصادية على نحو متزايد لدى عدد أقل من الشركات، ولا سيما في قطاعي التمويل والتكنولوجيا. لقد بات مستقبل البشرية  يبدو وكأنه "عصور وسطى ذات تقانة عالية" تنبأ بها عالم المستقبليات الياباني تايشي ساكايا (Taichi Sakaiya)  قبل أكثر من ثلاثة عقود.

ويرى المؤلف جويل أنَّ وادي سانتا كلارا في كاليفورنيا تحول إلى حاضنةٍ غير محتلمة للإقطاع الجديد. فقبل قرن من الزمن، كان قد بدأ بالتغير من منطقة زراعية إلى ضاحية كبيرة للطبقة الوسطى. اشترى أشخاص أثرياء من سان فرانسيسكو عزباً أنيقة في الخليج الجنوبي وأنشؤوا ريفاً نخبوياً تربى فيه الخيول إلى جانب المزارع، لكن معظم النمو اتخذ شكل قطع متواضعة من الأرض تسكنها الطبقتان الوسطى والعاملة، بما في ذلك عدد كبير من المحاربين القدامى. وكما لاحظ أحد السكان الأصليين في منطقة الخليج: "كلما رأى عدد أكبر من الناس أجمل مناطق العالم التي يمكن للمرء العيش فيها بأعينهم، وأدركوا أنها لم تكن أعلى سعراً من المناطق التي يعيشون فيها حتى استنتجوا أريد أن أعيش هنا أيضاً..

بحلول خمسينيات وستينيات القرن العشرين باتت هذه المناطق الجميلة تجتذب تقنيين ومهندسين مهرة ينتمون بشكل مؤكد إلى الطبقة الوسطى، بمن فيهم لي ديفورست Lee DeForest مخترع الأنبوب المفرغ. وكان اقتصاد تكنولوجي ناشئ يتلقى شحنة كبرى من العقود الدفاعية والفضائية الكبيرة. وجامعة كاليفورنيا في بيركلي الجامعة الحكومية الأولى في البلاد، كانت تقع في منطقة ليست بعيدة إلى الشمال. وكانت جامعة ستانفورد، التي تميزت في العلوم الفيزيائية، وأسست حديقة أبحاث ستانفورد عام 1951، أقرب حتى من جامعة كاليفورنيا. وكان خريجو ستانفورد قد أسسوا شركة هوليت ـ باكارد في عام 1939، ورعى أحد أساتذة الهندسة الذي أصبح مسؤولاً في الجامعة، البروفيسور فريدريك تيرمان Frederick Terman) شركات التكنولوجيا في المنطقة.. في العقود التي تلت أصبحت منطقة الخليج، بما فيها سان فرانسيسكو، أكبر مركز للتكنولوجيا في العالم. نجم عن هذا النمو التكنولوجي السريع تركيز الثروة والسلطة في حفنة من الشركات وبدأ كادر صغير نسبياً من المهندسين، وعلماء البيانات، ومختصي التسويق ـ وهي شريحة ضئيلة جداً من البشرية ـ بإعادة تشكيل اقتصاد العالم، وثقافته أيضاً..

يقول المؤلف جزيل: "في العصور الوسطى، كانت قوة النبلاء تستند إلى السيطرة على الأرض والحق بحمل السلاح؛ أما قوة الأرستقراطية التكنولوجية الصاعدة فهي مستمدة بشكل رئيسي من استغلال "الاحتكارات الطبيعية في الشركات القائمة على الشبكة. وتتمثل الأطراف الفائزة في التنافس الرقمي في عدد قليل من الشركات التي تعمل بشكل رئيسي في وادي السليكون وفي منطقة بيوجيت ساوند (Puget Sound). وبعد أن استولت هذه الشركات على المقاطعات الرقمية الإستراتيجية، فإنها باتت تطغى على الاقتصاد الصناعي القديم، وتحل محله."

