مقالات مختارة

الكلام مفتاح الحياة

1300x600
في فيلم «الأبديَّة ويوم» للمخرج اليوناني تيو أنجلوبولس، (1998)، نعثر على حكاية شاعر يبحث عن كلمات يشتريها من الناس كي يكتب قصيدته. من أين أتى أنجلوبولس بهذا الافتراض العجيب، ولماذا يذهب أمراء الكلام، كما وصفهم الخليل بن أحمد الفراهيدي، مؤسِّس علم العروض، إلى الفقراء كي يشتروا كلماتهم؟ وفي هذه الحال هل يبقى الشاعر أميرا للكلام، أم أنَّ الأمير الحقيقيّ هو الصيَّاد الذي يتلعثم أمام الأمير، وهو يبيع كلماته؟

نجد ما يشبه هذا الافتراض في موروث الحكاية الكلاسيكيَّة العربيَّة، من القصَّة التي يشتري بها الضعفاء حيواتهم المهدَّدة، إلى الحكاية التي تحوّل الخيالي حقيقيّا، كما في كتاب «ألف ليلة وليلة»، وصولا إلى التراث الحكائي الشفوي الذي يمجِّد الكلام، جاعلا منه مفتاح الحياة.

تعيش اللغة وتتنفَّس الكلمات المستلَّة من الحكي، فاللغة التي لا تتجدَّد في الكلام اليومي تموت، والحكي يقودنا إلى الحكاية، والحكاية مبنى يساوي الحياة، ويشكّل وسيلتها الأساسيَّة للتعبير عن وجودها وتأكيد استمراريَّتها.

الكلام الذي يشتريه الشاعر في الفيلم يشبه الكلام الذي يشتريه الوزير من الصيّاد في كونه مغطَّى بالكلام. ففي حكاية «تلاتة بـ تلاتة» في كتاب «حكايات وحكايات»، الذي جمعته وصاغته نجلا جريصاتي خوري، نعثر على مستويين للكلمات:

المستوى الأوَّل هو غطاء الكلام، فالكلام لا يأتي عاريا، بل يتغطَّى الكلام بالكلام. سأل الوزير: «يا ملك الزمان، اللغة التي تكلَّمت بها مع الصيَّاد مغطَّاة كلّها، فلم أستطع أن أفهم شيئا».
المستوى الثاني هو شراء المعاني، إذ كان على الوزير الذي لم يفهم أن يشتري المعاني من الصيَّاد بالمال، كي يحافظ على حياته.

لا تكتفي حكاية «تلاتة بـ تلاتة» بهذين المستويين فقط، بل تأخذنا إلى سلطة الكلام، حين تختتم بتفاؤليَّة مفرطة في عدم واقعيَّتها، فتنتصر سلطة الكلام على السلطة، ويصير الصيّاد وزيرا، وهذا ما لم يستطع المتنبِّي الوصول إليه. فشاعر العرب الأكبر برهن أنَّ سلطة الكلام أقوى من السلطة، لكنَّها سلطة أخرى ومختلفة تكتفي بذاتها ولا تتعدَّاها.

لم تتحوَّل شهرزاد إلى سلطانة مطلقة حين انتصرت على حمق السلطة والذكوريَّة وجنونهما بالحكايات، بل تركت لنا عالما خياليّا نأنس إليه، وننتشي به، ونتعلَّم منه معنى الخيال بصفته حقيقيّا أكثر من الحقيقة.

في تحفة المخرج اليوناني، كما في الحكاية الشعبيَّة، نبحر في البحث عن المعاني، ونعيد اكتشاف الكلمات التي نحكيها، لنكتشف أنَّ «الحكي» يأخذنا إلى الحياكة؛ فنحن نلجأ في كلامنا اليومي، إلى صياغات تمَّت حياكتها على مرّ السنين، وأنَّ الشاعر أو الكاتب الذي يشتري الكلمات، أو يبحث عنها، يسعى إلى صوغها من جديد. فالذي صنع الكلمات وقام بحياكتها في لغتنا اليوميَّة، هو حائك جماعيّ غفل؛ وأحد أكبر طموحات الشاعر والكاتب، هو أن يضيف حياكته إلى ما سبق له وأن حيك، عبر خلخلة المعاني القديمة، واقتراح صياغات تستنبط المعاني الجديدة.

في هذا الكتاب، «كلمات وكلمات»، تتابع المؤلِّفة تنقيبها في الكلام اليومي، لتضعنا أمام المفاجأة بكلامنا. فنحن نستخدم في الغالب كلمات مغطَّاة. فالكلام في مستوياته المتعدِّدة هو مجموعة من الاستعارات، التي تحجب إلفتها الاستعماليَّة شعريَّة معانيها، وعمقها الدلاليّ الذي يخبِّئ القيم الاجتماعيَّة.

