كتاب عربي 21

اليسار التونسي يعد أنصاره بتسلم السلطة في تونس

1300x600
في صبيحة يوم 6 فيفري 2013، اهتز التونسيون بعد انتشار خبر اغتيال الوجه اليساري المعروف "شكري بلعيد". كان ذلك أول اغتيال سياسي تعرفه البلاد بعد الثورة، وتم في وقت حرج حيث كان المواطنون يخوضون أول تجربة لهم في ممارسة الديمقراطية، وهو ما جعل هذه العملية مريبة تتجاوز مجرد تصفية زعيم سياسي بذل جزءا هاما من جهوده من أجل توحيد قوى اليسار، لتستهدف من وراء ذلك المسار الانتقالي برمته. اليوم، وبعد مرور كل هذا الوقت لم يعد السؤال المركزي: من قتل شكري بلعيد؟ وإنما: ما هو مستقبل الجبهة الشعبية بعد اغتيال مؤسسها؟ 

عانى اليسار التونسي منذ نشأته وإلى الآن من الانقسام والتشتت؛ إذ كلما ولدت مجموعة يسارية وطرحت على نفسها تغيير الأوضاع إلا وولد من داخل رحمها جنين يسعى منذ تشكله إلى الانفصال وإعلان الحرب على كل الذين سبقوه.

بعد الثورة، أحس عموم اليساريين بأن الدور القيادي الذي حلموا به منذ زمن بعيد قد دقت ساعته في تونس. وكان شكري بلعيد أكثر المؤمنين بهذه المهمة؛ حيث كان بعيد النظر، يتمتع بمقومات الزعامة، ويملك عديد الخبرات التي تمكنه بأن يلعب أدوارا أولى في بلد مثل تونس، ولذلك بذل جهودا عسيرة من أجل إقناع أبرز مكونات اليسار الراديكالي بضرورة توحيد الجهود وبناء "جبهة تقدمية" تتولى هي إنجاز هذه المهمة. وقد حقق في هذا السياق مهمتين رئيسيتين معقدتين.

تمثلت المهمة الأولى في تحقيق المصالحة التاريخية بين الفصيلين الرئيسيين لأقصى اليسار التونسي، وهما "حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد" الذي كان يتولى زعامته، والثاني "حزب العمال الشيوعي التونسي" الذي يقوده غريمه السابق حمى الهمامي، الناطق الرسمي الحالي باسم "الجبهة الشعبية". ولم تكن هذه المهمة سهلة، وذلك نظرا لثقل الخلافات الأيديولوجية والسياسية والتاريخية الموروثة عن المرحلة السابقة، والتي جعلت منهما قبل الثورة أعداء شرسين ضد بعضهم البعض، وهو ما جعل نظام بن علي يستفيد سياسيا من ذلك الصراع لإضعاف الطرفين وتهميش المعارضة.

أما المهمة الثانية التي أسهم فيها شكري بلعيد بقوة قبل اغتياله فهي بناء تحالف استراتيجي بين اليسار الراديكالي ومعظم مكونات العائلة القومية من بعثيين وناصريين بمختلف ألوانهم وتياراتهم. وهكذا تأسست الجبهة الشعبية بروافدها الماركسية والقومية. ولا يستبعد في أن يكون من بين الدوافع الرئيسية التي جعلت الذين قرروا وخططوا لعملية الاغتيال سعيهم من أجل إرباك هذه المبادرة التعبوية الأكثر أهمية في تاريخ اليسار التونسي بعد انهيار الحزب الشيوعي الذي تأسس عام 1920.

لقد كان الحزب الشيوعي جزءا من الحركة الوطنية، رغم سلسلة الأخطاء الكبرى التي ارتكبها في بعض محطات نموه، قبل أن ينهار هذا الحزب كليا مع انهيار الاتحاد السوفييتي. ورغم اغتيال بلعيد، إلا أن الجبهة حافظت على تلاحمها واستمرت كقوة رئيسية في المعارضة داخل البرلمان وخارجه.

مع أهمية استمرار تماسك "الجبهة الشعبية" إلا أن اغتيال بلعيد خلف تداعيات قاسية على عموم اليسار في تونس. فالجبهة، بعد غيابه، لم توسع من دائرة حلفائها، وعلى العكس من ذلك خسرت بعض مكوناتها نتيجة خلافات داخلية ذات طابع تنظيمي وسياسي. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن الخط الأيديولوجي الماركسي لا يزال مهيمنا ومحددا لطبيعة العلاقات بين مكونات الجبهة وفي تحديد الموقف من الأطراف السياسية خارج الجبهة.

