كتاب عربي 21

مقال من المستقبل

1300x600
نحتفل اليوم بالذكرى الخامسة لإعلان سيناء خالية من الإرهاب.

لم يكن الوصول لهذه المرحلة سهلا، فالسنوات التي سبقت ذلك كانت سنوات دامية فقدت فيها مصر المئات من أبنائها جنود القوات المسلحة والشرطة وأهالي سيناء على يد الإرهاب الذي كان يتصور أنه بإمكانه انتزاع شبه الجزيرة من مصريتها وتحويلها إلى ولاية ظلامية تحكمها أفكار القرون الوسطى.

نقطة فاصلة هي التي وضعت حدا بين المرحلتين، مرحلة سيناء المضطربة الملتهبة المهددة بالضياع، وسيناء الهادئة الآمنة المنطلقة نحو التنمية، تلك النقطة هي التي قررت فيها الدولة التوقف لمراجعة حساباتها، وتغيير استراتيجيتها التي ثبت فشلها في التعامل مع الأزمة، وعقد جلسات مطولة مع ممثلي المجتمع المدني والأحزاب السياسية وأهالي سيناء للاستفادة من مقترحاتهم في وضع استراتيجية جديدة واقعية وفعالة بعدما أدركت متأخرا أن مسألة سيناء أكبر من أن تترك للمسؤولين الأمنيين وحدهم.

بعد هذه الجلسات، خرجت الدولة بسياسة جديدة قائمة على عدة محاور:

تم تخيير الكيان الصهيوني بين التنازل عن بند تحديد قوات الجيش المصري المتواجدة في سيناء وإلغاء اتفاقية السلام، واضطرت الحكومة الصهيونية للموافقة على الخيار الأول، بعدما تأكدت أن مصر لن توافق مجددا على شروط وافقت بها أواخر السبعينيات للمحافظة على سيناء مصرية، فأصبحت الآن أكبر خطر يهدد مصرية سيناء.

من وقتها انتشرت قوات الجيش والشرطة بأعداد كبيرة في كامل مساحة سيناء، وبالتوازي مع ذلك كانت الأجهزة الأمنية العاملة في سيناء تلغي رسميا الكمائن الثابتة التي كانت مصايد للقوات، وأهدافا سهلة للإرهابيين، وتوجه جزءا من ميزانيتها لشراء أجهزة حديثة لكشف المتفجرات وكسح الألغام تسير أمام الدوريات المتحركة التي أعادت حركتها الدؤوبة والمتواصلة بعضا من الإحساس بالأمن لمواطني سيناء في الفترة الأولى.

أرسلت وزارة الداخلية عشرات القوافل لاستخراج بطاقة رقم قومي وشهادات ميلاد، وقررت إسقاط الأحكام الغيابية الصادرة ضد المئات منهم في عصر مبارك والتي دفعتهم لصعود الجبال والالتحاق بالخارجين على القانون هربا من ملاحقة الأمن، كما منحت لشيوخ القبائل صلاحيات كبيرة في التعاون مع الحكومة لتحديد فرص الاستثمار الممكنة في مناطقهم والمشروعات والخدمات التي تحتاج إليها.

أصدر مجلس النواب قانونا يلزم الشرطة بتعيين حراسة لأي مواطن سيناوي يبلغ عن خلية إرهابية أو عملية استهداف قبل وقوعها، أو يدلي بمعلومات تساعد الأمن في القضاء على البؤر الإرهابية لتشجيع بقية المواطنين على التعاون مع الدولة دون استهدافهم وتصفيتهم على يد الإرهابيين، وفي الوقت نفسه كان البرلمان يعكف على سن تشريع يعاقب بالسجن والغرامة كل من يدلي بتصريحات تحتقر أهالي سيناء، أو تحرض عليهم وتطالب بتهجيرهم.