حين يتغطَّى الكلام اليوميّ بالكلام، فإنَّه يسعى إلى الإيضاح، عبر قدرته على بناء عالم من الاستعارات والكنايات، التي تبني اتِّفاقا اجتماعيّا على المعنى الكامن تحت الصورة الاستعاريَّة، فيجري إهمال الصورة، والتركيز على المعنى في سياق الحكي اليوميّ.

يأتي هذا الكتاب استكمالا لعمل المؤلّفة السابق في كتابيها: «عدِّيات وعدِّيات» و«حكايات وحكايات»، حيث كانت مهمَّة الجهد التأليفي تنحصر في مسألتين: تجميع التراث من مصادره الشفهيَّة من جهة، واختيار أفضل النماذج وأكثرها قدرة على التعبير من جهة ثانية. هنا أيضا، ينصبّ عمل المؤلِّفة على التجميع من المصادر الشفهيَّة. لكنَّ كتاب «كلمات وكلمات» يختلف عن الكتابين السابقين، في أنَّه يبحث عن أشكال الحكي، فهذا الحكي ليس جزءا من مبنى حكائيّ أو من موروث يُغنّى للأطفال، بل هو التقاط للصيغ الكلاميَّة في حياتنا اليوميَّة. فتبحث المؤلِّفة عن صيغ الكلام في مجموعة من المحاور التي تبدأ بجسم الإنسان، لتصل إلى الألوان وكلام المجاملات والكلام الذي من ذهب.

نستطيع أن نقرأ هذا الكتاب بصفته سجلا لكلامنا، حتى وإن كان هذا السجلّ ناقصا، ويحتاج إلى من يضيف إليه، علما أنَّه لن يكتمل، لأنَّ الكلام تعبير عن الحياة التي تتجدَّد وتتغيَّر باستمرار.

كما نستطيع أن نقرأه كبحث تراثيّ، ومحاولة لجمع الصيغ الكلاميَّة قبل أن تندثر، أو من أجل ألا تندثر.

كما نستطيع أن نصنّفه كتقميش لبحث إتنولوجي، يدرس أشكال الكلام، عبر مقارنتها بصيغ الكلام الدارجة التي تتوالد على ألسنة الأجيال الجديدة، كي نصل إلى دراسة علاقة هذه الصيغ بالقيم الاجتماعيَّة.

مُدهشُ هذا الكتاب، هو تظهيره لبنية الصيغ الكلاميَّة التي تُستخدم في الكلام اليوميّ، فهذه الصيغ هي في أغلبيَّتها الساحقة استعارات وكنايات. أي أنَّ الناس حين تتكلَّم تُلبس الكلام أثوابا تلتفّ على المعاني، من أجل أن تعطيها شعريَّة تساعد على الفهم، و/أو تقوم بتسهيل تقبّلها عبر وضعها في أشكال مضخَّمة أو ساخرة، و/أو تشكِّل وعاء للقيم الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة المضمرة.

ما معنى أن نتكلَّم بالاستعارة؟ هل يعني هذا أنَّ جميع الناس شعراء؟

بالطبع لا، لكن ماذا نقول أمام هذه العبارات: «دايرة ع حلّ شعرها»، «دمعة عرق»، «كذبة بيضا»، «صوفته حمرا»، «نفسُه خضرا»، «عظمه أزرق»، «ضحكة صفرا»، «السوق السودا»، «عيش طيز نمر»، «بيخانق خياله»، «بيعوم بشبر ميّ»، «أكل البيضة والتقشيرة»، وإلى آخر ما لا آخر له…

نحن أمام فيض من الصور الكلاميَّة، التي حين نقرأها مجرَّدة من سياقها في متن الحكي نُدهش من شعريَّتها، ومن تركيبتها المبنيَّة على المجاز، ومن امتلاكها لطاقة تصويريَّة لا حدود لها، أو كأنَّ الكلام «رسم بالكلمات» حسب نزار قبَّاني.

وأخيرا، فإنّني أعتقد أنَّ لهذا الكتاب قيمة تربويَّة كبرى؛ لأنَّه يسمح للقارئ والمستمع بأن يرى لغته مجسَّمة في صور، ما يسمح له بأن يرى المعاني بعينيه، وليس فقط كصيغ لغويَّة مجرَّدة؛ فاللغة، في هذه الصيغ الكلاميَّة، تتجاوز بنيتها التجريديَّة عبر تجسيد المعنى، واستغلال بنى المجاز كافَّة. وبهذا المعنى، فإنَّ هذا الكتاب يسمح للقارئ بأن يتملَّك كلامه ويقرأه بعيون نقديَّة.

الكلام مفتاح الحياة، شكرا للمؤلِّفة التي كرَّست حياتها كي تساعدنا على اكتشاف هذا المفتاح وامتلاكه.


مقدمة كتاب «كلمات وكلمات/ تعابير شعبية من لبنان» لنجلا جريصاتي خوري، الذي يصدر عن دار الآداب في بيروت.