قضايا وآراء

ليبيا بين مليشيات الهلال النفطي ومليشيات طرابلس

1300x600
جاءت معارك الهلال النفطي الأخيرة في ليبيا لتضع الأزمة في البلاد في صدراة الأحداث سواء المحلية أو العالمية، مؤكدة استمرار حالة الاحتقان الداخلي السياسي والعسكري بين اطراف النزاع الحقيقي في ليبيا، لتستكمل اشتباكات طرابلس بين المجموعات المسلحة هناك المشهد وتساهم في ضبابية أكثر للمشهد الليبي المعقد أصلا.

بدأت أحداث الهلال النفطي بإعلان من قبل قوات سرايا الدفاع عن بنغازي (مجموعات مسلحة مناوئة للجنرال الليبي خليفة حفتر في الشرق)، سيطرتها على الموانئ النفطية في شرق البلاد والتي كانت تحت سيطرة قوات تابعة للمشير خليفة حفتر منذ عدة شهور، وهو ما اعتبر عسكريا ضربة قاصمة لقوات حفتر، وضياع لأكثر أوراق التفاوض والضغط والمراوغة التي كانت في أيدي الجنرال العسكري، لتبدأ بعدها حملة تشوية واسعة لقوات السرايا داخليا وخارجيا.

ففي الداخل تم وصف المجموعة بأنها بقايا تنظيم القاعدة، وأنها مجموعات مدعومة من قبل دول خارجية مثل قطر وتركيا، ومدعومة داخليا من قبل جماعة الإخوان، (تصريحات العقيد أحمد المسماري المتحدث باسم قوات الجيش بقيادة حفتر)، وأكدته وسائل إعلام محلية مؤيدة للجيش في الشرق ورافضة لسيطرة هذه المجموعة. وخارجيا: تم التأكيد على نفس الأمر للمجتمع الغربي خاصة، خلال تصريحات للسفير الليبي السابق في الإمارات العارف النايض، بوصفه للقوات بأنها من أتباع القاعدة والإخوان، وأنه يجب طردهم خارج الموانئ (تصريحات للنايض خلال ندوة له في واشنطن الشهر الجاري).

المعسكر المناوئ لحفتر اعتبرها نصرا جديد لثوار بنغازي، وبدأ أيضا في ترويج هذا الأمر إعلاميا، في محاولة لحشد قوات أخرى لمساندة سرايا الدفاع لمنع عودة قوات حفتر للسيطرة من جديد.

حكومة الوفاق الليبي، المعترف بها دوليا والمتواجدة في طرابلس، تنصلت من الهجوم في البداية، ثم تسلمت إدارة الموانئ من سرايا الدفاع عن طريق قوات حرس المنشآت النفطية بقيادة العقيد إدريس بوخمادة التابعة للحكومة، ثم طالبت الجميع بالابتعاد عن المنطقة كونها تمثل مقدرات الشعب الليبي ويجب تجنبها الصراعات العسكرية أو السياسية.

الدول الإقليمية، وخاصة مصر، اكتفت بدور المتفرج في البداية، ولم تدعم حفتر بأي مساعدات لوجستية أو حتى محاولة منع خسارته للمعركة، لكنها أدانت ما حدث بعد ذلك في بيان باهت للخارجية المصرية حول سيطرة قوات السرايا على الموانئ، لكن المجتمع الدولي رحب بنشر قوات تابعة لحكومة الوفاق داخل الهلال النفطي، مطالبا - كعادته - بضبط النفس.

استعادة الموانئ

لكن الجنرال حفتر لم يروق له ما حدث، وأراد أولا استعادة هيبته العسكرية في كسب المعركة من جديد، وإعادة ورقته الهامة في فرض نفسه على المشهد، وهو فعلا ما تحقق بعدما استعادت قواته سيطرتها على الموانئ النفطية بعد أيام قليلة من تمركز حرس المنشآت التابع للوفاق الوطني فيها، بعدما قصفت قوات الجنرال تمركزات لسرايا الدفاع  وقتل كثيرين منهم، وسط تساؤل حول سر سرعة السيطرة من جديد.

ومثلت استعادة حفتر للموانئ ضربة أيضا لحكومة الوفاق الوطني، والتي تعد الخاسر الأكبر في هذه المعركة، فلا هي التي تنصلت منها نهائيا ولا هي التي استطاعت الحفاظ على السيطرة بعدما تسلمت الموانئ من سرايا الدفاع، حسب تصريحات الطرفين (الحكومة والسرايا)، فهل تم التسليم فعليا؟ أم كان صوريا؟ وهل تخاذل الجميع عن صد قوات الجيش الذي يقوده حفتر؟ لا ندري أين الحقيقة حتى الآن؟ وسط توقعات بإمكانية تكرار المعارك مرة أخرى بين سرايا الدفاع ومن سيدعمها حديثا من الغرب الليبي وبين قوات حفتر.