وإذ تعدّ كتلة الجبهة داخل البرلمان التي تضم 15 نائبا أهم كتلة معارضة للتحالف الرباعي الحاكم، إلا أنها لم تتمكن من بناء تحالف أوسع مع الكتلة الديمقراطية التي تجمع معظم النواب المستقلين أو المنتمين للأحزاب الصغيرة، وهو ما جعل عموم المعارضة البرلمانية ضعيفة ومحدودة التأثير.

عندما كان شكري بلعيد حيا انتقد الإسلاميين بشدة، لكنه لم يقطع معهم نهائيا، ولم يكن يستبعد العمل المشترك معهم إذا اقتضى الأمر وأملته المصلحة الوطنية. لكن بعد اغتياله انهار هذا الاحتمال، واستبدل بحرب باردة مستمر بين الطرفين. لقد سارعت "الجبهة الشعبية" منذ اللحظات الأولى لعملية الاغتيال بتوجيه الاتهام إلى حركة النهضة، وحملت الغنوشي شخصيا مسؤولية قتله. 

لقد شهدت العلاقة بين علي العريض القيادي بحركة النهضة والذي كان يومها وزيرا للداخلية وبين شكري بلعيد توترا حادا طيلة الفترة التي سبقت عملية الاغتيال. وتذكر مصادر الجبهة أن بلعيد شعر بالخطر قبل وفاته عندما أحس بأن هناك من يراقبه ويلاحقه في تنقلاته، وطلب الحماية الأمنية لكن وزير الداخلية يومها لم يأخذ ذلك بالجدية المطلوبة. كما صدرت خلال تلك الفترة تصريحات نارية ضد بلعيد أدلت بها بعض الوجوه النهضوية البارزة مثل الشيخ حبيب اللوز، اتهمته بتحريض التونسيين بالمناطق المهمشة من أجل إسقاط حكومة الترويكا التي كانت تقودها حركة النهضة.

لا تكتف الجبهة الشعبية باتهام حركة النهضة باغتيال بلعيد، وإنما تصر حتى اليوم على القول بأن "النهضة" ضالعة في طمس بعض الأدلة وإخفاء عدد من الوثائق التي تدينها والتي سرقت من ملف القضية حسب قول محاميها وقادتها. ورغم أن المعطيات الأمنية المتوفرة لدى القضاء تثبت بشكل صريح أن تنظيم "أنصار الشريعة" هو الذي قرر ونفذ عملية اغتيال كل من شكري بلعيد والحاج محمد الراهمي، إلا أن أنصار الجبهة يصرون على القول بأن الذين قاموا بالاغتيال هم مجرد عناصر تنفيذية، وأن الذين خططوا وقرروا ومولوا هم أشخاص مرتبطون بحركة النهضة وينتمون سابقا حسب نفس المصادر لما يسمى ب "الأمن الموازي".

لم يكتف زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي بنفي أي مسؤولية له أو لحركته في اغتيال بلعيد والبراهمي، وإنما مد يده في أكثر من مناسبة نحو الجبهة الشعبية، ودعاها لحوار سياسي، ودافع عن مبدأ إشراكها في حكومة الحبيب الصيد، وهو ما رفضته قيادة الجبهة التي حددت هدفا واضحا ويتمثل في المطالبة بإقصاء النهضة من الحكومة، والعمل على عزلها سياسيا ومحاكمة قادتها، وعلى رأسهم راشد الغنوشي. وبذلك قاموا بإلغاء أي احتمال للتوصل إلى صيغة توافقية بين الطرفين.

إلى جانب ذلك، تجد الجبهة نفسها اليوم في مواجهة سياسية مع رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي بعد أن اتهمته بالعجز السياسي، في حين اتهمها هو بتحريض الشباب الغاضب ضد الحكومة، وذلك في محاولة للإطاحة بالنظام. وإذ تنفي الجبهة الشعبية مثل هذه الاتهامات، إلا أن الناطق الرسمي باسمهما حمى الهمامي دعا أنصاره في الفترة الأخيرة إلى الاستعداد من أجل الانتقال لمرحلة الحكم، بعد فشل الحكومة الحالية في معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد.

ولكن، هل يملك اليسار التونسي، والجبهة جزء رئيسي فيه، القدرة على مواجهة الأزمة بمفردها؟ وهل تملك البدائل الاقتصادية لذلك؟ وهل بإمكانها مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية وإقناع العالم بوجود قوى ماركسية على رأس السلطة في بلد ضعيف مثل تونس؟ تلك هي بعض تحديات اليسار التونسي في هذه المرحلة الصعبة.