كتاب عربي 21

الخليج بين زمنين، عن معركة التحالفات الصلبة

1300x600
بدا المد الناصري في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات كاسحا، اجتاح معظم الدول العربية، وصارت له حكومات ومؤسسات وجماهير واسعة، وفي الخليج حقق اختراقا حتى لأكثر الدوائر استعصاء كأوساط العوائل الحاكمة "الأمراء الأحرار". كان لخطب جمال عبد الناصر -المنقولة عبر إذاعة صوت العرب- مفعول السحر، وهام العرب بخطابات التحرر والكرامة وبناء الأمة العربية الموحدة والقوية. 

في تلك اللحظة، كانت دول الخليج أمام سؤال كبير: كيف يُمكن لحكوماتها أن تواجه تيارا شعبويا جارفا بات يهدد شعبيتها وشرعيتها في أوطانها؟ 

بذكاء فطري، وببراغماتية سياسية صِرفة -وبمعزل عن مدى التوافق الأيديولوجي- أدرك الملك فيصل بن عبد العزيز أنه "لا يفُلُّ الحديدَ إلا الحديدُ"، وأنه لا يستطيع مواجهة هذا التيار سوى بتيار عقائدي جماهيري مُضاد، فكان أن تحالف مع تيار إسلامي واسع الجماهيرية، وفي الوقت نفسه بعيد عن أفكار التكفير ويمكن عقد تفاهمات معه. احتوى الملك فيصل هذا التيار، واستضاف عددا من قادته، وصنع له المؤسسات العابرة للحدود، واستخدم ماكنته الإعلامية والفكرية الضخمة في المواجهة، ونجح في ذلك. 

اليوم، وبعد خمسين عاما من تلك المعركة، تمر دول الخليج -والمشرق العربي بعمومه- بمعركة أشد ضراوة، الخصم فيها أكثر ذكاء وعددا وشراسة، ويتكئ على عقيدة دينية صلبة تُعظِّم من شأن الموت والتضحية في سبيل مشروع التوسع والهيمنة ونُصرة "المذهب". 

هذه المعركة لم تعد خيارا بوسع دول الخليج تجنبه، وهي بالطبع ليست معركة المواطنة والديمقراطية والتنمية، بل حرب مفتوحة للهيمنة السياسية والعسكرية على المشرق. معركة وجودية لن ينجو فيها أي طرف من خسارة فادحة، ولكن ثمة طرف سيبقى ويتمدّد، وطرف سيخضع للهيمنة، وقد يندثر.
 
دول الخليج - حكومات وشعوبا- وجدت نفسها وسط هذه المعركة قسرا ومن دون خيار. هي معركة دفاع عن النفس أمام مشروع إمبراطوري توسّعي يتكئ على إرث عقائدي تعبوي استطاع -عبر تجنيد كتلة بشرية ضخمة وترسانة عقائدية وإمكانات مادية كبيرة وسنين طويلة من الجهد والعمل- أن يُعسكِر معظم المنتمين إلى طائفته، وأن يُسلِّحهم بقدرة عالية على المواجهة والصبر والاستعداد لتقديم عشرات الآلاف من الضحايا في سبيل مشروع الهيمنة والتوسع. 

وعلى الرغم من وجود سابقة ناجحة منذ عقود قليلة، قرر الخليج خوض هذه المعركة بمنطق مختلف، وبناء شبكة تحالفات مع قوى سياسية ليست عميقة الجذور، ولا تملك أيديولوجيا صلبة ولا خيالا نضاليا ولا حيثية جماهيرية واسعة، هي في حقيقتها أقرب للأذرع والأدوات، ومعظمها مصنوع بالمال والسلطة
.
وكان من نتائج هذه السياسة أن اكتشفت حكومات الخليج، في لحظة المواجهة، أنها بلا حلفاء يُمكن الاعتماد عليهم في كل ميادين المعركة -في العراق وسوريا ولبنان واليمن- وأنها خسرت العراق بسبب سلبيتها ورفضها التدخل الفاعل لمواجهة إيران ومليشياتها في سعيها للسيطرة على الدولة ومؤسساتها، وبسبب التزامها المبالغ فيه بالسقف الأمريكي. وخسرت لبنان الذي شرّعت فيه -عبر اتفاق الطائف- وجود سلاح حزب الله منفردا من جهة، ودعمت شخصيات وقوى بَنَت علاقة زبائنية هشة مع جمهورها من جهة أخرى. وتكاد تخسر اليمن الذي كانت تهيمن -ولعقود- على مساحة واسعة من فضائه السياسي، وتموّل الكثير من القوى والعشائر والشخصيات فيه. إضافة إلى الدعم السياسي والمالي الكبير الذي قدّمته للنظام السوري الحليف الرئيس لخصومها في هذه المعركة. 

عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل سورا، الذي أقام سنين طويلة في سوريا، وكتب مجموعة من أعمق الدراسات حول تشكّل نظام البعث السوري وطبيعة تكوينه، ودرس كيف استطاع هذا النظام تعميق الحضور والسيطرة العلوية على حزب البعث أولا، ثم الجيش والأمن ثم مؤسسات الدولة، أشار إلى أنّ هذه الطائفة التي هيمنت على مؤسسات الدولة خلال عشرة أعوام (بين 1970 و1980) قامت بذلك متكئة على عدة عوامل قوة، من أهمها الدعم المالي الخليجي المهول للنظام السوري (2.5 مليار دولار سنويا)، وهو مبلغ ضخم جدا بحسابات ذلك التاريخ (ما يقارب قيمة الميزانية السنوية للجمهورية السوريّة)، هذا المبلغ الذي كان يُدفع للنظام السوري -تحت لافتة مواجهة إسرائيل- كان في الواقع يُستخدم لتعميق حضور الطائفة "عصبية السلطة" في كل مؤسسات الدولة، وضرب وإقصاء المكونات الأخرى. 

دول الخليج بطبيعتها الوادعة والمترفة لا تملك اليوم القدرة على خوض معارك استنزاف مباشرة وطويلة، ولا تتحمّل تكاليف بشرية مرتفعة، ولا تعتمد في تكوينها على عقد اجتماعي صلب أو بناء عقائدي متماسك بقدر ما تتّكئ على نظام الريع ومنجز التنمية والعلاقة الأبوية بين السلطة والشعب؛ لذا فعندها قلق مُبرر من أن تصل هذه المعارك -المحيطة بها من كل جانب- إلى وسط أراضيها، وفي حال وصلت، ستكون أمام معركة في منتهى الصعوبة، وذلك للتفاوت الواضح في التكوين والاستعداد والقدرة بين الفريقين. 

ومع تراكم هذه الظروف الصعبة، فإن القَدَر منح دول الخليج فرصة استثنائية هي بمثابة طوق نجاة؛ إذ إن الميادين الأكثر سخونة في هذه المعركة (سوريا واليمن) جعلته في اصطفاف واحد مع قوى ثورية إسلامية ذات حضور جماهيري واسع وموقف عقائدي صلب، وهي تقاتل بشراسة عن أرضها وشعبها، ومستعدة للصبر والتضحية ودفع كُلفة بشرية عالية، والصمود حتى أمد طويل، وفي الوقت نفسه هي معتدلة التكوين، ومستعدّة لبناء تحالفات سياسية مع دول الخليج، وليس لديها تصوّرات أممية ولا طموح سياسي خارج حدود أوطانها، وهي بهذه الطبيعة قادرة على مواجهة الخصم الذي يتمتّع بالعقائدية ذاتها والصلابة والاستعداد للتضحية. 

هذه القوى تبدو اليوم بمثابة رأس حربة وطليعة مُقاتلة، تتحمّل الآن كلفة المعركة وتبعاتها قبل أن تصل إلى دول الخليج. 

قد تبدو بداهة سياسية أن تتحالف دول الخليج مع هذه القوى وتدعمها عسكريا وماليا، وتشكّل غطاء سياسيا لها وصوتا يدافع عنها في المحافل الدولية، وفي الوقت نفسه تتحرّر من السقف الأمريكي الذي يرفض تزويد هذه القوى بأسلحة نوعية ولا يريد حسم المعركة، في حين لا يتجاوز الموقف الأمريكي -أمام التمدّد المتوالي للخصم وحجم الدمار والقتل والتهجير الذي أحدثه- حزمة من التصريحات والإدانات.
 
دول الخليج ترتكب اليوم خطأ استراتيجيا فادحا بعدم تقديرها لحجم المعركة وخطورتها على أمنها القومي، وإدارة تحالفاتها بشكل يفتقد البراغماتية والذكاء، وعدم التخفف من عبء التصورات السابقة والواهمة عن الخطر الذي تمثّله حركات الإسلام السياسي عليها، وتغليب الخصومة الأيديولوجية -وإن أتت بالكارثة على الجميع- على المصلحة السياسية. 

نحن وسط مشهد معقد وبالغ السوء، ليس فقط أن خيار القوى الوطنية الديمقراطية ليس مطروحا على طاولة المعركة، بل تبدو حتى الخيارات المتاحة في تراجع مستمر كلما تأخر الزمن واستمر العدوان. كما أن التجارب السابقة التي حفرت قوانينها على جسدنا العربي المنهك، تخبرنا أن شهورا من التأخر عن التدخل في الوقت المناسب ستجعلك تدفع سنين من الجهد والوقت والمال والأكلاف البشرية المرتفعة لتعويض الخسارة المتحققة من هذا التأخر.