كتاب عربي 21

في رحاب القرضاوي (3)

1300x600
حرص على استقلاله، فكان الشيخ "يوسف القرضاوي"، العالم الثائر الذي يواجه الظلم، ويهاجم الطغيان، ويسعى في ذمة الثوار، فيُنصب بمواقفه إمام الربيع العربي وشيخه، الذي يتصدى لفقه الخنوع والذل، الذي أسسه "ملك عضوض"، حكم باسم الإسلام، فجعل من طاعة الحاكم، "وإن أكل مالك وجلد ظهرك"، من حسن إيمان المرء.

في مذكراته "ابن القرية والكتاب، ملامح سيرة ومسيرة"، وبالتحديد في الجزء الرابع منها، يروي "القرضاوي"، محاولة وزير الأوقاف في عهد مبارك، "محمد على محجوب" الإيقاع به وتجنيده لصالح الرئيس، لكنه حرص على استقلاله، ورفض الاقتراب من السلطة، وهو الرجل الذي تأبى نفسه هذا الاقتراب ويرى ضرورة أن تكون هناك مسافة بينه وبين الحكام.

"محمد علي محجوب"، هو كما ذكرنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة والد القاضي الذي فتح الباب لعملية محاكمة الرئيس "محمد مرسي"، في الاتهام بالتخابر لحركة حماس، وفتح السجون، ولم تكن القضية معروضة عليه، لكنه تجاوز حدود اختصاصه في صفقة مع العسكر انتقل بمقتضاها ليكون مساعداً للنائب العام بعد الانقلاب، وهو الذي انتقل من كونه ضابطا بأمن الدولة، إلى السلك القضائي في صفقة، ليس هذا مقام ذكر تفاصيلها، لاسيما أن عملية النقل، كانت بعد إقالة والده من منصب وزير الأوقاف ولم يكن بالقوة التي تمكنه من أن يلحق ابنه بهذا السلك، فقد تم عزله بعد اتهامه بأنه كان سبباً في نجاح الإخواني الوحيد في برلمان سنة 1995، "علي فتح الباب"، المرشح عن حزب "العمل"، وبالمخالفة لتعليمات رئاسية بإسقاط كل مرشحي الإخوان في هذه الانتخابات، لكن مخالفة "محجوب" لها كانت على قاعدة المضطر يركب الصعب، وقد دفع ثمنها عزلاً من منصبه وهو المقرب من شخص مبارك، وهو القرب الذي أثار ضده الحرس القديم في دولة مبارك، فعملوا على إضعافه وعزله.

كان "محجوب" الأب، يعرف من أين تؤكل الكتف، وكان خطيباً مفوهاً، بشكل أمكنه من أن يأكل بعقل "المخلوع حلاوة"، وقبل توليه منصب وزير الأوقاف كان نائباً عن الحزب الوطني (الحاكم) لأكثر من دورة، وكان الجميع يعلمون أنه وزير مختلف، وإذا كان القرضاوي قد وصف الوزير السابق له الأحمدي أبو النور، بأنه "رجل علم أكثر منه رجل سياسية"، فإن هذا ينطبق على كل وزراء الأوقاف السابقين، بمن فيهم من كان شغله الشاغل أن ينافق السلطة مثل الشيخ "عبد المنعم النمر"!

كنت أجري حوارا لجريدة "الوطن" الكويتية مع الشيخ "صلاح أبو إسماعيل"، عندما سألته عن صحة ما أثير من أنه عرض عليه منصب شيخ الأزهر، أجاب: عرضت علي المشيخة مرة، والوزارة مرتين، ثم قال: ولست حزينا على شيء فوزارة الأوقاف لها إحصائية غريبة، فلم يدم لها وزير أكثر من سنة ثم استدرك: "إلى أن وصلت الوزارة لمحمد على محجوب وأعتقد أنه سيبقى فيها طويلا"!

بقي محجوب وزيرا للأوقاف قرابة العشر سنوات، فقد كان يملك قدرات دفعت به إلى أن يكون مقرباً من مبارك، بشكل أثار غيرة من كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم وحدهم "رجال الرئيس"، ومن أول رئيس الديوان الرئاسي "زكريا عزمي"، إلى "كمال الشاذلي" و"صفوت الشريف"، وهذه القدرات تجلت بقدرته على تجنيد العلماء لخدمة النظام، وكان طبيعياً أن يكون شيخ بحجم وقيمة "القرضاوي" مغرياً لرجل بذكاء "محجوب" فسعى للانقضاض عليه، لكنه فوجيء بعالم لا يغريه الاقتراب من الحكام، ولا تغريه الأضواء، وكان عرض السلطة له أن يقدم برنامجاً في التلفزيون المصري، الذي كان الظهور على شاشته حينئذ أمراً مغرياً، كاد بسببه رجل بحجم "ميلاد" أن يفقد عقله، وذهب لحزب "التجمع" المعارض الذي يشغل موقعاً قيادياً فيه وهو يقول إن كل ما فعله في حياته لم يساوي ظهوره التلفزيوني لمرة واحدة، فقد تعرف عليه الناس في الشارع، وكان هذه اللقاء، وسعيه لتكراره هو بداية تفكيره في ترك "الحزب المعارض"، فقبل تعيينه في البرلمان بالمخالفة لقرار الحزب واستقال!