بحلول عام 2018، كانت أربع شركات تكنولوجيا ـ آبل، وأمازون، وغوغل، وفيسبوك - تمتلك مجتمعة قيمة صافية تبلغ ربع قيمة أكبر خمسين شركة من الشركات المدرجة على مؤشر ستاندرد آند بورز للشركات الخمسمئة الكبرى، وتساوي الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا. سبع من أكبر عشر شركات في العالم موجودة في هذا القطاع. كما ولدت شركات التكنولوجيا العملاقة أيضاً ثروات فردية كبرى؛ فثمانية من أغنى عشرين شخصاً على كوكب الأرض حصلوا على ثروتهم في صناعة التكنولوجيا. وتسعة من أغنى ثلاثة عشر شخصاً تحت سن الأربعين يعملون في صناعة التكنولوجيا، وجميعهم يعيشون في كاليفورنيا. وحدها الصين، موطن تسع من أكبر شركات التكنولوجيا العشرين في العالم، تشكل أي نوع من التحدي للأرستقراطية التكنولوجية في كاليفورنيا(ص47).

كان وادي السليكون في وقت من الأوقات مركزاً للابتكارات الناشئة من القواعد حيث أنشئت شركات التكنولوجيا في كراجات منازل الضواحي، التي تمثلت رمزياً بالقصة اللافتة لشركة آبل... أما الآن فقد خُنقت ثقافة الشركات الناشئة تاريخياً على يد كبرى الشركات ذات الموارد الخيالية. إذ سرعان ما يتم الاستحواذ على الشركات الناشئة من قبل الشركات الراسخة، بدلاً من السماح لها بالنمو بشكل مستقل.

وقد تراجعت إجراءات مكافحة الاحتكارات في الولايات المتحدة بمعدل 61 في المئة منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين، الأمر الذي يترك لأوليغارشيات التكنولوجيا سلطة غير محدودة تقريباً ـ في ظل إدارات الحزبين الجمهوري والديمقراطي ـ للاستحواذ على المنافسين أو سحقهم. في السنوات الأخيرة، ابتلعت شركة فيسبوك منافسين محتملين مثل إنستغرام، وواتساب وأوكولوس وبمقاومة لا تكاد تذكر من الهيئات الناظمة. وتُعد غوغل من بين الشركات الأكثر شراهة في عمليات الاستحواذ، حيث اشترت شركة ناشئة جديدة مرة كل أسبوعين في سنة واحدة، وما مجمله 240 شركة حتى كانون الثاني/ يناير 2020..

أما في الصين، ومع افتقارها إلى الضوابط القانونية، فإنَّها تقع في طليعة الاستبداد التكنوقراطي الجديد. فقطاع التكنولوجيا فيها يأتي في المرتبة الثانية فقط بعد الولايات المتحدة، ويرى نفسه على نحو متزايد أنه خليفة وادي السليكون. وفي قطاعات معينة، بما في ذلك التجارة الإلكترونية وعمليات الدفع الإلكتروني من خلال الهواتف المحمولة، فإن الصين رسخت نفسها في موقع قيادي قوي." وينتج جزء كبير من الازدهار التكنولوجي الصيني من استثمارات هائلة سواء من قبل الشركات التي ترعاها الدولة أو الشركات الخاصة في التكنولوجيات القيادية الرائدة. في عام 2016 كانت تلك الاستثمارات أكثر بعشر مرات من مثيلتها في الولايات المتحدة من الخريجين في الهندسة والتكنولوجيا، والعلوم والطب.

وقد أنتجت الصين نخبتها البلوتوقراطية الخاصة بها أيضاً؛ إذ جاء عدد أصحاب المليارات الصينيين في عام 2017في المرتبة الثانية فقط بعد عددهم في الولايات المتحدة، ويزداد عددهم بسرعة أكبر. منذ عام 2000، دخل عدد كبير من أصحاب المليارات من قطاع التكنولوجيا والقطاعات الأخرى الحزب الشيوعي بطريقة سلسلة ما كان ما وتسي تونغ ليتصورها.

