كتاب عربي 21

متلازمة المؤامرة "الإخوانية" العابرة للقارات: وليد فارس و"النمط" التونسي نموذجا

1300x600
ما هي متلازمة (syndrome) "المؤامرة الاخوانية؟"، هي إحدى حالات التحليل المؤامراتي المفرط والمنفلت من أي تأسيس عقلاني، التي لا تختلف عن أي تحليل مؤامراتي سمج آخر من أي نوع مثل مؤامرة "ناسا" في تزوير صور صعود نيل آرمسترونغ للقمر. وهنا ليس المعنى أنه لا يوجد في هذا العالم مؤامرات.

طبعا توجد مؤامرات مادام هناك سياسة. المعنى أن العالم أكثر تعقيدا من أن يخضع ببساطة لإرادة المتآمرين المنفردة.

وتقضي هذه المتلازمة تحديدا بأن أي مشكل أو أزمة أو كارثة يقف في الوضع الحالي يقف وراءها بشكل أو آخر "الخطر الإخواني".

وتعبير "الإخوان" هنا يعبر عن صورة نمطية هوليودية مبسطة، لا تتمثل في تيار سياسي فحسب، "الإسلام السياسي" عامة، بل في "بروفايل" يشيء موضوع الكلام، ويمكن أن يعني شخصا كث اللحية وبلباس أفغاني، أو امرأة منقبة أو محجبة متعكرة الملامح. 

ما كنت لأتذكر كل هذا لولا نص نشره وليد فارس على صفحته في "فيسبوك"، وكذلك على صفحته الرسمية في "تويتر".

فارس القريب من ترامب، وكان مستشاره "في شؤون الشرق الأوسط" في الحملة الانتخابية غير أنه حتى الآن لم يمنحه أي منصب رسمي، نشر بالأمس النص التالي: "تطورات في تونس: تم اطلاعنا على المحاولات المستمرة التي يقوم بها الإسلاميون التونسيون لإسقاط الحكومة العلمانية المنتخبة ديمقراطيا في تونس بالتنسيق مع الفصائل الإسلامية الليبية في طرابلس".

وإذا تأكدت التقارير، فإنه سيكون تحديا كبيرا للمعتدلين في البلاد وشمال أفريقيا، بالتالي إلى الولايات المتحدة. تناقل النص بكثافة، وأيضا برعب، مصابون تونسيون بالمتلازمة أعلاه وهم تحديدا من يقصدهم فارس بـ"المعتدلين". 

ومن الواضح، أن مصر السيسي، التي يكيل إليها فارس المديح، هي البلد الذي وصلت فيه متلازمة "المؤامرة الإخوانية" إلى مستوى "إبداعي" غير مسبوق، حيث يتم التنافس يوميا فيما أشبه بالمباراة المفتوحة على الهواء على الاصطناع الهستيري لفانتازيا "المتآمر الإخواني".

وهو وضع ينافس بكل جدية جميع سيناريوهات الخيال العلمي الأكثر رداءة. لكن يجب أن أقول إن تونس سبقتها في ذلك.

لا زلت أتذكر بداية التسعينيات عندما أصبح تعبير "الإخونجي" مرادفا لمرض الطاعون، وأي شخص تروج حوله هذه الصورة، إما يذهب وراء الشمس أو ببساطة يتعرض لعملية إعدام اجتماعي.

وعرف هذا السلوك المشحون بحالة عاطفية معقدة حالة إحياء قوية إثر فوز الإسلام السياسي بأغلبية المقاعد بعد الثورة في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، خاصة بعد أن لم تستطع الحكومة التي شغلوا أغلب مقاعدها إشباع توقعات عدد واسع من التونسيين لأسباب عدة، ليس المجال لذكرها هنا.

حينها تحركت فيما يشبه السمفونية واسعة النطاق حالة هستيرية، مفادها بأن وراء كل أزمة في البلاد تآمر "إخواني" ما. 

حتى أن أحد "الإعلاميين" الذين لعبوا دور المخبرين في فترة نظام الاستبداد، وصلت به متلازمة "المؤامرة الإخوانية" إلى الادعاء مرارا بلا خجل، أن هناك نفقا حفره لمئات الكيلومترات منتسبون لحركة حماس في جبال الشعانبي التونسية لدعم عناصر القاعدة الناشطين هناك.

وكرر ذلك الادعاء غير المسند بأي أدلة أو معطيات والمتعارض مع بديهيات معروفة (تخص مثلا الصراع الوجودي بين حماس والقاعدة) أشخاص هستيريون مشابهون في وسائل إعلام مؤثرة.  

لكن تم مرة أخرى تنويم غالبية المصابين بالمتلازمة إثر "التوافق" الذي جمع حزب النظام القديم "نداء تونس" وحزب حركة النهضة إثر انتخابات 2014.

لكن بقي هناك "متمردون" يتمسكون بالمتلازمة، وهم أشبه بجيش احتياط ينتظر لتفعيل "خطة ب" استئصالية في حالة ما لم يحقق "التوافق" الغرض منه. 

