كتاب عربي 21

البطولات الخفيّة في أرض البدايات العسيرة

1300x600
في كتابه (دب الأشواك: صفحات من تاريخ المقاومة في فلسطين)، يقدّم الأسير الفلسطيني سليم حجّة، المحكوم في سجون العدو الصهيوني بستة عشر مؤبدا وثلاثين عاما، صورة دقيقة عن ظروف المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية إبّان انفجار انتفاضة الأقصى، والدروب الشائكة التي عبرتها الطليعة المجاهدة في ذلك الحين، لا تملك إلا الإيمان والإرادة، مجرّدة من كل قوّة، فقيرة من المعرفة والتجربة الكافية، حتى حملت تلك الملحمة الكفاحية العنيدة على أكتافها، وبلغت بها آمادا غير مسبوقة من البأس والعنفوان.

وهو من هذه الجهة وثيقة تاريخية هامة لصدورها عن شخصية عانت ظروف التأسيس تلك، ولتمتعها بالدّقة ومجافاتها المبالغة، وتجنبها الذاتية الفجّة، وحرصها على إنصاف المجاهدين ممن رافقوا الكاتب أو اتصل عملهم بشكل ما بعمله؛ ولذلك فإنّها تؤسس لنفسها أهمية أخرى، بكشفها لواقع الضفة الغربية المزمن، بل ولواقع الأرض المحتلة عموما، الذي لم ينكسر إلا بانتفاضة الأقصى التي أعادت تطويع هذا الواقع في قطاع غزة، واستمرت تبني عليه كيان المقاومة حتى اللحظة، بينما عاد مجددا ليهيمن في الضفة الغربية كما كان دائما، صلدا ومصمتا، عزيز الثغرات وصغيرها.

وبالرغم من أن الكفاح الفلسطيني استغرق طولا عقودا كثيرة من الزمان، وعرضا آلاف الأفراد والبيوت الفلسطينية، فإنّ الذاكرة القصيرة، وتباين تجارب الأفراد في ثرائها وفقرها وملامستها لأرض المقاومة، والانسلاخ الفعلي للكثير من المعقبين على الشأن العام عن ظروف الميدان، تحول دون القدرة على مقاربة الواقع النضالي، بما فيه العمل المقاوم وأوضاع الفصائل، مقاربة تنمّ عن فهم صحيح، وبالتالي معالجة مفيدة ومثمرة، إن في نقد التجربة، أو محاولة تطويرها، أو محاولة تجاوز الواقع.

في سياق المواجهة مع الاحتلال، لا يمكن الحديث عن ظروف مستجدة بالكامل من جهة صلابة الواقع واستعصائه على العمل الجهادي، فقد كانت المحطات الكفاحية استثناءات عنيدة من هذا الواقع القاهر، ابتداء من محاولات حركة فتح الأولى في ستينيات القرن الماضي، حينما بنت آمالا كبرى على إمكانية تثوير الأرض المحتلة، أو تنظيم "حرب الشعب" من داخلها، أو إدارة حروب الغوار من على أرضها، مرورا بالانتفاضتين العظيمتين، ووصولا للمحاولات الراهنة لإعادة تطويع الواقع وتوسيع ثغراته نحو مقاومة أكثر جدّة ونجاعة.

بيد أن دخول السلطة الفلسطينية منح هذا الواقع عناصر سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية زادته صلابة، وفي الوقت نفسه، وفّر في انتفاضة الأقصى على وجه التحديد، فرصة لمعاندته تمثلت في المناطق (أ) التي شكّلت لفصائل المقاومة أرضية لإعادة البناء والتنظيم، ثم تحوّلت إلى قواعد انطلاق، إلى أن فقدت تلك المناطق خاصيّتها مع حملة "السور الواقي" التي أعاد فيها جيش العدو اجتياحها، حتى ظلت فاقدة لتلك الخاصية إلى اليوم، بينما كانت، وللمفارقة، قبل انتفاضة الأقصى عائقا إضافيا على حركة المقاومة، بل وعلى نضال الشعب الفلسطيني كله.

