ملفات وتقارير

السنة مع القرآن: منشئة للأحكام أم مبينة لها فقط؟

خالد عبد الرازق: السنة وحي لها حق التشريع- أ ف ب
من أبجديات المنظومة الأصولية التي أرسى الإمام محمد بن ادريس الشافعي قواعدها وأصولها في تقرير مصادر الأحكام اعتبار السنة النبوية المصدر الثاني من مصادر التشريع، فكما أن القرآن الكريم هو المصدر الأول في إنشاء الأحكام، فإن السنة النبوية كالقرآن في إنشاء الأحكام استقلالا، إضافة لوظيفتها في تفصيل وبيان ما أجمله القرآن.

أشار الإمام الشافعي في سياق حديثه عن أقسام السنة إلى أنه لا يعلم "من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي عليه الصلاة والسلام من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين..: أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب".

أما الوجه الآخر حسب الإمام الشافعي فهو مما "أنزل الله فيه جملة كتاب (المجمل)، فبين عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما. أما الوجه الثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب..".

لكن هل القسم الثالث الذي أشار إليه مؤسس علم أصول الفقه الإسلامي (الشافعي)، زائد عن الكتاب ولا أصل له فيه أم أنه مندرج تحت أصل وارد في القرآن؟.

فصل الشافعي الجواب بقوله: "فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس نص كتاب، ومنهم من قال: لم يَسُن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها .. ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله، ومنهم من قال: أُلقي في روعه كل ما سنَّ..".

كيف ينظر علماء الشريعة إلى طبيعة هذا التشريع الذي شرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام استقلالا ولم يكن له أصل في الكتاب؟ وهل يعتبر هذا التشريع الزائد عن القرآن ملزما للمسلمين كالقرآن تماما؟.

تشريع الرسول ملزم وواجب الاتباع

أوضح الدكتور خالد عبد الرازق مدرس الحديث النبوي وعلومه بجامعة الأزهر أن القرآن الكريم كتاب معجز متعبد بتلاوته، متحدى به، يشتمل على أحكام مجملة وقواعد كليه، وإلى جانبه أوحى الله إلى نبيه وحيا آخر هو السنة الشاملة لأقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريراته.

وتابع عبد الرازق "وكل وحي منهما له حق التشريع، فكلاهما يرجع إلى مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى المشرع، سواء جاء التشريع بقوله سبحانه، أو بقول وفعل وتقرير رسوله، فقد أوجب الله على المسلم طاعة الرسول في آيات كثيرة.

ووفقا لعبد الرازق فإن الآيات الكريمة أمرت بطاعة الرسول طاعة مستقلة في كل ما أمر به أو نهى عنه، بإطلاق ودون تقييدها بقيد كقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول..)، (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) إلى غير ذلك من الآيات.

وفي جوابه عن سؤال "عربي 21" بشأن الدعوى القائلة إن الإحالة إلى مصدر آخر خارج عن القرآن يستلزم إثبات النقص فيه، لأنه كتاب مفصل وأنزله الله "تبيانا لكل شيء"، رفض عبد الرازق هذه الدعوى، رادا عليها بقوله "ليس هذا نقصا، لأن القرآن أجمل أشياء، وأوكل بيانها إلى الرسول بما أعطاه من حق البيان (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).

ونوه مدرس الحديث وعلومه بجامعة الأزهر إلى أن الصحابة فهموا أن الله أعطى رسوله حق الاستقلال بالتشريع، فأطاعوه في تحريم الذهب والحرير على الرجال وهو مما سكت عنه القرآن، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها مع أن القرآن اقتصر على تحريم الجمع بين الأختين، وفي تحريمه من الرضاع ما يحرم من النسب، والتغريب في الزنا، والتفريق بين المتلاعنين..

ومع أن هذا الأصل طبقا للدكتور عبد الرازق مقرر بوضوح وبأدلة صريحة وواضحة، سواء في تشريع الأحكام العملية أو في العقائد والأخبار المستقبلية، إلا أن سؤالا يُطرح على المفتين في برامج ومواقع الفتوى يتساءل "لماذا لم يرد ذكر بعض أشراط الساعة الكبرى كنزول المسيح، وخروج الدجال، وظهور المهدي بشكل صريح في القرآن"؟.

فيجيبهم المشايخ "والجواب عنه: أن رسول الله قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ليوشكن رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه.." أخرجه أحمد وأبو دواد وصححه الألباني. مؤكدين ثبوتها في السنة الصحيحة، وورود إشارات قرآنية إلى بعضها كنزول عيسى عليه السلام.

آثار وتداعيات هذا الرأي

غالبا ما يميل كثير من علماء الشريعة في معرض نقاشهم للأقوال المخالفة لمقررات المنظومة الأصولية والفقهية المعتبرة، إلى رفضها باعتبارها صادرة عن كتاب وباحثين ومفكرين ليسوا من أهل الاختصاص في العلوم الشرعية، ما يحط من قيمتها، ويسقط اعتبارها كأقوال مقدرة ومحترمة.