طرابلس.. من يؤرقها؟

نترك الشرق الملتهب لنذهب للعاصمة والتي تقل احتقانا نوعا ما عما يدور في معقل الثورة الليبية (بنغازي) وما يجاورها، وتشترك العاصمة مع قرينتها بنغازي؛ في ضبابية المشهد المسلح في داخلها، ومن يسيطر فعليا، ووجود حكومتين متناحرتين (حكومة الوفاق وحكومة الإنقاذ السابقة)، ومجموعات مسلحة تقاتل من أجل السيطرة والنفوذ، وأخرى تريد فرض سيطرة الحكومة الشرعية وإنهاء أي مظاهر مسلحة خارج إطار هذه الشرعية، وهو ملخص الصدامات الأخيرة بين مجموعات تابعة لحكومة الوفاق من جانب ومجموعات مسلحة "غير رسمية"، كانت تعرقل أداء جهاز الشرطة عن عمله (بحسب تصريحات لمديرية أمن طرابلس التابعة لوزارة داخلية الوفاق)، وبين مجموعات مساندة لحكومة الإنقاذ السابقة، والتي دخلت منذ أشهر للعاصمة وسيطرة على قصور الضيافة، وطرد بعض وزارت حكومة الوفاق وأعضاء المجلس الأعلى للدولة (أحد الأجسام المنبثقة عن الاتفاق السياسي الموقع في المغرب كانون الأول/ ديمسبر 2015)، وتمكنت بالفعل قوات الوفاق من بسط سيطرتها على قصور الضيافة وأغلب الأماكن الحيوية في طرابلس المركز (بحسب هاشم بشر القيادي الأمني بمديرية أمن طرابلس)، ليعلن الهلال الأحمر.

.. وماذا بعد؟.. هل انتهى لهيب الاشتباكات بسيطرة قوات الوفاق؟ الإجابة: بالطبع لا؛ لأن الاحتقان والكر والفر هو استراتيجية للمجموعات المسلحة خاصة التي تستقوي بمدنها ومناطقها، والمجموعات المسلحة في العاصمة طرابلس مقسمة بين قوات من مدينة مصراتة، وقوات من طرابلس ووسط كل مجموعة قوات من مدن أخرى، وبعضها تابع لحكومة الوفاق وأخرى لحكومة الإنقاذ بقيادة خليفة الغويل (مصراتي، وهناك أنباء عن إصابته في الأحداث الأخيرة)، وثالثة تريد السيطرة على مناطق نفوذ معينة وفقط. ولكن لا يفهم من الكلام هنا وجود صراع بين مسلحي طرابلس ومسلحي مصراتة. على العكس تماما، فالطرفان مهمتهما تأمين العاصمة، وتتشكل القوات المسلحة الكبرى من كليهما، مثل قوات البنيان المرصوص والتي ساهمت بقوة في طرد تنظيم "داعش" من مدينة سرت الساحلية، وقوات الحرس الرئاسي وقوات رئاسة الأركان في طرابلس.. وغيرها من القوات التي تجمع المدنتين الكبيرتين.

وبالإضافة للمشهد العسكري المشتعل، تزداد حالة الاحتقان أكثر داخل المشهد السياسي، والذي لا يقل اشتعالا، فمجلس النواب الليبي منقسم وفي حالة صراعات تهدد وجوده، خاصة بعد الانشقاقات التي وقعت بين أعضائه بسبب قرار رئيس المجلس عقيلة صالح، والذي ألغى بموجبه الاتفاق السياسي خلال جلسة تصويت باهتة، ما دفع مجموعة من النواب لرفض ذلك والذهاب للعاصمة طرابلس لعقد اجتماعات تحضيرية وإصدار بيان لرفض ذلك.

حكومة الوفاق التي راهن عليها كثيرون لا تقل ضعفا ولا تشرذما من البرلمان، فأغلب قراراتها متخبطة، وخطواتها مترددة، وتحركاتها للتعاطي مع الأحداث ضعيفة جدا، وتخسر كل يوم من رصيدها الداخلي والخارجي أيضا، وأصبح الحديث عن تغيير المجلس الرئاسي وحكومته يطرح بقوة داخل أروقة المجتمع الدولي، والداخل يعتبرها أضاعت فرصة تاريخية بتراخيها وضعفها.

.. هذا الاحتقان العسكري والسياسي يبدو أنه مدعوم من قبل قوى إقليمية ودولية، وهدفه استمرار الوضع على ما هو عليه، وتأكيد سياسة البقاء للأقوى، وإضعاف ما يمكن إضعافه وتقوية ما تريده هذه القوى، خاصة أنها تقابله مبادرات ضعيفة الطرح من قبل دول الجوار وبعض القوى الدولية التي تحاول إيجاد مخرج للأزمة.. لكن المؤكد والمنطقي أن الحل بيد الليبيين أنفسهم.. فهم المشكلة وهم الحل أيضا..