قضايا وآراء

السلطة الخفية في اليمن

1300x600
اطلعت على مقابلة أبي العباس، القائد السلفي في مجلس التنسيق العسكري في تعز وقائد الجبهة الشرقية، والذي شن فيها هجوما عنيفا على المجلس العسكري في تعز، متهما إياه بالفساد والابتزاز، كما أكد أنه هو بشخصه صرف أموالا بالعملة السعودية إلى قيادات بالمقاومة تصل إلى عشرات الملايين. وأضاف أن علاقته طيبة بالإخوة الأشقاء بالمملكة، وأنه التقى مؤخرا الأمير تركي بن فهد ولمس فيه الإخلاص في محاربة ما سماهم الروافض.

أعاد إلى ذهني أجواء هذه المقابلة؛ حادثة وقعت منذ فترة لقيادة المقاومة في تعز، في محافظة عدن، عندما حوصرت في فندق التوحيد من قبلة الحزام الأمني الذي يشرف علية الشيخ السلفي هاني بن بريك، يد دولة الإمارات الضاربة في عدن، والحاكم الخفي للمدينة، والذي أعلن حينها في أحد منشوراته أن قيادة الحزام الأمني - في إشارة إلى نفسه - لن تتهاون مع أحد لا ينسق مع القيادة، دون أن يشير للقيادة الشرعية ممثلة بمحافظة عدن أو قيادتها الأمنية لا من قريب أو من بعيد، كما أضاف في منشور آخر أنه لا يعترف بأي قيادة مخلصة بتعز سوى أبي العباس.

وهذا مشهد يطرح سؤالا كبيرا عن كيفية إدارة ملف المناطق المحررة، وإدارة الملف العسكري للمقاومة، حيث أن المشهد يوحي بوجود سلطتين: سلطة مسؤولة دستوريا وأخلاقيا عن إدارة المناطق المحررة وتلبية متطلبات الناس، ولكنها لا تمتلك قوة القرار؛ لأنها ببساطة لا تمتلك المال، وسلطة أخرى خفية بيدها قوة القرار والنفوذ لأنها تمتلك المال، وبين السلطتين زواج إكراه تفرضها من يمتلك المال والنفوذ، وهي سلطة خارج سلطة الشرعية الرخوة، ما جعل شواهد الأرض تؤكد بالتتابع عجز القيادات المدنية في إدارة الشأن العام، وفشلها أمام الشعب الذي ينتظر منها الكثير لصالح قوى لن تكون مستقبلا في صالح المشروع المدني لثورة فبراير.

وتؤكد الأيام أن هناك عدم ثقة بالسلطة الشرعية ومكوناتها السياسية والإدارية؛ لأسباب بعضها متعلق بتركة الربيع العربي أو تصفية حسابات إقليمية، فسعت لتعيين ما يشبه الحاكم العسكري أو المندوب الخاص الذي يمثلها، ويشرف على إدارة الميدان العسكري عن قرب، ويتحكم بالإمداد اللوجستي المقاومة من الأموال و السلاح، ويصبح هو صاحب اليد العليا والقرار الأقوى في الميدان ودون أي صفة رسمية أو صفة شرعية تمنحه هذه الصلاحيات وتضعه تحت طائلة المراقبة المالية والإدارية.

ومن الواضح أن هذه السلطة الخفية المحلية، والمدعومة خارجيا، تعمل بدعم واضح من قبل أطراف في دول التحالف - وربما أفراد نافذين - تسعى إلى ضمان مصالحها ومصالح شركائها على حساب مشروع الدولة اليمنية، حيث إن قيادات هذه الجماعات الوظيفية المسلحة لا ينسجم فكرها مع مشروع الدولة المدنية وآلياتها الديمقراطية التي خرج من أجلها الشعب في الحادي عشر من شباط/ فبراير، والأخطر من ذلك، أن هناك عملا دؤوبا ليكون لها كيانات عسكرية مستقلة عن الجيش الشرعي أو مقاومتها الشعبية التي تعمل تحت راية الشرعية يعزز تفردها وتمردها على الدولة كما هو وضع الحزام الأمني عدن، الذي أوجد سلطات خفية تتحكم في الشأن العام، تنازع السلطة الشرعية قرارها، وتلعب أدوارا مشبوهة وتساهم في خلط الأوراق وممارسة الإقصاء والتهميش لرفقاء السلاح.

