مقالات مختارة

من الشعار إلى الاستعارة

1300x600

حق محمود درويش علينا أن ننسبه إلى مكانه الفلسطيني، فشاعر الكرمل أقام هنا في شارع عباس في حيفا، أي لم يكن يفصله عن مكان ندوتنا سوى شارع واحد هو شارع الكروم، وانحدر من قريته الجليلية، التي حوّلها الاحتلال طللا، إلى حيفا كي يحمل إلى الأدب نكهة الأرض، ويقرأ الكلمات في عيون الفلاحين الذين أقاموا على حافة أرضهم المصادرة، وصنعوا مرثية هذا الزمن النكبوي المستمر منذ سبعين عاما.


محمود درويش إلى جانب كنفاني وحبيبي وسعيد، صنع لفلسطين هويتها، وتدرّج في سؤال الهوية إلى أن وصل إلى تحويل فلسطين في شعره من شعار إلى استعارة كونية.


ومن حقنا على درويش أن نقرأه ونعيد قراءته كجزء من حركة الشعر العربي المعاصر، وكتعبير إنساني لا يعرف الحدود، ويتجاوز الانتماءات القومية واللغوية الضيقة.


اخترت أيتها السيدات والسادة لكلمتي عنوان «من الشعار إلى الاستعارة»، في محاولة مني لتلخيص مسارات شاعر كبير، تعلّمنا منه معنى أن يكون الشعر عزفا على كمان الروح، وكتابة لموسيقى الأبجدية، حيث تتحول الحروف إلى نوتات تموسق العالم وتخاطب الأحياء والأموات في آن معا.


بدأ درويش مع أقرانه في فلسطين بكتابة الشعار، وكانت قصيدته «بطاقة هوية»، تجسيدا للشعار السياسي النضالي الممتزج بتربة فلاحية حولت الأرض إلى رمز وطني. كان ذلك في زمن الواقعية الاشتراكية حين بدأت عاصفة الشعر الحديث في العراق بنبرة تمزج الواقعية بالرومانسية، وبإحساس شامل بضرورة تجديد عمود الشعر.


لكن الشعار سرعان ما بدأ يتحول مع السياب، ثم مع الشعراء التموزيين إلى شعائر، فأتت «أنشودة المطر» (1954) لتفتح آفاقا جديدة، مشرِّعة الشعر على احتمالات شتى، وتركت تجربة شعراء مجلة «شعر» بصمتها عبر تقديم افتراضها الأساسي وهو البحث عن الإنساني، والرحيل إلى أغوار العلاقة بين الوعي واللاوعي.


وكان لترجمة شعراء الحداثة في العالم أثر كبير في هذا الانتقال، تمثل في البحث عن بنية أسطورية شعائرية للقصيدة من جهة، وفي الاقتراب من جماليات التجربة اليومية من جهة ثانية، من إليوت وأرضه الخراب، إلى نيرودا ونشيده الشامل.


لم يشارك درويش في صنع هذه التحولات، فهو ينتمي إلى جيل شعري لاحق، لكن حساسيته الشعرية قادته إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم «الواقعية الأسطورية»، وهذا ما بدأه في قصيدته «عاشق من فلسطين»، التي احتل فيها الاسم الفلسطيني مكان صفة العربي التي أطلقها الغزاة على الفلسطينيين الباقين في أرضهم، لكن الأهم من ذلك هو بناء أسطورة العلاقة بين المرأة والأرض، وقراءة هذه الأسطورة من منظور تاريخي، وتحويل الشعائر الفلاحية إلى بنية درامية تلفّ القصيدة.


من هنا بدأت مسيرة الشاعر لاكتشاف الشعر بصفته جرحا؛ الشعر لا يصف جروح الروح، بل يصيرها، لا يعبّر عن، بل يتماهى مع، إلى درجة تُمحى معها التشابيه والصفات، وتصير الاستعارة صورة متعددة الأوجه والمعاني.


مسيرة درويش الشعرية التي عرفت منعطفها الأول الكبير في تجربته البيروتية، وتجسدت في ديوانه «أحبك أو لا أحبك»، وما تلاه من قصائد وصولا إلى قصيدته الكبرى «أحمد الزعتر»، حملت في داخلها قلق الانتقال إلى مقترب كان لا يزال مجهولا بالنسبة إلى الشاعر، وضمت عناصر متعددة تجمع الواقعي إلى الرومانسي، والأسطوري إلى قلق الأسئلة الفلسطينية، والرثاء في صيغة النشيد.


