قضايا وآراء

موسم البكاء على زويل

1300x600
نحن في العالم العربي مولعون بتمجيد الأموات، إذا مات عالم أو مفكر أو قائد أو مصلح؛ اكتشفنا فجأةً أوجه عظمته، وبدأنا في عدِّ مناقبه، وأنشدنا القصائد في رثائه، وأبرزنا استثنائيته التي لن يجود الزمان بمثلها. حتى إنك تجد من لم يسمع بالفقيد مرةً واحدةً في حياته؛ يساهم بقصيدة في مهرجان الرثاء، فيصف الراحل بأنه آخر العظماء، ويظهر للناس مدى تأثره وشعوره بالضياع واليتم بعد فراقه..

الموتى صامتون لا يتكلمون، فهم ليسوا جزءًا من تنافسنا على الحياة وصراعنا المحموم على غنائمها، وادعاء القرب منهم والسير على خطاهم لا يترتب عليه ثمن. أن تثني الحكومة مثلاً على معارض سياسي في حياته يشعرها بالحرج إن عارض سياساتها، فهي ستكون متناقضةً إن أثنت عليه ثم اعتقلته، أما وقد أسكته الموت فلا بأس من ادعاء وصل بليلى، واستغلال اسمه في رفع الرصيد الأخلاقي المهترئ بادعاء احترام مبادئه وتمثلها.

إننا نحتفي بالأموات في محاولة تعويض نفسي عن إهمال الحياة وإهانة الأحياء، والاحتفاء بالأموات لا يكلف عمراً طويلاً من الالتزام الأخلاقي والعمل المتراكم ذي النفس الطويل. فالموت هو موسم سريع الانقضاء، وفي مناسبات الموت رهبة وجلالة تدفع النفوس إلى الخشوع ورؤية الروح التي انطوى عليها الفقيد مجردةً من ملابسات الدنيا وأوحالها.

على هذا المنوال، صعدت تريندات مواقع التواصل الاجتماعي في رثاء عالم الذرة المصري أحمد زويل، والأسى على الخسارة العظيمة التي مني بها العرب برحيل هذه الهامة السامقة. لكن هل يمكن اعتبار هذا التمجيد للمشاهير من أهل العلم مؤشراً صحياً على بيئة تحب العلم والعلماء، وعلى نضج في الوعي الشعبي وإدراك لطريق النهضة؟

ثمة تناقض غريب بين إشادتنا بالعلماء وإقامتنا مهرجانات تكريميةً للمبدعين والنابغين، وبين تردي أحوالنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وعجزنا عن تمثل المنهج العلمي في معالجة مشكلاتنا. إن العلم يبدو أقرب إلى الوجاهة الاجتماعية الذي تنبع قيمته من معايير المباهاة بين الناس، وليس من محتواه الموضوعي واستلهام مناهجه في معالجة مشكلات الحياة وتطويرها.

قال لي أحد الأصدقاء ذات مرة: "إن فلانا بحر من العلم"، فلما سألته كيف عرفت ذلك؟ أجاب: إنه يتحدث بمصطلحات معقدة فلا أفهم منها شيئاً! لم أعتبر إجابة صديقي نكتةً، بل شكرته في نفسي لأنه قدم تشخيصاً دقيقاً لمشكلة العالم العربي. نحن نتعامل مع العلم والفكر والثقافة بأنها طلاسم غامضة عصية على فهمنا، أي إننا لا نعتقد أن مهمة العلم أداء رسالة اجتماعية تتمثل في تفكيك ظواهر الحياة وتبسيطها والتعامل معها بما يؤدي إلى آثار ملموسة في حياتنا، لذلك لا نجد مشكلةً في تقبل تناقضات صارخة، مثل أن نباهي بعدد العلماء والباحثين العرب ولا نسأل أين الآثار الملموسة لإنجازاتهم، ومثل أن نتحدث كثيراً في الصحف ووسائل الإعلام عن براءات اختراع واكتشافات ونوابغ عرب، بينما تعتمد حياتنا على الاستيراد والتسول من الإبرة إلى الطائرة، ومثل أن تُكتب آلاف رسائل الماجستير والدكتوراة سنوياً، ثم لا تجد أي حلول إبداعية لمشكلات المجتمع وقضايا التنمية. إن مرد هذه التناقضات هو اكتفاؤنا من العلم باسمه وسمعته الاجتماعية، وحالة الانفصال بين مفهوم العلم وبين الحياة العملية، وبذلك تحول العلم في ثقافتنا إلى سحر يمارس سلطانه على الناس بطلاسمه وغموضه لا ببساطته ووضوحه.

