قضايا وآراء

اصطفاف غير قابل للكسر

1300x600
كان تاريخ 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 واحدا من أشد التواريخ قسوة على الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، إذ كانت تونس تستعد حينها لاستضافة قمة الأمم المتحدة الثانية لمجتمع المعلومات التي يحضرها وفود من شتى أرجاء العالم، وكان النظام التونسي قد نجح إلى حد بعيد في تسويق بلاده وكأنها ترفل في النعيم الاقتصادي.

في هذا اليوم، قرر نحو عشرة أشخاص من مختلف الاتجاهات السياسية التونسية، بما فيهم ممثل عن النهضة فضلا عن المستقلين، استغلال هذه المناسبة لتعريف العالم حقيقة ما يجري في بلادهم وقرروا الدخول في إضراب عن الطعام، وكان من بينهم الزميل والصديق العزيز الصحفي لطفي حاجي الذي أصبح مديرا لمكتب الجزيرة بتونس بعد الثورة، وكانت مطالبهم تتمثل بشكل أساسي في : حرية الإعلام والصحافة-حرية العمل الحزبي والجمعيات الأهلية- إطلاق سراح المساجين السياسيين وسن قانون العفو التشريعي العام. 

تمخض عن هذا الإضراب تأسيس  هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات كإطار عمل سياسي بين القوى الوطنية، ثم تأسس داخل الهيئة "منتدى 18 أكتوبر للحوار" للبت في المواضيع الخلافية خصوصا بين العلمانيين والإسلاميين. كانت أمور الحريات والحقوق في صدارة اهتمام الهيئة وكان المنتدى أول محاولة فكرية جادة للحوار بين الإسلاميين والعلمانيين لحسم عدد من القضايا، ثم أصدروا عدة إعلانات منها "في العلاقة بين الدولة والدين" و"حول حرية الضمير والمعتقد" و"حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين".

كل هذا تم في ظروف غاية في الصعوبة تحت قبضة نظام بوليسي قمعي. سألت القيادي بالنهضة ورئيس الوزراء التونسي السابق بعد الثورة علي العريض، موخرا، إن كانت الحركة لاتزال تعتمد مسألة حقوق الإنسان والديموقراطية ومنتجات هذا المنتدى أولوية لها في خضم هذه المشاكل، التي تموج بها المنطقة والصعوبات التي واجهتها في الحكم. قال لي: "بلى وهي الأولوية الأولى والثانية والثالثة ثم تأتي أية أمور أخرى تتعلق بالدعوة بعد ذلك. لأنها قيمة في حد ذاتها وأيضا سلبها يعني انهيار كل شيء".

أما في مصر، ورغم أن عام 2005 شهد حراكا سياسيا ملحوظا إلا أنه من ناحية كان بسبب انفتاح قرره النظام فاستغلته المعارضة بمختلف أطيافها، ومن ناحية أخرى لم يتجاوز الاصطفاف الوطني حينها الاتفاق على بعض المطالب السياسية من دون الدخول في بعض التفاصيل الخلافية بين القوى السياسية في مصر وتحديدا بين الإسلاميين وغير الإسلاميين. لقد كانت المطلبية السياسية الشعبية والحزبية قبل عام 2011  تركز على الإصلاح السياسي كمدخل لأي تحسين لأوضاع البلاد السياسية والاقتصادية، وكان النضال الحقوقي محصورا في نخب ودوائر معينة. ومع تجربة الممارسة السياسية بعد يناير 2011 تبين أن هناك خللا في فهم كل طرف من أطراف الاصطفاف السابق لمدلولات التطبيق السياسي للديموقراطية وموقع حقوق الإنسان والحريات العامة فيه، حتى وصلنا إلى خلاف وصل إلى شقاق وشرخ امتد للمجتمع بأسره، وأفرز استقطابا مقيتا لم يبق معه لا اصطفاف ولا إصلاح سياسي ولا حقوق إنسان. 