بداية الظهور

ظهرت السلطة الخفية بصورة جلية عقب تحرير محافظة عدن من أيدي مليشيات صالح والحوثي، ورفض الإمارات بقاء نايف البكري، قائد مجلس المقاومة الجنوبية في عدن، المحسوب على حزب الإصلاح محافظا لمحافظة عدن، وساهمت قواتها بشكل كبير في تحريرها ودعمها. وكان لها ما أرادت بتعيين الشهيد جعفر صالح، أحد قيادات المقاومة، إلا أنه يبدو أن الإمارات مالت إلى التحالف السري مع التيار السلفي في عدن، الذي ساهم بالتصدي لمليشيات الحوثي وصالح، وجعلت منه أداتها في إدارة صراعها مع أي فصيل يمني، وخاصة الإصلاح، إضافة إلى تثبيت وجوده، ومنحته قوة القرار السياسي من خلال تعيينه في الحكومة وقوة الدعم المالي والعسكري. وبرزت هذه السلطة في أكثر من حدث، كما في ترحيل أبناء تعز وقرار منع بيع القات في عدن عدا الخميس والجمعة.

وتسعى بعض دول التحالف حاليا إلى استنساخ نموذج عدن في محافظة تعز، من خلال التحالف والدعم لقائد الجبهة الشرقية للمقاومة، ممثلة بعادل فارع، الملقب بـ"أبي العباس" ودعمه بالمال والسلاح، حتى أصبح قوة توازي قوة السلطة الشرعية. ومن خلال مراجعة منشورات هاني بن بريك الأخيرة، يتبين وجود تنسيق بين سلطتي الظل في محافظتي عدن وتعز، حيث صرح بن بريك أنه مع المقاومة الصادقة في تعز ممثلة بـ"أبي العباس"، وليس مع المقاومة التي تؤخر النصر، ويقصد المقاومة الشعبية المحسوبة على الإصلاح، وهو خطاب يتسق تماما مع خطاب دولة الإمارات ورئيس الوزراء اليمني المقال خالد بحاح، وما طرحه القيادي في المقاومة الشعبية بتعز أبو العباس مؤخرا من اتهامات لقادة في مقاومة تعز بالفساد والابتزاز وإيهام الناس بالنصر. وهذا الطرح عليه علامات استفهام كثيرة عن دور أبي العباس وصفته في امتلاك الأموال وتقديم الدعم اللوجستي للمقاومة، والذي من المفترض أن يكون مهمة السلطة الشرعية وقوات التحالف. هل هناك سلطتان في تعز؟ ومن الذي منحه هذه السلطة المعززة بالمال والسلاح؟.. وإذا اقتضت السياسة خرج للعلن كبوق لتصفية الحسابات، وتغذية الخلافات والفرقة بين الفصائل، مما يعيد طرح سؤال عن حقيقة دور بعض قوى التحالف في تفخيخ الوضع العام في المناطق المحررة في اليمن وموقف دول التحالف منه.

في حضرموت ربما يختلف الأمر قليلا أو كثيرا، لكن من الواضح أن هناك سلطة خلفية تم تكوينها ومُنحت قوة الأمر الواقع ومنحت الدعم المالي والعسكري، وتتكون هذه المرة من أعضاء سابقين في حكومة ما قبل الوحدة، وإن كان ضحايا هذه السلطة هذه المرة سلفيون محسوبون علي جمعية الإحسان وأعضاء حزب الإصلاح والمقاومة وقد وُثقت حالات اعتقالات بالعشرات وتعذيب لمقاومين حتى الموت، وقد ظهرت هذه السلطة بقوة وللعلن عند اقتحامها لمقر حزب الإصلاح بالمكلا واعتقال مدير المكتب التنفيذي للإصلاح عوض الدقيل، وقد أدانت السلطة الشرعية في بيان لها؛ هذا التصرف، ونفت أن تكون لها علاقة به، وأنّ من قاموا بهذا التصرف لا يمثلون إلا أنفسهم.

وأشارت أصابع الاتهام إلى قوات النخبة المدعومة من الإمارات بأنها وراء هذا الاقتحام، والتي أصبح لها اليد العليا في حضرموت بعد تحرير المكلا من القاعدة؛ تتصرف كسلطة أعلى من سلطة محافظ المحافظة، وتمارس سلطتها تحت لافتة مكافحة الإرهاب. وقد نقل لنا الناشط علي باقطيان الذي أفرج عنه مؤخرا؛ جزءا مما يدور داخل أماكن الاعتقال؛ على حائطه عبر "فيسبوك":

"في إحدى جلسات التحقيق بالريان سألني المحقق الإماراتي عن انتمائي لأي حزب سياسي أو أي تنظيم سياسي أو شاركت في أي من الفعاليات الحزبية، وكانت معظم إجابتي بالنفي، حيثُ إني لا أنتمي لأي حزب سياسي أو تنظيم سياسي، ولم أشارك مع أي حزب في أي فعالية، كحملات الدعاية
الانتخابية او المشاركة في الانتخابات وكان الحوار كالتالي:

المحقق: هل تنتمي لأي حزب سياسي أو الإصلاح؟

باقطيان: لا أنتمي لأي حزب سياسي، فأنا أقف في مسافة متساوية من جميع الأحزاب، ولا أحمل أي عدائية تجاه أي حزب.