لم تكن "الجزيرة" قد أطلقت للناس، وكان التلفزيون المصري في المقدمة، ولمعرفة قيمة العرض، الذي قدم للشيخ فرفضه، أن القوم في التلفزيون، عندما فكروا في طريقة لتوقفي عن الهجوم على وزير الإعلام "صفوت الشريف"، كان عرضهم الذي قدمه رئيس قطاع الأخبار، هو تقديم برنامج تلفزيوني، فعندما اعتذرت "دغدغ مشاعري الجياشة" باستضافتهم لي في برنامج "صباح الخير يا مصر"، وقلت للرجل أنا لا أفهم معنى أن يستيقظ المرء من نومه مبكراً ويذهب إلى التلفزيون ليشارك في "صباح الخير يا مصر"، وكان ينظر إلي في دهشة وهو ويضرب مثلاً بأحد رؤساء التحرير الذي يفاجأ به في استراحة الضيوف صباحاً فيسأل قسم الإعداد ليكتشف أنهم لم يدعوه فيضطر رفعاً للحرج أن يدخله على أي فقرة من فقرات البرنامج!

ولنا أن نعلم أنه عندما أرادت السلطة أن تؤمم جريدة "الوفد" بعد وفاة رئيس تحريرها المعارض الشرس "مصطفى شردي"، تم تخصيص برنامج في التاريخ يقدمه رئيس التحرير الجديد "جمال بدوي"!

لقد سبق هذا العرض، أن التقى وزير الأوقاف "محمد علي محجوب" بالشيخ "القرضاوي" في القاهرة، وقال له: "أريد أن يتعرف الرئيس عليك، ويستفيد البلد منك، لذا لا بد أن تهدي إلى الرئيس مجموعة من كتبك يتعرف من خلالها عليك". 

وبدا للوزير أن الشيخ ليس سعيداً بالعرض، فقد قال له: "معلوماتي أن الرئيس لا يقرأ" فيؤكد الوزير له أن كتبه تتميز بالسلاسة والعذوبة والاعتدال فإن لم يقرأها الرئيس فقد يقرأها غيره ممن في منزله فيستفيد منها!

وقد أهدى الشيخ لمبارك بعض كتبه، لكن الصياد الماهر، كان يعلم أنه أمام فريسة تستحق الصبر والمناورة، فلما انعقد في القاهرة أحد المؤتمرات الإسلامية والتي دعي لها "القرضاوي" وتم تحديد موعد للمشاركين فيه لمقابلة مبارك، حرص الرئيس على أن يكون قريبا منه فأجلسه في مكان لا يفصله عنه سوى وزير الأوقاف، وقد اختصه مبارك بحفاوته، وبشكل اعتبره "محجوب" مدخلاً للانقضاض، والتقدم خطوة للأمام بعد هذا اللقاء وتلك الحفاوة، وقال له: "أرأيت كيف عاملك الرئيس معاملة خاصة، أريد أن تكون الصلة بينك وبينه حسنة!؟".

بيد أن الشيخ الذي يريد أن تكون صلته مع الجميع حسنة قال للوزير: "لا أحب زيادة الاقتراب من الحكام فلست راغباً فيما عندهم ولا طامعاً في دنياهم..".

لقد سافر الشيخ بعد هذا اللقاء إلى الدوحة، ثم دعي لمؤتمر بمركز صالح كامل بجامعة الأزهر، وكان "الصياد" في انتظاره، فقد أرسل له وزير الأوقاف ورقة يخبره أنه يريد أن يلتقي به، وفي اللقاء عرض عليه فكرة تقديم "برنامج تلفزيوني"، فلما سأله عن المطلوب من البرنامج، أجابه: ليس إلا نشر فكر الاعتدال ومواجهة الفكر المتشدد.

"القرضاوي"، ومنذ كتابه "الحلال والحرام في الإسلام"، والذي ألفه شاباً وقبل أن يبلغ أشده، عرف بأنه يعبر عن مدرسة الاعتدال والوسطية قبل أن يكون شيخها، لكن هذا "عرض السلطة"، الذي اعتذر عنه، وقال للوزير: "ولكني محسوب على الإخوان المسلمين الذين يحاربون الدولة؟ فكيف يفسر الناس ظهوري المفاجئ على التلفزيون؟ أخشى أن يقول الناس إن الحكومة اشترت القرضاوي"!

وقال له الوزير: "أنت فوق الشبهات وتاريخك يرد عليهم، وما تقوله أيضاً يجيب عنك فليس مطلوبا منك أن تمدح أحداً أو تذمه، إنما تقدم للناس الإسلام الصحيح"!

وانتهى المؤتمر، وغادر الشيخ للدوحة، ولم يفقد وزير الأوقاف الأمل فطارده برسله وباتصالاته من أجل قبول العرض، لكن الشيخ رد عليه بأن الدولة إذا كانت تريد أن تحسن صورتها فلتسمح بالمحجبات بالظهور على الشاشة، ولتوقف بث الصور الخليعة، ولتبدأ في تطبيق الشريعة بالتدريج، وإطلاق الحرية السياسية للجميع ومنهم الإسلاميون. وسكت الوزير عن طلبه إلى حين، فكأنه صدم!

إنه "القرضاوي" إن كنت جاهله.