مقالات مختارة

تونس: التدفق الذي لا يقاوم..

1300x600
كتب انتصار خريجي: منذ خمس سنوات، وفي مثل هذا اليوم، بدأت.. الثورات التي لم تنتج عن رواية واحدة، بل عن سلسلة من القصص الصغيرة التي أنتجها أناس عاديون..

"من الثورة والثورة المضادة، ولدت الحركة الجدلية وحركة مكافحة الماضي التي توجب على الناس تحمل تدفقها الذي لا يقاوم، كقوة خفية توجب عليهم الاستسلام في اللحظة ذاتها التي يحاولون فيها إرساء الحرية على الأرض".. حنة آرندت، في الثورة..

صادف الخميس الماضي مرور خمس سنوات على الثورة التونسية. 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، كان يوما عاديا مثل بقية الأيام، إلا أن حدثا واحدا حوله إلى بداية سلسلة من الأحداث غير الاعتيادية.

فاجأت الثورة التونسية وموجة الاحتجاجات التي اجتاحت العالم العربي العالم أجمع. وتم دفع ثمن كبير خلال هذه الخمس سنوات، في محاولة لجمع أصول هذه الطفرة من المعارضة من أجل تتبع جذور الزلزال الذي ظهر في أرض تونس الخصبة في أرياف تونس ومناطقها المحرومة. 

وبينما يناقش الأكاديميون ما إذا كانت العوامل التي أدت إلى هذه الثورة المفاجئة اقتصادية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو ديموغرافية أو تكنولوجية، يهتم الناس الذين يعيشون هذه العوامل بأن هذه الثورة قد عرّت التجارب التي عاشها أهل المنطقة، ووضعت مطالبهم في قلب أحداث سياسية، وجعلت من غير المرئي مرئيا.

وبدأت الثورة التونسية على إثر قصة رجل واحد، محمد بوعزيزي، الذي أضاءت تضحيته بنفسه شعلة المعارضة والكفاح. 

إن ما فعله البوعزيزي كان ليبقى على معزل عن العالم باعتباره احتجاجا يائسا على الظلم، مثل العشرات الذين سبقوه وأشعلوا النار في أنفسهم في الظروف ذاتها، ما لم تأت أحداث أخرى على يد أشخاص حوَّلوا هذه الحادثة إلى دعوة الأمة عامةً للحرية والعدالة والكرامة.

إن ما جعل صورة الانتفاضة ملهمة هو -بالضبط- التمثيل الحيوي لها من جميع شرائح المجتمع.
إن ما يجسِّدُ جوهر الانتفاضات عام 2011، هو أنها لحظة تأكيد للناس وللسياسة من الأسفل.

وفي حركة جماعية، استطاع الناس خلق لحظة قوية لدرجة أنها أطاحت بحكام وأجرت تغييرات سياسية كبيرة في المنطقة، منذ إنهاء الاستعمار. ليس لهذه الانتفاضات أساس واحد خاصة، بل لها أسس عدة نتجت عن أناس عاديين. 

إن ما جعل صورة الانتفاضة ملهمة هو، بالضبط، التمثيل الحيوي لها من جميع شرائح المجتمع، الإناث والذكور، الشباب والشيوخ، الريف والمدن، الفقراء والأغنياء، المتدينون والعلمانيون، الناس من جميع مجالات الحياة، العاطلون عن العمل، المزارعون، عمال المصانع، المحامون، الأطباء، ربات البيوت، الطلاب، والأساتذة. خلقت هذه الجهود الجماعية من القطاعات المختلفة لحظة كانت من الخيال، وقوة أعادت تعريف الواقع وحطمت الأطر السياسية والتحليلية القائمة.

لقد خلق ذلك.. لحظة كانت من الخيال، وقوة أعادت تعريف الواقع وحطمت الأطر السياسية والتحليلية القائمة.

إن أول صورة كانت تعدّ ضرباصا من الخيال تم دحضها؛ هي "الاستثناء العربي"؛ فقد اعتبرت هذه الأحداث غير اعتيادية لكونها حصلت في منطقة كانت تعد في منأى عن موجات الديمقراطية التي اجتاحت مناطق أخرى حول العالم، بقيادة أشخاص يتوقون جداً إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مثل غيرهم من الناس. وقد كان الشعار الذي بدأ في تونس، وانتشر بعد ذلك في جميع أنحاء المنطقة؛ "الشعب يريد إسقاط النظام"، صرخةً صدرت للتأكيد على وجود الشعب الواحد الذي له القدرة على التعبير عن إرادة جماعية والذي يطالب بالاستماع له. وبالطبع، كان ذلك حقيقة مرة للبعض- وخاصة للحكام المستبدين في المنطقة، الذين قمعوا وأحبطوا شعوبهم وفرضوا عليهم الخضوع وسحقوا مقاومتهم بالإكراه أو الضغط.