إن المعارك الكلامية الدائرة حاليا حول الرافضين للاصطفاف بين قوى المعارضة والداعين له، يستحضرون نموذجا من الماضي للاصطفاف من أعلى إلى أسفل؛ أي من المطلبية السياسية العامة كمدخل لأي إصلاح سياسي وحقوقي. وهذا النموذج قد فشل للأسف. وهنا تأتي أهمية اقتراح الزميل إسماعيل الاسكندراني لشكل جديد من الاصطفاف الوطني في مصر، يختلف عما مضى، وذلك في مقال بعنوان "استئناف الثورة، اصطفاف الخصوم في وجه العدو”. وساق عدة أسباب وجيهة منها ما يتعلق بعمق المرارات المتبادلة بين الأطياف السياسية في مصر، الناتجة عن تجربة الأعوام الأربعة الماضية، ومنها ما هو مرتبط بتغير تركيبة التشكيلات السياسية التي بشكل يكاد يكون جذريا بسبب الظروف الحالية. واقترح أن يُبنى اصطفاف جديد قائم على قاعدة حقوق الإنسان، استلهاما من تجربة الحملة العابرة للأيدلوجيات والأفكار التي دعمت حق محمد سلطان في الحرية التي نالها أخيرا، ولم تكن جنسيته الأمريكية السبب الأوحد في حصوله عليها. ذلك أن الجنسية كانت موجودة طوال فترة حبسه الطويلة. 

قد استبدل بكلمة الاصطفاف كلمة التنسيق والتضامن لنفس الأسباب الوجيهة التي ساقها في مقاله، وخروجا من الجدل العقيم حول من يصطف مع من وكيف؟ والمقترح الجدير بالتبني الآن هو نوع جديد من التنسيق والتضامن من أسفل إلى أعلى وليس العكس. وذلك على أرضية تتراجع فيها المطلبية السياسية العامة للقوى السياسية والفكرية المصرية خطوة أو اثنتين للوراء، لصالح مطلبية حقوقية غير مرتبطة بنظام سياسي بعينه. بمعنى أن يحتفظ كل طرف سياسي بخلافاته ومراراته تجاه خصومه شريطة أن يقف مع كل مظلوم في محنته بغض النظر عن موقفه منه. هذا التضامن يقتضي توسيع نطاق الحملات الحقوقية وتحريرها من الخطاب الاستقطابي. فمن أراد المحاسبة السياسية والجنائية ومحاكمة الماضي والحاضر فله المطالبة بكل هذا، والحشد له خارج السياق الحقوقي العام. فمن الغريب أن تستعر المواجهة بين أنصار الرئيس محمد مرسي ومعارضيه ولم يلتفت أحد للظروف غير الإنسانية التي يعيشها الرجل في سجنه؛ محروما من زيارة أسرته بالمخالفة لكل المواثيق الدولية والقوانين المحلية التي لا ينبغي أن تكون محل خلاف.

هناك أدوار متوقعة في هذا التصور للإسلاميين واليبراليين واليساريين، رغم أن هذه التقسيمة غير كافية لتغطية الشرائح المصرية الواسعة. لكن على الأقل تصلح كبداية انطلاق لحراك شعبي مناهض للتعذيب أيا كان شكله، ومناصر لحقوق العمال، ومدافع عن أي شخص يتعرض للاضطهاد، وتأكيد فكرة الحق في الدواء والغذاء وعدم الاعتداء البدني. هذا الحراك سيربط الشارع بالمطلبية الجمعية للقوى السياسية ويربط هذا الحراك بالحركة الحقوقية في العالم، ويكسر قشرة الاستقطاب السياسي ليكشف عن جوهر المسألة، وهي التحرر الوطني القائم على أن حق كل إنسان وحريته هي جوهر المسألة، فرفع المظالم مقدم على التفكير في الغنائم. سيؤدي هذا النوع من التنسيق والتضامن إلى تشكيل جبهة جديدة نأمل ألا تكون قابلة للكسر مع ريح التقلبات السياسية العاتية.