قضايا وآراء

المعلوماتية وثورة الجيل القادم في الرعاية الصحية .. هل نبقى عالة ولاجئين؟

1300x600
ربما يُعد التحدث في المعلوماتية وثورة الجيل القادم في الرعاية الصحية نوعا من الترف والرفاهية الفكرية، وذلك إذا ما نظرنا من جهة إلى أرض الواقع بل إلى عين الحقيقة فيما يمر به الإنسان في الوطن العربي على الأخص من فقدان للأمن والأمان في كثير من ربوعه، ومن جهة أخرى إلى عدم وجود الجاهزية للبنية التحتية الأولية للرعاية الصحية الحديثة متلازمة مع عمود فقري معلوماتي صحي مؤصل ببنية تحتية تقنية.
 
ومما لا شك فيه، فإن أنظمة الرعاية الصحية قد شاخت في كثير من بلادنا العربية، ولن نسوق هنا كلاما افتراضيا أو جزافا بل بدعامة علمية، وفي نفس الوقت لن أخوض في التشخيص هنا تفصيلا لعدم تخصص هذا المقال، ولكن أبسط دلالة على ذلك أن حقبة السبعينيات من القرن العشرين كانت أنظمة الرعاية الصحية فيها تصنف على أنها  نظم دعم اتخاذ للقرارات فيما يخص رعاية المرضى صحيا، وما لبثت أن تطورت تلك النظم في تسعينات القرن المنصرم إلى أنظمة تتقاطع فيها عمليات الرعاية الصحية أفقيا ورأسيا مع أنظمة المعلومات والتقنيات الصحية بطريقة متكاملة. وفي بداية العقد الثاني من هذا القرن شهدنا تطور الأنظمة الذكية التي تتعامل مع البيانات الهائلهBig Data  الخاصة بالرعاية الصحية الشمولية، والتي تتميز بالتعدد النوعي لطبيعة البيانات بجميع أشكالها الرقمية والنصية والصورية والبيولوجية والإجتماعية والأسرية، وبيانات أخرى ترسل عن بعد عن طريق أجهزة محمولة أو ملبوسة يحملها أو يلبسها المريض .. الخ.   
 
ومنذ أيام؛ بالتحديد يوم 2/3/2017، وفي إحدى ندوات المنتدى المفتوح للصحة الرقمية في العاصمة البريطانية لندن، وبكل آذان صاغية لما يُتحدث به من تشخيص للوضع الحالي فيما يتعلق بقصور المعلوماتية في المساعدة في توفيرالرعاية الصحية في المملكة المتحدة، كانت هناك في الأفق صيحات وآلام تتداخل في العقل والفكر عن الفوارق، بل عن الفجوات الرقمية الشاسعة بين عالم الغرب وبين عالم الشرق العربي فيما يخص الرعاية الصحية، والتي أصبحت المعلوماتية هي العمود الفقري لها في توفير رعاية صحية؛ ليس الهدف منها أن تكون متميزة فقط، بل أن تصل بالرعاية الصحية الوطنية إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن يقدم للمريض رعاية بأقصى ما يمكن للمعلوماتية والتقنيات الرقمية أن توفره. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تكون الدافع المؤثر في تغيير طريقة الرعاية الصحية جذريا إلى الأمثل بالنسة للمريض وكل من هم ضمن فريق الرعاية الصحية ومن ضمنهم الأسرة والمجتمع.
 
وحتى نستشعر الفرق في هذا التمكين المعلوماتي للرعاية الصحية بين هذين العالمين، فلنتفكر فيما توفره المعلوماتية والتقنيات الرقمية المصاحبه للأشخاص ذوي الإعاقات، فيما تساعدهم لتخطي ما يعانون منه من إعاقات حتى وصلت بهم إلى حد تفعيل إمكانياتهم القصوى؛ وذلك حتى يكونوا فاعلين في المجتمع أسوة بغيرهم من أفراد. وكم هناك من الشواهد على قدرة المعلوماتية على تقليص الفارق في فعالية أداء الأشخاص ذوي الإعاقات مقارنة بغيرهم.
 