بعد مرور عام واحد على بدء تطبيق هذه الاستراتيجية الجديدة، كان الأمن قد بدأ يعود بصورة ملحوظة إلى سيناء لاسيما في النصف الثاني من العام الذي شهد انخفاضا ملحوظا في عدد وحجم العمليات الإرهابية، وزيادة في أعداد الإرهابيين المقبوض عليهم، وكان لتغيير استراتيجية القوات لتصبح أولويتها القبض على الإرهابيين وليس تصفيتهم أثره في تخويف الباقين، وكذلك في جمع معلومات حول استراتيجية هذه الجماعات وطريقة استهدافها للقوات، وكيفية وصول السلاح إليها.

وفي الذكرى الأولى لبدء تطبيق الاستراتيجية الجديدة، كان رئيس الجمهورية يلقي خطابا في قاعة الاحتفالات الرئيسية بمدينة العريش بحضور عدد كبير من الوزراء والمسؤولين يعلن فيها عن خطة لتحويل العريش إلى مدينة سياحية عالمية على غرار شرم الشيخ، وتحويل منطقة وسط سيناء إلى منطقة صناعية كبرى خلال 5 سنوات، وبعد الخطاب عقدت الحكومة بكامل هيئتها اجتماعا في مبنى محافظة شمال سيناء لوضع الخطوط العريضة لتنفيذ الخطة، وأعلنت في الاجتماع إعفاء المشروعات الجديدة التي تقام في شمال ووسط سيناء من الجمارك لمدة 10 سنوات مع إلزامها بتعيين نسبة محددة من أبناء سيناء ضمن موظفيها.

كل هذا دفع كثيرا من المستثمرين للتفكير في إقامة مشروعاتهم بشمال سيناء في ظل الجدية الكبيرة التي تبديها الحكومة والحوافز الكبيرة التي تقدمها، وبعد التأكد من أن المحافظة تسير في الاتجاه الصحيح أمنيا بعدد خطاب الرئيس واجتماع الحكومة وقراراتها، أضف إلى ذلك بالطبع بدء عمل الأنفاق التي أقامتها الدولة تحت قناة السويس لربط سيناء بالقاهرة والتي كان منها خط سكة حديد وهو ما جعل نقل الأفراد والبضائع من شبه الجزيرة إلى بقية مصر أيسر كثيرا من ذي قبل.

***

مقال أتمنى أن أكتبه في المستقبل، لكن ما أتمناه ألا يتأخر كثيرا لأن تأخره يعني مزيدا من الدماء والجثث العائدة في توابيت.

لو جلس المسؤولون مع خبراء في الشأن السيناوي – ومنهم بالطبع الباحث إسماعيل الأسكندراني الذي يحبسه النظام بلا سبب – لوضعوا أمامه عشرات الحلول والأفكار القابلة للتنفيذ والكفيلة بتحسين الأوضاع الأمنية والحياتية في سيناء سريعا، لكنه يكتفي بالحل الأمني، ويفشل فيه أيضا!

ولو يركز الخبراء الأمنيون على تفاصيل كل حادث إرهابي وتشابهه مع الحادث الذي يليه، لوجهوا سهام نقدهم للقائمين على إدارة الملف الأمني، بدلا من المطالبة بفرض مزيد من القيود على الحريات، وملاحقة مزيد من منظمات حقوق الإنسان، وسجن مزيد من النشطاء، على اعتبار أن مناخ الحرية المبالغ فيه الذي نعيشه هو السبب في الإرهاب!

ولو قرأ الجميع التاريخ لعلموا أن سيناء لن تضيع مرة ثانية إلا كما ضاعت في المرة الأولى، جيش منشغل في السياسة والبيزنس، دولة غارقة في محاربة طواحين الهواء، ورئيس تقتصر أحلامه في أن يصبح زعيما، وأنها لن تنجو إلا كما نجت في المرة الأولى، جيش مستغرق في الحرب وخططها، جبهة داخلية متماسكة ومتفقة على هدف واحد، ودولة لا ترضخ لمراكز القوى.