يقول عبقري الفيزياء الشهير ألبرت آينشتاين: إن الحقيقة بسيطة، وإنك إن لم تستطع شرح فكرتك لطفل عمره ستة أعوام، فأنت نفسك لم تفهمها بعد. ويصف العالم المصري مصطفى محمود آينشتاين بأنه كان يكره الكهانة العلمية والتلفع بالغموض والادعاء والتعاظم.

الاعتقاد ببساطة العلوم، وهي بساطة تتعلق بطريقة الشرح والسلاسة وتناسق أجزاء الوجود ولا تنال من عمق الحقائق، هو الخطوة الأولى لإيجاد جيل يقبل على العلم بشغف وينهل من معينه مستشعراً لذة المعرفة وارتباطها بالواقع، فيتعلم بشغف ذاتي لا بإكراه اجتماعي أو تحت ضغط متطلبات الوظيفة والعمل.

في يوم نتائج الثانوية العامة سئلت طالبة متفوقة عن شعورها وقد حازت على معدل 99.3% فأجابت بأنها حزينة لأنها كانت تطمح على الحصول على 100%! هكذا هي نظرة المجتمع إلى العلم، تكديس درجات ومفاخرة بين العائلات وحفظ المنهاج الدراسي بقصد قطع المراحل الدراسية ثم المكانة والوظيفة. لكن العلم في جوهره مختلف عن نظرتنا إليه بأنه مادة للمباهاة والمفاخرة، العلم منهج للتعامل مع كافة ظواهر الحياة، وملكات للفهم والتحليل وروح تتسرب إلى نفس المتعلم فتبعث فيه دافعاً ذاتياً للغوص في بطون الكتب وتفكيك ظواهر الطبيعة، وانسجاماً وجدانياً مع التخصص يقود إلى الإبداع والإضافة فيه.

في كل عام يحوز مئات المتفوقين والمتفوقات على معدلات خيالية في الثانوية العامة، لكنها ظاهرة تشبه العملة دون رصيد، إذ العبرة بالأثر المجتمعي لوجود المتفوقين، ربما يمتلك أحدهم ذكاءً فنياً يساعده في أن يصير طبيباً أو مهندساً ناجحاً، لكنها تظل قصص نجاح فردية، دون أن يتحول هؤلاء الأذكياء إلى نسق اجتماعي متكامل تنتظم أجزاؤه ضمن رؤية تنموية تطويرية تنهض بالمجتمع.

ليس لدينا نقص في أعداد الأفراد الأذكياء، إنما تتمثل مشكلتنا في غياب النسق الجامع الذي يستثمر هذه القدرات الفردية ويضعها في مواضع مؤثرة. والعلم لا يكون فاعلاً اجتماعياً إلا إذا تحول إلى ثقافة مشاعة بين الناس، تتجلى مظاهرها في بث روح السؤال والدهشة في عقول أطفالنا منذ صغرهم وتشجيعهم على البحث الذاتي بروح مشبعة بالشغف والفضول المعرفي، والثقة بالمنهج العلمي الذي يقوم على التحليل المنطقي والخضوع لسلطان الدليل والبرهان، ويرفض الإذعان لمسلمات عمياء بحكم العادة والعرف والتقليد، والاستعداد المبدئي لدراسة كل الخيارات ومراجعة كل المسلمات، وتشجيع التفكير في كل الاتجاهات دون تابوهات أيديولوجية وسياسية وثقافية.