 وهكذا فإن الصين تمتلك نخبتين متداخلتين - واحدة سياسية، والأخرى اقتصادية. يمكن القول إن نشوء نخبة تكنوقراطية قد يتوافق بشكل مثالي مع الفكرة الماركسية لـ "الاشتراكية العلمية"، حيث يجري حشد العلماء والتقنيين والمهندسين من أجل الصالح العام. لكنه هدم أخلاقيات المساواة الأساسية للاشتراكية.. تصوّر ماركس صعود الطبقة العاملة ضد الطبقة البورجوازية، لكنه لم يتوقع أن يتمكن الأشخاص الماهرون تكنولوجياً من أن يصبحوا طبقة أخرى، تمتلك قدرات ورؤية خاصة بها للعالم. لقد خلق اندماج النخبة التكنولوجية الثرية بالطبقة الحاكمة السياسية أرستقراطية للفكر تكرر الدور التاريخي لطبقة الماندرين في الثقافة والحوكمة الصينيتين.

قد يكمن الجزء الأكثر إثارة للقلق في النمو التكنوقراطي في الصين في استعمال الحكومة للذكاء الاصطناعي لتنظيم المجتمع والرأي العام. إذ تُوظف لوغاريتمات معقدة لضبط كل شيء، من الإجراءات القانونية إلى منح إذن بالزواج." ويوظف الحزب الشيوعي الذكاء الاصطناعي في مراقبة الشركات جزئياً لضمان توافق أنشطتها مع أولويات الحزب." كما يستعمل النظام تكنولوجيا التعرف على الوجوه ودرجات "الائتمان الاجتماعي"، التي تشمل كل شيء من القدرة على الاقتراض والأداء في العمل إلى الموثوقية السياسية. وتجري مراقبة المواطنين أحياناً بالتواطؤ غير المعقول لشركات تكنولوجيا أميركية كبرى، وبعضها يجرب أيضاً تطبيق أدوات مشابهة على السوق الخاص.

في المستقبل، يمكن أن يشكل استخدام الصينيين لتكنولوجيا المراقبة نموذجاً لبلدان أخرى ساعية إلى توظيف التكنولوجيا في تنظيم حياة مواطنيها. في الواقع، فإن هذا النوع من القدرة على المراقبة يتم بيعه أصلاً إلى بلدان أخرى، ولا سيما في أفريقيا، كأداة يستعملها النظام في السيطرة على السكان والتجسس على الخصوم السياسيين.

يمكن القول إن نشوء نخبة تكنوقراطية قد يتوافق بشكل مثالي مع الفكرة الماركسية لـ "الاشتراكية العلمية"، حيث يجري حشد العلماء والتقنيين والمهندسين من أجل الصالح العام. لكنه هدم أخلاقيات المساواة الأساسية للاشتراكية
يمكن وصف هذا النموذج على النحو الأفضل بأنه الاشتراكية الأوليغاركية (oligarchical socialism). ستلبي إعادة توزيع الموارد الاحتياجات المادية للطبقة العاملة والطبقة الوسطى المتضائلة، لكنه لن يشجع الارتقاء الاجتماعي أو الاقتصادي أو يهدد هيمنة الطبقة الأوليغارشية. وهذا يمثل اختلافاً كاسحاً عن الاقتصاد الصناعي القديم. فبدلاً من امتلاك العقارات واكتساب درجة من الاكتفاء الذاتي، يمكن للعمال الآن أن يتوقعوا مستقبلاً أشبه بالقنانة قوامه الشقق المستأجرة والآفاق المجمدة. وبالنظر إلى عدم قدرتهم على الارتقاء إلى أن يكونوا بالغين يمتلكون عقارات خاصة بهم، فإنهم سيعتمدون على الدعم الحكومي لتلبية احتياجاتهم الأساسية.

لكن الأرستقراطية التكنولوجية الجديدة تعد نفسها أيضاً أكثر استحقاقاً بطبيعتها لثروتها وسلطتها من النخب الإدارية القديمة أو مضاربي الشركات الجشعين. " إنهم يعتقدون أنهم لا يخلقون القيمة وحسب، بل إنهم يبنون عالماً أفضل.