لم تكن تملك حماس في الضفة الغربية مع بداية انتفاضة الأقصى سوى أعداد قليلة من الأفراد خارج السجون، المنحدرين من تجارب جهادية سابقة، وبخبرات بالغة التواضع، فالقدرات الأمنية المباشرة التي يتمتع بها الاحتلال، والسياسة الأمنية التي انتهجتها السلطة، أدّت في النهاية إلى تفكيك كامل البنى العسكرية للحركة في غزة والضفة الغربية، وبالذات في الفترة الواقعة بين عامي 1996- 1998، وإن كان الحديث الآن لا يقصد سوى الضفة الغربية، وبالتحديد شمالها حيث كانت تجربة سليم حجّة، وإن اتصلت هذه التجربة عضويا بمجموعات أخرى في رام الله وبيت لحم والخليل، حتى أمكن القول أن التأسيس العسكري مع انتفاضة الأقصى بدأ بالتبلور من الدرجة صفر، بما يفيد عن القدرات الهائلة التي تتوفر للعدو بحكم الحضور الأمني الفيزيائي المباشر، ودور الاعتقالات الخطير في تفكيك البنى التنظيمية، وحجم تلك البنى الصغير بما يجعلها عاجزة عن احتواء الضربات ومداولة الكوادر وتوريث الخبرة والتجربة.

يذكر سليم حجّة أن بدايات العمل العسكري في الانتفاضة الثانية في مدينة نابلس بدأت مع الشهيد أيمن حلاوة، والقادم من تجربة جهادية سابقة، ولكن بخبرات متواضعة اشترك فيها جميع إخوة العمل حينها، عسكريا وأمنيا وتقنيا، إلى أن جاءهم مهندس مُرسل من قيادة حماس في الخارج، طوى الكتاب اسمه، فلا يُعرف من هو، فأمدّهم بالمعارف العسكرية والأمنية والتقنية اللازمة، التي عززتها معرفة أخرى قادمة هذه المرة من الشيشان، استفادها الشهيد فواز بدران، من طولكرم، من مجاهد عربي سابق في الشيشان، تعرّف إليه أثناء دراسته الجامعية في الأردن، وقد صارت، لاحقا، تلك المعرفة الشيشانية بيد هذه الطليعة من كتائب القسام، ولا يُعرف أيضا من هو هذا المجاهد العربي الذي أضاف للمقاومة الفلسطينية تلك الطاقة التي دفعتها إلى الأمام وصنعت على يديها انتفاضة الأقصى بعنفوانها المعروف، ثم تعزز ذلك كله ثالثا بالمجاهدين الذين خرجوا من سجون السلطة الفلسطينية، كالشهداء محمود أبو هنود صاحب الخبرة الجهادية الطويلة، ونسيم أبو الروس وجاسر سمارو، الحاملين لخبرة الشهيد محيي الدين الشريف، وهكذا..

وظلت الضفة الغربية أرض الأشواك، وأرض البدايات العسيرة دائما، وغواية الرجال الأخفياء، ومنبع المحاولات الجريئة، ودثار الأسرار الفاتنة، ما اندفن منها وما انكشف، وإذا كانت أشواكها في هذه المرحلة أشد قسوة مما كانت عليه في المرحلة التي يؤرخ لها سليم حجّة، فإنها لم تخل أبدا من ذلك الصنف من الرجال، على مثال أبطال عملية بيت فوريك (إيتمار) التي افتتحت الملحمة الجارية الآن، أو على مثال قناصيّ الخليل، وقد ارتفع عنهم ستار الخفاء، بعدما أعلن العدو عن اعتقال الشقيقين نصر وأكرم بدوي من مدينة الخليل، واتهمهما بالانتماء لحماس، وحمّلهما مسؤولية عمليات القنص الغامضة التي جرت في الخليل في العامين الأخيرين.