لا أستطيع في كلمات قليلة أن ألخص وأحلل مسار منعطفات الشاعر المتعددة، لكن وصول الشاعر إلى قصيدته الكونية ينطلق من جذور حكايته الفلسطينية التي ستتحول معه إلى حكاية المضطهدين كلهم، وإلى لغة مَن مُنعوا من رواية حكايتهم من الأسبارطيين إلى الأميركيين الأصلانيين إلى ما لا آخر له.


لكن اللافت والمشترك في هذا المسار يتجسد في صورتَي الماء والمرآة.


فالشعر شفاف كالماء، ينساب بلا توقف، كأن الشاعر لا يكتب بل يغرف من نبع لا ينضب. هذا الأسلوب المائي الذي يجد الكلمات الملائمة ويترك للصور أن تتوالد هو ما ميز تجربة درويش منذ البداية، أي منذ ديوانه «العصافير تموت في الجليل»، حين بدأ يملك ناصية لغته التي تشبهه.


والماء يصير مرايا، «وكل الوجوه مرايا»، يكتب درويش. المرآة ستتخذ أشكالا متعددة، لتصل إلى إعادة اكتشاف المثنى، والمثنى يجسد الذات المنقسمة؛ إنه استعادة للحوار الداخلي الذي صنعه مثنى امرئ القيس، لكنه يتخذ في الشعر الدرويشي بعدا إضافيا ليصير حوارا مع الآخر الذي حين يقترب يبتعد، من ريتا في شتائها الطويل، إلى ظلال السجن في «الجدارية».


كانت الرحلة شاقة وممتعة، فحين تحول محمود من شاعر وسط جمهرة الشعراء، إلى الشاعر، بأل التعريف، وهي الصفة التي كان أطلقها أبو العلاء على المتنبي، فإنه تخلص من الزوائد كلها، وتخلى عن الصفات بالتدريج، وترك التشابيه جانبا، وذهب إلى الشعر بصفته حالة تعيد تأويل الأشياء.


لاحظوا معي كيف بنى قصيدته «على هذه الأرض»، التي هي قمة تعبيره عن الهوية، فهي مؤلفة من حالات متراصفة من دون تشابيه، وبلاغتها لا تنبع من إيقاعها فقط، وهو إيقاع يصنعه بحر المتقارب الذي ينثر الشعر ويشعرن النثر، بل في هذا الانسياب داخل الطبيعة، الذي ينجح في بناء لوحة تجريدية تأخذنا إلى سيدة الأرض، حيث يتحول المجاز تراكما للأشياء جاعلا من فلسطين استعارة للاستعارات كافة.


في دواوينه الأخيرة وصل الشاعر إلى القدرة على اعتصار الليل وتحويله إلى حبر، لكنه كان يبحث في أعماقه عن شعر ما قبل المعنى أو ما بعده، وهنا يصير الشعر تجربة روحية عميقة، وحوارا بين الأنا والأنا، وهذه الأنا تختزل الكل، وترمم الكلام.


ميزة درويش أنه رمم الكلام، وأعاده إلى ما قبل المعنى، فالتجربة الفلسطينية كانت في حاجة كي تجد لغتها الكونية إلى مَن يرويها بصفتها تعبيرا عن الضحية المزدوجة، التي هي ضحية تاريخ أعمى من جهة، وضحية الصمت الذي فُرض على الضحايا من جهة ثانية.


«عد طفلا ثانية/علّمني الشعرْ/ وعلّمني إيقاع البحرْ/ وأرجعْ للكلمات براءتها الأولى/ لِدني من حبة قمح، لا من جرح، لِدني/ وأعدني، لأضمّك فوق العشب، إلى ما قبل المعنى/ هل تسمعني: قبل المعنى/ كان الشجر العالي يمشي معنا شجرا لا معنى/ والقمر العالي يحبو معنا/ قمرا/ لا طبقا فضيا للمعنى/ عد طفلا ثانية/ علّمني الشعرْ.


شكرا لكم لأنكم سمحتم لي بأن أكون معكم في هذا اللقاء في مدينة درويش الأولى، وشكرا للشاعر الذي يدعونا إلى مائدته التي لا تنضب.


ألقيت هذه الكلمة، عبر سكايب، في اللقاء الذي نُظم في مقهى «فتوش» في حيفا، في الذكرى العاشرة لغياب محمود درويش، وشارك فيه: رائف زريق وحسن خضر وأسماء عزايزة وعامر حليحل.

نقلا عن القدس العربي