في الأمم المتقدمة، تتحول الطبقات الوسطى إلى بروليتاريا، ويتردى وضع الطبقات العاملة، ويتحلل التحالف القديم بين اليسار الفكري والطبقة العاملة. في ستينيات القرن العشرين، سخر راديكاليون يساريون مثل سي رايت میلز (C. Wright Mills) وفردیناند لوندبيرغ (Ferdinand Lundberg) من القدرات العقلية للأميركيين العاديين. وطبقاً للوندبيرغ، فإن معظم السكان كانت لديهم معلومات مغلوطة، ويسهل إقناعهم بأي شيء، ومشتتي الذهن". وأدى القبول العام للرأسمالية في أوساط الطبقة العاملة، إضافة إلى مسائل العرق،والثقافة بكثيرين على اليسار للسعي إلى تحالف جديد يحمل الراية التقدمية. وقد ابتعدت الطبقة العاملة، من جهتها، عن انتمائها اليساري التقليدي ليس في الولايات المتحدة وحسب، بل في جميع أنحاء أوروبا والمملكة المتحدة أيضاً. "

يلاحظ عالم السياسة السويدي بو روشستين (Bo Rothstein)، أن "التحالف القائم منذ أكثر من 150 عاماً بين الطبقة العاملة الصناعية وما يمكن للمرء أن يسميه اليسار الفكري ـ الثقافي قد انتهى". ويشير إلى أن "تحالف سياسي بين اليسار الفكري والاقتصاد الريادي الجديد" يمكن أن يحل محل نموذج "صراع الطبقات" القديم ويوفر طريقة لـ "تنظيم الخدمات العامة بطريقة جديدة وأكثر ديمقراطية". "" وفي جميع أنحاء أوروبا، تجد الأحزاب التقليدية اليسارية الآن دعماً لها بشكل رئيسي في أوساط الأغنياء، والحاصلين على تعليم عال، والموظفين الحكوميين. لقد طرأت عملية "ارتقاء" على الديمقراطيين الاجتماعيين في ألمانيا، والاشتراكيين في فرنسا، وحزبي العمال في بريطانيا وأستراليا؛ وهو ما حصل أيضاً للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، رغم عودة "الاشتراكية الديمقراطية" إلى الظهور كجزء من أيديولوجيته. لقد حوّلت هذه الأحزاب تركيزها من قاعدتها التاريخية في الطبقة العاملة نحو أشخاص يحملون شهادات جامعية.

بل إن الاختلافات في المصالح الاقتصادية، أكثر من الخلافات على الهجرة والقيم الثقافية، دقت إسفيناً بين اليسار التقليدي والطبقة العاملة. لا تهدد الأجندة التي تروج لها طبقة الكتبة اليسارية والنخب التجارية ـ فيما يتعلق بالهجرة، والعولمة، وانبعاثات غازات الدفيئة ـ مصالحهم الخاصة. إلا أنها تشكل في كثير من الأحيان تهديداً مباشراً لمصالح أفراد الطبقة العاملة، ولا سيما في الصناعات القائمة على الموارد والتصنيع، والزراعة والبناء. لقد نزعت السياسات البيئية الموجودة في مناطق مثل كاليفورنيا وأوروبا الغربية إلى تجاهل هواجس الأسر التي تنتمي إلى الطبقة العاملة."

الطبقة الوسطى الحضرية التي كانت كبيرة ذات يوم دُمرت على نحو خاص. لقد غادر كثيرون إلى الضواحي أو انتقلوا إلى ولايات أخرى. كثير من أولئك الذين ظلوا موجودين باتوا أسوأ حالاً من أسلافهم قبل نصف قرن من الزمن.

منذ العصور القديمة، وفّرت المدن فرصة لجموع الناس لتحقق الرخاء. إذ غذت روما طموحات الطبقات الوسطى التي وجدت في المدينة بيئة مثالية لتحسين أوضاعها. إلا أن الأعداد الكبيرة من العبيد الذين أحضروا إلى المدينة مع توسع الإمبراطورية حلّوا محل كثير من المزارعين والحرفيين المكتفين ذاتياً، الذين أصبحوا من ثم يتكلون على الإعانات العامة من الخبز للبقاء على قيد الحياة. وكانت أفضل نصيحة تُقدَّم للرومان، على حد تعبير جوفينال (Juvenal)، أن يهاجروا من المدينة الأبدية.

اقرأ أيضا: الرأسمالية الليبرالية المتوحشة تعيد إنتاج الإقطاع في العالم.. قراءة في كتاب

اقرأ أيضا: هل أصبح الإقطاع الجديد هو المستقبل المحتوم للبشرية؟ كتاب يجيب

التعليقات (0)