ولو أن كاتبا أو باحثا غير متخصص في علوم الشريعة، رفع صوته قائلا "القرآن هو المصدر الأوحد المنشيء لأحكام الشريعة، والسنة مبينة" لكان جوابه على جميع الألسنة "احترم التخصص ولا تقف ما ليس لك به علم"، لكن صاحب هذا القول ليس طارئا على العلوم الشرعية، بل أحد أساتذة الشريعة الكبار، من ذوي التخصص الدقيق في الفقه الإسلامي وأصوله.

طرح الدكتور العراقي طه جابر العلواني، هذا الرأي في مواضع متعددة من كتبه وبحوثه ومقالاته، خاصة في كتابه الأكثرها شهرة "لا إكراه في الدين.." فقد ذكره أثناء محاججته النافية لثبوت حد الردة، وذكره في كتابه "نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية" مشاركة مع الدكتورة منى أبو الفضل.

في مناقشته لهذا الرأي، رأى الأكاديمي السوري المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، الدكتور عداب الحمش أن الأمر "ينبني على تصور مفهوم السنة أولا، فأهل الحديث ومنهم الإمام الشافعي يرون أن كل حديث صح إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وخلا عن النكارة فهو سنة".

وأضاف الحمش "بينما يرى فقهاء النظر ومنهم أبو حنيفة ومالك أن السنة هي الحديث الذي يحمل حكما تكليفيا فروعيا فقط، وما سوى ذلك من الأحاديث فيقال له أحاديث وروايات عن الرسول في مواضيع متعددة، فموطأ مالك مثلا خلا عن أحاديث العقيدة، وعن أحاديث الصفات وأشراط الساعة ونحو ذلك.

وقال الحمش لـ"عربي21" "فإذا كان الدكتور العلواني يقصد بالسنن الأحكام الفقهية التكليفية، فقد سبقه الإمام الشاطبي إلى هذا، فقال في الموافقات: "ما من سنة ثابتة عن الرسول إلا ولها أصل في الكتاب الكريم، ومثل بتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ورده إلى قوله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله..".

وفضل الدكتور الحمش التأكد من الدكتور العلواني نفسه عن مراده في قوله "القرآن هو المنشيء الأوحد لأحكام الشريعة والسنة مبينة"، فهل يقول بقول الشاطبي بأن السنن الثابتة لها أصل في القرآن، أو يريد بذلك عدم استقلال السنة بالتشريع بما لم يرد في القرآن؟

الدكتور سعيد فودة، المنظر الأشعري المتخصص في أصول الدين وأصول الفقه، اعتبر بعد قراءته لكتاب الدكتور العلواني "نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية" والذي يقول فيه "لا منشيء للأحكام إلا القرآن، والسنة ما هي إلا تطبيق عملي للقرآن" أنه يلزم منه "أن كل حكم أتت به السنة وليس موجودا في القرآن، فلا يجوز لنا الإلزام به، ولا يجوز لنا اعتباره حكما شرعيا بجانب الأحكام المأخوذة من القرآن".

ولفت فودة في مقالته البحثية حول الكتاب إلى أن العلواني وإن "لم يصرح به تصريحا، ولكن كلامه لا يمكن أن يكون له معنى إلا بهذه النتيجة المضمرة في كلامه، ولا ندري لمَ لم يصرح بها، مع أن كلامه من أوله إلى آخره، إنما ساقه ليتوصل به إلى هذه النتيجة".
 
من جانبه فرق الدكتور عبد الله الكيلاني، أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الأردنية بين رأي الأحناف والشاطبي في اعتبارهم ما جاء في السنة يندرج تحت أصل قرآني، وبين من يرد ما جاءت به السنة النبوية، باعتباره زائدا على القرآن، لأنه يفضي في مآلاته إلى تعطيل كثير من الأحكام الشرعية.

وأوضح الكيلاني لـ"عربي 21" أن اختلاف أئمة أهل العلم في تحديد العلاقة بين القرآن والسنة، يمكن اعتباره تنوعا في المناهج البحثية، فالشاطبي حينما درس الأحكام الشرعية الواردة في السنة النبوية، وجد أنها تندرج تحت أصول قرآنية، ويمكن ردها إلى كليات القرآن وتشريعاته العامة.

ووفقا للكيلاني فإن ثمرة هذا الخلاف، تظهر فيما يقدمه مسلك الأحناف والشاطبي من تعظيم سلطة القرآن وإبقائه مهيمنا على السنة، وسائر الأدلة الأخرى، لأنه هو أصل الأدلة، ومنه تستمد حجيتها وسلطتها.