ولكن، ما لهذا المثال من تشبيه للرعاية الصحية دون التبني الفعال للمعلوماتية كعمود فقري في التفعيل الأمثل لهذه الرعاية خدمة للمريض بأعلى فاعلية وأقل تكلفة؟ وهل فعلا يمكن أن تكون نظم رعايتنا الصحية في حالة إعاقة؟ وهل يمكن للمعلوماتية أن تصل بأنظمة الرعاية الصحية إلى مستوى يرتفع به أداؤها تناسبا مع نسبة تقليل الإعاقة الرعوية الصحية عندها، وربما التخلص تدريجيا من تلك الإعاقات التي تحد من كفاءتها؟
 
 وبكل صراحة وشفافية، ألا يحق لنا أن نتساءل: هل شخصنا الإعاقات في نظم الرعاية الصحية عندنا؟ بل هل أدركنا وتفكرنا فيما يمكن أن تقدمه لنا المعلوماتية في مجال الرعاية الصحية؟ وهل استطعنا نتيجة لذلك أن نحدد متطلباتنا بدقة وشمولية لرعاية صحية ترتقي بأعلى مستوىً يمكن تقديمه، آخذين بعين الاعتبار الفوارق الاجتماعية والأخلاقية والقانونية والمهنية لبيئاتنا؟ وهل تخصصنا فيما يمكن أن تفعله لنا تقنيات المعلوماتية بشتى فروعها خدمة للمنتج وهو الرعاية الصحية الأمثل بأفضل تكلفة؟ وهذا ما كان أحد أسئلتي الأولى لـ"اللورد بول سكريفن"، الذي حاضر في تلك الندوة التي ذكرت أنفا عن آفاق الصحة الرقمية في المملكة المتحدة. لم أكن متفاجئا من تعقيب اللورد سكريفن وما قاله قبيل سؤالي وبعده كونه المسئول في مجلس اللوردات البريطاني عن اللجنة الوطنية لدراسة استدامة بقاء خدمة الرعاية الصحية الوطنية، والتي تعد أنموذجا في العالم الحديث، وحتى بما لها من إخفاقات يتم العمل حاليا على تقييمها، والتفعيل الأقصى للمعلوماتية في توفير رعاية صحية بفاعلية وبأقل تكلفة.
 
ولكن ما فاجأني؛ ليست إجابة اللورد سكريفن عن سؤالي هذا، بل السؤال الذي أعقبه لطبيب جراحة استشاري بريطاني عندما قال للورد: ألم يحن الوقت لنا هنا (وكان يقصد إنجلترا بالتحديد) أن نعترف أننا قد فشلنا في تفعيل الاستخدام الأمثل للمعلوماتية في نظام رعايتنا الصحية الوطني؟ وألم يحن الوقت لنا كي نبحث من خارج المملكة المتحدة عن من يوفر لنا هذا التفعيل الأمثل للمعلوماتية في الرعاية الصحية؟
 
بالطبع هذا سؤال؛ بقدر ما هو تشخيص دقيق لما واجهه وعلمه هذا الطبيب الجراح خلال عقود من عمله في نظام الرعاية الصحية البريطاني، فإنه إعلان صريح وشفاف أقر به اللورد نفسه فيما يخص وجهة نظره من خلال عمله لثلاثة عقود في إدارة الرعاية الصحية في بريطانيا. لم تأخذ العزة بالإثم اللورد سكريفن ليرد على هذا الطبيب، بل ذكر أننا دوما نسعى لنستعين بكل ما يمكن أن يرقى بخدماتنا الصحية واعترف بتقصير أداء المعلوماتية في الرعاية الصحية - مع ما نشهده في الحقيقة من قفزات نوعية قد تمت عن طريق تفعيل دور أجهزة الهواتف المحمولة الذكية وربطها الآمن والآني بنظم الرعاية الصحية في بريطانيا. ومع هذا ، فقد أكد اللورد سكريفن أنه يجب أن نُوطّن تلك الإمكانيات المعلوماتية، فلا يمكن أن نأخذها ونستخدمها من الغير فقط ، لأن من يُمكٍّنك من استخدامها سوف يعود لموطنه وتبقى دون تطوير.
 