على كل حال، المصابون بهذه المتلازمة هم أنفسهم من اصطنعوا أسطورة مفادها أنهم يدافعون عن "نمط مجتمعي تونس حداثي"، ويعنون بذلك الخمسين سنة التي أسست لسلطة متخلفة استبدادية أرست منظومة فاسدة كانت ولاتزال السبب الرئيس للوضع المتأزم الذي أنتج الثورة واستتباعاتها، منظومة لاعلاقة لها بالحداثة، ويخلطون بذلك عملية "التحديث" القسري ما بعد الكولنيالية بالحداثة (إذ كيف تكون استبداديا-فاسدا وحداثيا؟!).

وعلى الرغم من أن الإسلام السياسي حتى الجناح الذي طبع مع الديمقراطية ويساهم في إرسائها لا يمثل بديلا جديا لهذه المنظومة، بل يحاول الانضواء تحتها في كثير من الحالات، إلا أن منظومة "النمط" هذه تنظر إليه كغول، تقوم على الضد منه باستقطاب يهمش أمراضها الحقيقية، أي النزعة التسلطية والتبعية الكاملة للوبيات فاسدة. 

عودة لنص فارس أعلاه، حيث يتحدث كأنه جلس في جلسة رسمية تلقى فيها معطيات استخبارية سرية ويتبين ذلك خاصة من صيغة "we were briefed".

وذلك لا يعكس في رأيي أنه جلس فعلا في جلسة مشابهة.

وإذا نظرنا إلى الطريقة العشوائية التي يعمل وفقها جزء من البيت الأبيض، فيمكن أن نتصور بأن هناك مساحة غير رسمية يتم فيها تداول بعض الانطباعات أو التحليلات، ويتم تضخيمها على أساس أنها معطيات جدية وسرية.

ويمكن أن نستخلص ذلك على سبيل المثال من جلسة حضر فيها أحد الأعضاء الرسميين في مجلس الأمن القومي "غوركا"، الذي رسم خريطة جديدة لليبيا على خرقة ورقية، قسمها إلى ثلاثة أجزاء في إطار اقتراحه لوضع جديد هناك. 

بالمناسبة، كتب فارس أكثر من تعليق في الأشهر الماضية حول ليبيا، ويدعي في عديد منها دعما منتظرا من الإدارة الأمريكية الجديدة لحفتر.

لكن لا يبدو أن ترامب حتى الآن يتجه لوضع بيضه في سلة الجنرال الليبي. ومن المرجح أن تعليقه أعلاه يهم ليبيا بقدر ما يهم تونس، وتحديدا يهم إيجاد مبررات إضافية لوضع ليبيا في منظار البيت الأبيض ضمن عدسات حفتر والتحالف الإقليمي الذي يمثله، خاصة أبو ظبي التي زارها منذ أيام، وأعلنت دعمها العلني له. 

النص أعلاه من نوع مؤامرات "النمط" الهستيرية والسطحية التي يتداولها بعض "النمطيين"، الذين تستضيفهم عدد من وسائل الإعلام التونسية.

فارس (الذي انتمى سابقا لحزب الكتائب اللبناني أيام الحرب الأهلية اللبنانية) يعبر عن خط عدد قليل من العرب الأمريكيين الذين دعموا بوش في الحرب على العراق، وتقليديا داعمين أقوياء لإسرائيل.

هنا يعبر عن توجه أشخاص (منهم على سبيل الذكر لا الحصر دانيال بايبس) دعموا لعقود أنظمة مثل نظام بن علي.

وهو توجه يدفع منذ 2011 (مثلما هو الموقف الإسرائيلي السائد) في اتجاه التركيز على أن "الخطر الرئيس" هم الإسلاميون بكل أصنافهم، واعتبروا ما حصل حينها خريف إسلامي عوض ربيع عربي.

كل ذلك ليس للتقليل من خطورة وجود أشخاص من هذا النوع ذوي تأثير في الإدارة الأمريكية يفكرون بهذه الطريقة يبقى أن عمق تأثيرهم غير واضح بعد، في ظل الفوضى في البيت الأبيض.

آخر مؤشراتها أن عراب هؤلاء جميعا، أي ستيف بانون قل تأثيره بشكل كبير، وأصبح على قاب قوسين من الإبعاد النهائي.

ملاحظة أخيرة: من المثير كيف يمكن أن يلتقي متلازمو "المؤامرة الإخوانية" بين ضفتي المحيط الأطلسي بشكل وجداني عفوي، حتى لو كان "النمطي" التونسي في حالات تخمره الروتينية يربط "المؤامرة الإخوانية" عضويا بـ"المؤامرة الأمريكية" الدائمة، في هذه الحالة التي يريد أن ينطق باسمها فارس.

فهذه المفارقات الكاريكاتورية من الأعراض الأساسية لسرديات المتلازمات التآمرية.