كتاب عربي 21

فقه الغراب في فهم تداعيات الخطاب!

1300x600
وكأن ما جرى للغراب في هذا اليوم الأسود، حدث مثله لمن استمعوا لخطاب عبد الفتاح السيسي الأخير، وهو أقرب لخطابه الشهري، وليس للحديث الصحفي، لأن من حاوره كان "سنيداً" لا أكثر، وقد انطلق في موقعه كمحاور من مكانته كمعجب، وقديماً كان أساتذة الصحافة يقولون للمبتدئ في المهنة، إذا انبهرت بمن تحاوره فقد فقدت صفتك الصحفية. وقد توحد السائل مع المجيب فلا تعرف من فيهما المذيع ومن عبد الفتاح السيسي؟!

في بلدنا بصعيد مصر، عرفنا من أصاب الغراب بالجنون، وربما دفعه لهذا حالة الفراغ القاتل، وإذ صعد صاحبنا إلى أعلى النخلة وقد وجد أحد الغربان قد وضع بيضه، فوضع بدلاً منه كتكوتين حديثي الولادة، وقد عُرفت الغربان بخطف الكتاكيت وأكلها، شأنها في هذا شأن طائر "الحداية"، ولهذا قيل إن "الحداية لا "تحدف كتاكيت". ورغم عملية الغواية التي قام بها صاحبنا للغراب، فإنه عندما عاد ووجد ما وجد، فقد أصيب بحالة هستريا، فقد كان يهبط على النخلة، حيث عشه فلا يجد بيضتيه ويجد أمامه كتكوتين، فيصرخ بأعلى صوته ويطير إلى أعلى، ثم يهبط ثانية، وثالثة، ورابعة، وفي كل مرة ينظر مندهشاً ثم يقول يا غاية من ظلم!

وقد احتشد الغربان على صراخه، ينظرون في عشه وهم في دهشة، ثم يطيرون ويعاودون الكرة: نظرة مسكونة بالدهشة، ثم طيران لأعلى، لكنهم وقد بدوا في حالة مواساة لأخيهم، فلم يكونوا يشاركونه صراخه، وبدا وهو يفعل كما لو كان قد أصيب بلوثة عقلية، وفي بعض المرات كان يضرب رأسه في النخلة وكأنه في كابوس، وفي حلم وليس في علم، ويعمل من أجل أن يستيقظ.

اللافت في هذه الواقعة، وهي صحيحة بدون أدنى مبالغة، أن أياً من الغربان لم يستطع أن يصدق أن الكتاكيت غربان مع أن الملامح متقاربة والفارق هو في اللون، كما أن أياً منهم لم يستطع تجاوز هذا الجو الهستيري فيغلب عليه طبعه، ويتعامل مع الكتكوتين على أنهما رمية بغير رام!

الحالة التي انتابت القوم من الغربان، فجن منهم المصاب في أعز ما يملك، وأصيب زملاؤه بدرجة أخف أنتجت ذهولاً ونسيان الطبيعية الغرابية، هذه الحالة أصابت كل الذين استمعوا لخطاب عبد الفتاح السيسي، ففقدوا القدرة على تفسير ما قال، حتى صار السيسي في كل خطاب، بحاجة إلى شراح من الراسخين في العلم الفضائي، الذين يمكنهم التقاط الكلمات الطائرة في الهواء الطلق، وإعادة ضبطها، فنحن بحاجة لمن يملكون القدرة على الاجتهاد في فهم النص، لاسيما وأن بعض العبارات على أهميتها جاءت مفككة ومترنحة، وبشكل يضع الباحث في حيرة من أمره، فكيف لباحث أن يحافظ على قواه العقلية وقد جاء ليؤرخ لانقلاب (30 يونيو)، ثم يطلع على مصدر واحد هو السيسي فيجد تناقضاً في رواياته هو نفسه، فالمؤكد أن هذا الباحث سينتهي به المطاف إلى حالة مثل حالة الغراب سالف الذكر؟!

فالسيسي أعلن مراراً وتكراراً من قبل أن تدخل القوات المسلحة جاء على إثر دعوة الشعب لها أن تنزل، وفي خطابه هذا، نفى هذا الكلام وأشار إلى أن المخطط كان قبل ما جرى في (30) يونيو بفترة طويلة وأنه قديم، ومعد سلفاً، وبشكل يجعل الحديث عن خروج الجماهير، وأن الجيش اضطر للانحياز لها وعزل الرئيس وتعطيل العمل بالدستور، كلاما للاستهلاك المحلي والدولي، ولو قيل مبكراً لوفر علينا جهداً هائلاً في مناظرات مملة مع أنصار الانقلاب، الذين كانوا يتحدثون عن ثورة الشعب التي انحاز لها الجيش وكتبت أنا أكثر من مرة إن "ما جئتم به السحر إن الله سيبطله"، وقد أبطله بواسطة السيسي نفسه وفي اعتراف من الناحية القانونية يعد سيد الأدلة!

وهو اعتراف لا يدفع بالباحثين فقط لأن يصابوا بما أصيب به "الغراب المفتون"، ولكنه سيدفع الذين لا يزالون إلى الآن يرددون أن (30 يونيو) ثورة، فماذا يمكن أن يقولوا الآن إزاء هذا الاعتراف، إلا أن يضربوا برؤوسهم في جزع نخلة ثم يصرخون كما كان يفعل "الغراب"؟!

الأمر الثاني هو ما جاء في اعتراف السيسي وبدون ضغط أو إكراه أن المصريين فقدوا الآن تعاطفهم مع الدين مثلما كان الحال من قبل، وهو أمر يمثل رمية بغير رام للذين يقولون إن الانقلاب ليس عملاً سياسياً أو عسكريا من شخص طامح في السلطة، ولكنه جاء ليحارب الدين، وأن الانقلاب في الأصل هو حرب على الهوية!

هذا الفريق، الذي يريد أن يدفع إلى أتون الحرب الدينية في التعامل مع الانقلاب قدم له السيسي "هدية على طبق من فضة"، وقطعا فإن السيسي سيدفع أنصاره إزاء هذا العطاء المجاني بدون حول من هذا الفريق أو قوة، للإصابة بالجنون الذي أصيب به الغراب!

إنه السيسي الذي هو جندي في معسكر خصومه ويعمل لصالحهم، وبالنظر إلى حالته فلا بد أن يستقر في وجدان الناس، أن الإنسان في الأصل مسير لا مخير!

فمن يخدم المعركة ضد الانقلاب العسكري أكثر من السيسي؟!