 ولكننا نتساءل هنا - وإن كنا نعتقد بوجود الإمكانيات والكفاءات البريطانية لعمل نقلة نوعية متميزة في الرعاية الصحية الرقمية – كم نحن بحاجة في عالمنا العربي إلى من يجأر بكلمة صادقة شفافة ، دون مراعاة لمحسوبيات وظروف تحيده عن صدقه وشفافيته في تقييم الأمور؟ وكم نحن بحاجة لمجالس أعيان وبرلمانات تقوم هي بنفسها بعمل دراسات متخصصة مشخصة وموجهة لما ينبغي للحكومة ومن هم في سدة صنع القرار أن يفعلوه؟ ألسنا بحاجة إلى نوعية مختلفة من أعضاء لهذه المجالس كي تستطيع- على سبيل المثال هنا - تقييم وضع الرعاية الصحية للمواطن العربي وسبل النهوض بها، فضلا عن أوضاعه الأخرى المختلفة.
 
الجيل الجديد من أنظمة الرعاية الصحية لا يمكن أن ترتقي إليه الدول دون أن تكون المعلوماتية هي العمود الفقري في هيكليته، فبدونه لا يمكن أن تقوم الرعاية الصحية بفاعلية بدورها، وستظل عالية التكلفة على الدولة والمواطن وسيبقى المواطن في الدرجة الثانية أو الثالثة في مواطنته صحيا، مقارنة بما هو عليه الحال لمواطني دول العالم التي تصنف على أنها متقدمة وليس نامية.
 
ومما يدعوك؛ ليس للدهشة فقط، ولكن للتفكر فيما قامت به كثير من الدول العربية في تفعيل استخدام الرقم الوطني ليكون هو المدخل الأوحد للتعرف على شخصك وتفاصيل هويتك بكل جزئياتها أمنيا، وهذا مما نمتدحه من ناحية، لكننا نتساءل من ناحية أخرى: ألم يحن لهذا الرقم الوطني أن يكون هو نفسه المدخل للسجلات الصحية للمواطن، سواء كان ذلك المواطن ممن يحصلون على الرعاية الصحية من القطاع العام أو من القطاع الخاص أو كليهما، كما هو الحال في كثير من دولنا العربية؟ ولماذا لا يمكن للمواطن العربي أن ينتقل في ربوع الوطن الواحد ويحصل على الرعاية الصحية الأكفأ دون محسوبيات أو تدخل قرابة له هنا أو هناك؟
 
وثمة أمر نمتدح فيه النظام المعلوماتي الصحي في بريطانيا من حيث قدرة أي فرد على البحث في موقعها على الشبكة العنكبوتية عن السجل المهني للأطباء؛ فكم من طبيب شطبت رخص مزاولته للمهنة بسبب إهماله الطبي وسوء أخلاقه، وذلك ليعرف العامة قبل الخاصة الوضع المهني لذلك الطبيب أو الطبية. وهذا أيضا ينطبق على الصيادلة والممرضين وغيرهم ممن يعملون في القطاع الصحي ويتعاملون مع المرضى؛ كل حسب نقابته.
 
وإذا كان البعض يتفوه في بريطانيا بأن النظام الصحي الوطني أصبح يشكل عالة اقتصادية على البلد خصوصا مع تصاعد مستوى تقدم المواطنين في معدل الأعمار والشيخوخة المتأخرة، فإن ذلك يطرح عدة تساؤلات عن مدى جدية وفاعلية استراتيجيات نظم الرعاية الصحية في بلادنا، وهل هناك فعلا رؤية بعيدة المدى لما ينبغي أن تكون عليه نظم الرعاية الصحية بعمودها الفقري المعلوماتي التقني؟ 
 