المحقق: هل تنتمي لأي تنظيم سياسي أو الإصلاح؟

باقطيان: لا أنتمي لأي تنظيم سياسي، والإصلاح حزب وليس تنظيما كم ذكرت مسبقاً.

المحقق: هل شاركت في أنشطة حزبية أو حضرت اجتماعات حزبية؟

باقطيان: لم أشارك في أي أنشطة حزبية أو أي اجتماعات حزبية. ما عدا مشاركة واحدة عن طريق عضويتي في الكشافة.

المحقق: هاه يا علي كنت بتقول من أول (ظاناً أني سأقول له شاركت مع حزب الإصلاح استناداً للإشاعة التي نشرت أني قيادي إصلاحي وقاعدي)... ما هي المشاركة اللي شاركت فيها؟

باقطيان: شاركت في فعالية أقامها قطاع الشباب والطلاب بالمؤتمر الشعبي العام، وهي الملتقى الشبابي الأول نحو تطوير البناء التنظيمي ونبذ التطرف والإرهاب. الإشاعة التي نشرت أني قيادي إصلاحي وقاعدي والشهادة أدناه منحت لي من المؤتمر الشعبي العام في ملتقى نبذ التطرف والإرهاب".

هذا السعي الحثيث إلى خلق سلطه خفية ساهم بصورة أو بأخرى في تفريغ سلطة الحكومة الشرعية من قوتها على الأرض، وأحدث نوعا من الفوضى في تضارب القرارات انعكس سلبا على العلاقة بين الرئيس هادي وحكومة الإمارات، وصلت قمة فتورها وتوترها بإقالة الرئيس هادي لنائبه رئيس الوزراء السابق خالد بحاح، المحسوب على الإمارات، ويحمّلها البعض مسؤولية تأخر حسم المعركة في محافظة تعز، فيما تسعى الإمارات إلى تحميل الإصلاح مسؤولية الفشل في حسم المعركة؛ طمعا في تحقيق مزيد النفوذ وفرض الكثير من الشروط.

إن اللعب بورقة السلفيين التقليدين في كثير من الجبهات على حساب السلفيين المؤمنين بالمشروع المدني والمنخرطين في العملية السياسية اليمنية وبقية القوى المقاومة؛ يؤكد أن التحالف أو بعض من المؤثرين في القرار ما زال يعاني إشكالية من عدم الثقة بالفصائل المقاومة الطامحة إلى مشروع مدني ديمقراطي، وإنه يميل إلى الاعتماد على الفصائل القريبة عقائديا وفكريا للتيار السلفي التقليدي، ولذا ستشهد جبهات- أو تشهد حاليا - تيارات موازية سلفية تمتلك القرار والنفوذ لامتلاكها المال.

إن استمرار دعم فصائل مسلحة خارج سلطة الدول بعيدا عن أهداف التحالف المعلنة لن يكون في صالح الاستقرار في اليمن سواء علي المستوى القريب أو البعيد، فسطوة السلاح خارج سلطة الدولة مدمرة للأوطان، ويعد سلاح الحوثي نموذجا حيا لتجربة يجب أن لا تتكرر في اليمن، ويجب أن تُمنع أسبابها. وأعتقد أن تعامل القوات الإماراتية مع حكومة رئيس الوزراء أحمد بن دغر في فترة من الفترات أثناء عودته إلى عدن بنوع من عدم الرضا، وإظهارها ضعيفة بلا قوة أو سلطة، سيكون على حساب الاستقرار وهيبة الدولة التي هي أحوج ما تكون إلى إعادتها لدى المواطن اليمني.

وفي النهاية، لا حل للإشكالية التي تعاني منها سلطة الدولة الشرعية في المناطق المحررة إلا بفرض سلطة الدولة، ومنحها صلاحيات كاملة مالية وإدارية، وإخضاع كافة التشكيلات المسلحة لسلطة هيئة الأركان، ودمجها في الجيش الشرعي، وإجراء حركة تنقلات واسعة بين قيادة الجبهات القتالية، إضافة إطلاق كافة المخفيين قسرا في سجون هذه السلطات الخارجة عن سلطة الدولة ورقابة القانون.