مقالات مختارة

هل انحسرت موجة الإسلام السياسي للأبد؟

1300x600
المفكر السياسي ورئيس تونس السابق الدكتور منصف المرزوقي يرى في مقاله في "الجزيرة نت"، "الموجة الإسلامية.. هل بدأ الجزر؟"، بأن موجة الإسلام السياسي فعلا بدأت بالانحسار، مثلها مثل الموجات الفكرية الأخرى التي عايش المرزوقي طفرتها ثم انحسارها على مدى نصف قرن من عمره المديد بحول الله.

ولا يكترث المرزوقي بفورة الإسلام السياسي التي لا يزال العالم يشهد مظاهرها مثل نشاط الحركات الإسلامية السياسية و"الجهادية" وشيوع الحجاب واللحية وسيطرة الإسلاميين على العمل الخيري، ويقول إن كل هذا لا يؤبه له مقياسا للديمومة، لأن من كانوا شبابا مثله في السبعينيات كانوا يظنون أن الشيوعية من فرط قوتها وسرعة انتشارها باقية لأكثر من ألف عام، حتى بلغ الغرور بالشيوعيين حد الظن بأنهم سيكتسحون العالم، وكل ما عدا الشيوعية إلى مزبلة التاريخ، فانهارت الشيوعية بسرعة خاطفة مثل صرح من ورق مقوى، كما يصفها الدكتور المرزوقي.

والخلاصة من كلام المرزوقي، أن "الإسلام السياسي" أيضا، صرح من ورق مقوى وعلى وشك الانهيار، بل بدت علامات انحساره وانهياره، ومن المهم هنا قبل أن أعقب على نظرية الدكتور المرزوقي وحتى لا يساء فهمه وغايته، فقد أكد أنه لا يقصد بكلامه الإسلام الدعوي أو التربية الضرورية المتواصلة لترسيخ مكارم الأخلاق، وإنما قصد "الحركات السياسية بكل تنويعاتها التي جعلت من الإسلام -عن صدق وعن حسابات- مرجعيتها الفكرية وراية حشدها التنظيمي للوصول للسلطة والبقاء فيها أطول وقت ممكن".

وفي رأيي، إن في كلام الدكتور المرزوقي صوابا وخطأ، أما الصواب فهو انحسار موجة بعض الحركات الإسلامية في بعض البلدان العربية والإسلامية، وانحسار موجة التدين معها، وهذا يُلاحظ من تناقص نسبة المنتسبين تنظيميا أو فكريا إلى الإسلام السياسي في أغلب الدول الإسلامية والعربية، وحتى التدين التقليدي شهد انحسارا لا تخطئه العين مقارنة بفورته في السبعينيات والثمانينيات وحتى مطلع التسعينيات.

ولهذا فإن فوز الحركة الأم للإخوان المسلمين في مصر بالانتخابات الرئاسية لم يكن في إحصاءاته ما يدل على قوة متنامية، بل مد منحسر، فانتصار الدكتور محمد مرسي بنسبة 51 في المائة أمام الفريق أحمد شفيق كان في حد ذاته مؤشرا على انحسار موجة إحدى كبرى حركات الإسلام السياسي حتى ولو كان فوزا عطفا على دعوى شعبية الإخوان الجارفة، التي كان من نتائجها المنطقية، لو كانت موجودة على أرض الواقع، فوز جارف في الانتخابات.

وأما الخطأ في كلام الدكتور المرزوقي، فهو في تحرير مصطلح "الإسلام السياسي"، وربطه فقط بالحركات الإسلامية المعاصرة التي اتخذت من الإسلام مرجعية فكرية لها كما عرفه الدكتور المرزوقي، فلو سلمنا جدلا بمصطلح "الإسلام السياسي" والتعريف الذي اختاره له، فإن التاريخ الإسلامي كله "إسلام سياسي" منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، مرورا بالخلافة الأموية والعباسية والأيوبية والمملوكية والأندلسية والأدارسة والدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة، وحركات التحرر من الاستعمار مثل الحركة السنوسية في ليبيا والمهدية في المغرب والقسامية في فلسطين بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

كل هذه، من دول خلافة إلى دول إمامة إلى حركات تحرر، ينطبق عليها مصطلح "الإسلام السياسي" الذي عرفه الدكتور المرزوقي، بأنه "من جعل من الإسلام مرجعيته الفكرية"، ومن يخالف أن كل من ذكرناه أعلاه من دول خلافة وإمامة وحركات تحرر جعلوا الإسلام مرجعيتهم الفكرية على تفاوت في التطبيق؟

وعليه، فإن موجة "الإسلام السياسي"، بمفهومه الشامل العام لا المحصور في الحركات الإسلامية السياسية فقط، تعيش منذ عصر النبوة إلى الآن في مد وجزر دائبين دائمين، ما ارتبط الإسلام بالسياسة، وهو ما تضافرت عليه النصوص الشرعية الكثيرة ومارسه المسلمون منذ عهد النبوة إلى عصرنا الحاضر، وإلى قيام الساعة، وهذا ما يجعلها مختلفة متباينة عن تجارب الشيوعية والوطنية التي سادت ثم بادت.

الخلاصة، أن الحركات الإسلامية السياسية فعلا تشهد انحسارا واضحا، وربما تبيد فكرة الحركة والتنظيم، وأما فكرة "الإسلام السياسي" ففي مد وجزر، ولكن لا تبيد أبدا.

(عن صحيفة الشرق الأوسط السعودية)