أما الصورة الخيالية الثانية التي تم دحضها هي "اتفاقية الأمن"، حيث تقايض المجتمعات العربية حريتها ومشاركتها السياسية وحقوق الإنسان بالأمن والنمو الاقتصادي. ويتضح هذا عبر نظام ابن علي في تونس، الذي استخدم فزاعة الفوضى وعدم الاستقرار عدة مرات لإسكات المعارضة- في عام 1990 عندما استخدمتها الحكومة كردٍّ على "التهديد الإسلامي" للدولة والمجتمع، وفي عام 2000  كتحول لمكافحة الإرهاب، مستغلاً بشكل تام الفرص التي نتجت عن "الحرب العالمية ضد الإرهاب".

ومقابلا للخضوع والتبعية، قدم النظام للشعب "معجزة اقتصادية" مبنية على سياسات اقتصادية تبدو سليمة كليا، وإصلاحاتٍ تحررية جديدة و"حكما رشيدا"، وهو الخطاب الذي أقنع معظم المؤسسات المالية العالمية والحكومات الأجنبية. وقد اتضح أن هذه "المعجزة" مجرد سرابٍ مبنيٍّ على بيانات اقتصادية وهمية، تخفي خلفها تحيزا صارخا، وفسادٍ متفشٍ وسوء إدارة اقتصادية أدت إلى إيجاد هيكلٍ للبطالة، والتباينات الإقليمية وانعدام الأمن الاقتصادي لشريحة واسعة من المجتمع. وبذلك، فشلت اتفاقية الأمن في تنفيذ وعودها، مما أيَّد فكرة وجدت لدى الناس تقوم على أن الاقتصاد يمكن فصله عن السياسة، وأن الاستقرار والأمن يمكن انتشارهما بمعزل عن المفهوم الموسع للأمن والرفاه الإنساني.

أدى قدر الذل والسياسة الخانقة بالشعوب إلى صعوبة تخيل واقع سياسيٍّ بديل..

وقد دحضت الانتفاضات العربية الصورة الخيالية الثالثة التي تدعي أن مصير الأمم العربية متعلق بعوامل خارجية، وأنه لن يكون هناك إمكانية لإقامة حكم صادر عن الشعب أو للتغيير. لقد تبنت السياسة العربية والخطاب الفكري في القرن الماضي، مع وعي تام، فكرة أن القرارات المتعلقة في هذا الجزء من العالم يتم اتخاذها في مكان آخر بعيد عن الشعوب التي تقطنه- سواءً عن طريق حكامٍ لا يمثلون أحلامهم أو أمانيَّهم، أو عن طريق قوىً عالمية تتعدى مصالحها مصالحَ 300 مليون من سكان المنطقة. وقد أدى قدر الذل والسياسة الخانقة بالشعوب إلى صعوبة تخيل واقع سياسيٍّ بديل. لقد ألقت الانتفاضات العربية بالسياسة الكلية من النافذة، واستبدلتها بـ"سياسة الشعب"- سياسات الأعمال الفردية، والتحركات الشعبية، والشبكات، والاتصالات. وقد تبين أن المستقبل ليس مجرد ماضٍ مكتوبٍ بأيدي أشخاصٍ آخرين، بل هو واقع جديد يفرضه عمل تعاوني.

لقد فتح دحض هذه الصور الخيالية التي أصابت الشعوب العربية لعقود من الدكتاتورية عليهم صراعا حادا في العالم العربي بأكمله. إن كل ثورة تقسم المجتمع إلى قسمين، أحدهما يتبنى التغيير والآخر يعتبره تهديدا. وكما قالت حنة آرندت؛ "الثورة المضادة.. تلازم دائما الثورة، كما يلتصق رد الفعلِ بالفعل". إننا نشهد تأكيدا للسلطة الاستبدادية في المنطقة، مدعومة بموارد إقليمية أو عالمية، كما رأينا عندما نظم الفلول (بقايا النظام السابق) عودة أثبتت أنهم أكثر تنظيماً وقسوة، وأنهم مترسخون بشكل أكبر من المتوقع.

لقد شهدنا استخدام الثورة المضادة لقواعد الحكم، بدءًا من التقنية القديمة "فرق تسد".
 
إن دوامة العنف التي انحدر إليها العالم العربي في الأعوام الأخيرة نتجت عن الصراع الشديد بين الثورة والثورة المضادة، حيث تم وضعت كل أدوات الحرب للاستخدام. لقد شهدنا استخدام الثورة المضادة لقواعد الحكم، بدءاً من التقنية القديمة منذ قرون، "فرق تسد"، والتي تقوم على تفتيت المجتمع إلى جماعات وجماعات فرعية، تسليح جماعات محددة، أو تفضيل جماعات أو جماعات فرعية واضطهاد جماعات الأخرى. وقد استخدم الحكام الاستبداديون الاختلافات العرقية والهويات الطائفية المختلفة كعلامات في الامتياز الاقتصادي أو التفضيل الاجتماعي والتهميش ببراعة، من اليمن ومصر، وصولاً إلى سوريا والعراق.

إن هذه الحملات الإعلامية تبني وتنشر الفكرة التي تدعي أن الثورة وباء لم يأت سوى بعدم الاستقرار والعنف والضيق..