وكم وإلى متى سنبقى في حالة عوز ولجوء إلى الغير؟
 
اليوم نستخدم نظم الحوسبة الغيمية، وكم من معلومات عن مرضانا أصبحنا نخزّن، وربما سيأتي وقت لن نملك تلك المعلومات، بل مع تقدم الرعاية الطبية لأمراض معينة مثل السرطان، والتي تحتاج فيها لتشخيص بيولوجي وعلاج مرتبط بهذا التشخيص، فلا بد للهيئات الطبية المتخصصة أن تستعين بتقنيات عالمية وقواعد معرفة ومعلومات علمية متخصصة. ليس الأمر هنا فقط حالة العوز واللجوء للغير، بل أيضا التكلفة والقدرة العلمية على التعامل مع تقنيات التشخيص هذه ومن مث العلاج. وهنا يلوح في الأفق أهمية أن تكون هناك استراتيجية متكاملة لبناء؛ ليس فقط البنية التحتية المعلوماتية للرعاية الصحية، بل أيضا الحاجة الماسة لتطوير جيل جديد من المتخصصين معلوماتيا في نظم الرعاية الصحية، وبتخصصات دقيقة لتلك الأمراض التي تحتاج؛ ليس فقط لتكلفة باهظة لعلاجها مثل السرطان، بل لجيل طبي بيولوجي معلوماتي دقيق في تخصصه من جهة، ومن جهة أخرى ذو إلمام وكفاءة وإطلاع آني يجمع بين نطاقي الرعاية الطبية والمعلوماتية.
 
علمنا ذو القرنين كيف أخذ بالأسباب، وكيف تمكن ومكن لغيره دون شخصنة الأمور لنفسه بل لمصلحة الإنسان: "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)". الكهف. إنها مصلحة ذلك الإنسان المواطن في كل رقعة من الأرض زارها ذو القرنين ومكن لمواطنيها فيها، فلم يستغلهم ويستخدمهم لمصلحته ويعزو ذلك لعلمه وفضله كما فعل قارون قوم موسى؛ وكم من قارون أغرق الإنسانية وأورد قومها دار البوار؟
 
أليس لدينا علماء في الرعاية الطبية من أساتذة في الطب والصيدلة والتمريض وإدارة الرعاية الطبية؟ أليس لدينا علماء في المعلوماتية يعملون في أوطانهم ويقودون عملية التقنية، وأيضا كمواطنين في الغرب والشرق؟ أليس لدينا رأس المال الفكري؟ أليس لدينا رأس المال الاقتصادي؟ لدينا بالفعل، ولكن ينقصنا من يجمع كل هذه الأسباب في بوتقة عمل تكون نيته فيها صالح الإنسان في كل المعمورة؟
     
وكم يلوح في الأفق مشهد اللاجئين وما يتعرضون له من ذل وقهر وامتهان في هذا العصر الذي نعيش، وهل من مشهد أبلغ من مشهد ذلك اللاجئ الفلسطيني الذي جسّده بواقعه وهو يقف في الطابور أمام موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأونروا" ينتظر أخذ المعونة المقدمة منها إليه، ولنا أن نتخيل أي نظام صحي، بل أي طبابة كان اللاجئون يتلقونها إذا كان قد حرموا لقمة العيش والأمن والأمان؟!
 
فهل ننتظر عملا دراميا جديدا مثل مسلسل "التغريبة" الفلسطيني بعد أكثر من ستة أو سبعة عقود من اللجوء؟
 
وإلى متى نريد الاصطفاف في الطابور عند وكالات الغوث الأممية؟
 
وإلى متى نريد البقاء في وضعية "الكَل" عالة على من يعيلنا وهو مسؤول أو غير مسؤول عنا: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (76) النحل.
 
وإلى متى لا نجد ترابطا وتوازنا بين إستراتيجيات الرعاية الصحية ، وأهدافها البعيدة والقريبة ، وعمليات الرعاية الصحية المتكاملة، ونظم المعلوماتية والتقنيات بمختلف أجيال ذكائها؟
 
ما نشهده اليوم هو جزر غير مترابطة، فهل يمكن أن تكون هناك فاعلة مؤثرة؟
بل هل نكون إلا في حالة لجوء وعوز للغير؟