وإلى جانب هذه التقنيات التقليدية، نرى مزيداً من التقنيات المتطورة التي تتجسد عبر الدعاية الإعلامية والسياسية المتطورة التي صُمِّمَت لمهاجمة أسس دعم التغيير الديمقراطي. إن هذه الحملات الإعلامية تبني وتنشر الفكرة التي تدعي أن الثورة وباء لم يأت سوى بعدم الاستقرار والعنف والضيق.

إن الثورة تُلام على كل مرضٍ في المجتمع؛ من البطالة والفقر، حتى الفوضى ورمي النفايات والازدحام.

لم يتم ذكر أي مما سبب هذه المشاكل، التي وجدت منذ عهد طويل قبل الثورة. ولكن بدلاً من ذلك، أُطلِق العنان لهجوم الشائعات والتضليل والشكاوى أمام الناس، على شكل حملات يومية من الحرب النفسية، التي تهدف إلى دحض أي إيمان لدى الناس العاديين في إمكانية التغيير، والأخطر من ذلك، أنها تسعى إلى تدمير إيمان الناس بأنفسهم، بلومهم على تجرؤهم على تحدي الواقع الحالي وعلى غطرستهم باعتقادهم أنهم قد يستطيعون المشاركة في حكم شؤونهم الخاصة.

تهدف حملات الثورة المضادة إلى إيصال الناس لاعتقاد أنهم لا يمكلون الخيار- بين الدكتاتورية والأمن والاستقرار من جهة، وبين الديمقراطية والفوضى والإرهاب من جهة أخرى. ويلعب صعود الجماعات الإرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية دوراً هاماً في هذه الرواية، باعتبارها ناتجاً عن الثورة المضادة، وقائدة لها.

ومع ذلك، ورغم أننا نعيش الآن زمن الثورة المضادة، فإنه من السابق لأوانه إعلان انتصارها. وبينما نجد أنفسنا اليوم نتناقش حول ما إذا كان ما بدأ في عام 2011 "ثورات" حقيقية، فإنه لا شك من أنها، في جميع الأحوال، قد خلقت ثواراً- وهم أناس عاديون، ربما لم يكن لهم مشاركة سياسية قبل الانتفاضات، ولكنهم الآن يتمتعون بوعي حول النظام القمعي للسلطة الاستبدادية، ويقاومونها بطرقهم الخاصة عبر مؤسساتهم السياسية، بشكل فردي أو جماعي، بالكلمة أو بالفعل، على أرض الواقع أو في عالم الإنترنت. لقد أوجدت الانتفاضة جيلاً من الشباب، الذين ولدوا في عصر الدكتاتورية، وشهدوا على انقسام الصدع في جدار السلطة الاستبدادية، الذي فتح لمحة على الجانب الآخر.

إن التحدي الذي نواجهه الآن هو إعادة بناء الصوت الجماعي الذي ظهر خلال الانتفاضات العربية. ورغم اختلاف الرؤية بين الفئات المختلفة، التقى الصوت الجماعي في أهداف مشتركة- المساءلة السياسية، دور للشعب في اختيار حكامه، محاربة الفساد، وضع الموارد والمؤسسات العامة في خدمة الشعب بأسره وليس في خدمة دائرة ضيقة من العائلات والقبائل.

يكمن التحدي في بناء وتعزيز حركات اجتماعية قوية تستطيع الإبقاء على المطالب الأساسية للثورات. وهناك حاجة ماسة لحركات مثل هذه من أجل الحفاظ على قوة التغيير في أيام النضال والكفاح الصعبة القادمة. فلهذه الحركات دور حيوي بعد إسقاط الأنظمة الدكتاتورية في الضغط من أجل تفكيك بنية الأنظمة الاستبدادية القمعية التي تستمر في احتكار الحكم والسيطرة على المجتمع، وتقاوم كل أوجه الإصلاح.

وبينما تنطلق في الذكرى السنوية الخامسة على اشتعال شرارة الانتفاضات العربية موجة من التحليلات والتفسيرات وتباكٍ على المنحى الذي اتبعته الأحداث، فإنه ببساطة من المبكر جداً تقييم التغييرات أو توقع النتائج. إن المؤكد هو الشك- في أن الوضع الراهن في المنطقة، والذي بني على حالة خيالية من الاستقرار دون وجود لحقوق الإنسان ونمو دون إدماج اقتصادي، قد تم تحطيمه.

لم تكن عامة الشعب هي التي اختارت فسح المجال لظهور القوى الطائفية والعنف والفوضى. لقد كان الرد على صرخاتهم "سلمية، سلمية" في الشوارع، أفضل رد عرفته أنظمتهم- الإكراه من خلال العنف والإرهاب. لقد كان هذا خيار الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، والتي قاومت الإصلاح لعقود من الزمان، وسعت لمنع التغيير، مهما كان الثمن. وبينما نتوقع أن نواجه دورات جديدة من القمع والاحتجاج وإرساء الديمقراطية في المنطقة، يجب أن يبدأ التغيير في مكان ما.. وبهذا، فإن "الحركات الجدلية وحركات مكافحة الماضي" تأخذ دورا في الواقع.

(مترجم خصيصا لـ"عربي21"، عن "أوبين ديموكراسي"، 20 كانون الأول/ ديسمبر 2015)