كتاب عربي 21

تونس... ترنّح الانقلاب أم تجدّد آلياته

1300x600
من وجهة نظر ثورية صِرفة، فإن المشهد التونسي والمشهد المصري لا يختلفان إطلاقا في العمق رغم تباينهما على مستوى دلالة السطح وتحديدا على مستوى آليات تنفيذ هذه الدلالة وأدواتها. 

في مصر انقلابٌ على ثورة يناير -لا على حركة الإخوان- نفّذه انقلابيون داخل المؤسسة العسكرية المصرية بأوامر أمريكية صهيونية لتبقى مصر حارسة الحدود الجنوبية للكيان الصهيوني فلا تحقق نهضتها ولا تهدّد أمن الكيان الاستيطاني الغاصب ولا تكون قاطرة نهضة سياسية عربية معرفية وعلمية. 

في تونس حدث انقلاب ناعم عبر صناديق الاقتراع وعبر انتخابات مزيفة مكّن من إعادة نظام "بن علي" ورجاله -دون "بن علي"- وهي الآلية الانقلابية التي تختلف عن الانقلاب المصري في السطح، لكنّ الوضع في العمق يبقى نفسه. 

بالأمس القريب حدثت "واقعة الهراوات الثانية" -بعد واقعة الهراوات الأولى أمام مبنى اتحاد الشغل في 2012- بين شقّيْ حزب "نداء تونس" الوريث الشرعي "للتجمع الدستوري الديمقراطي" حزب الرئيس الهارب "بن علي" وكانت عنوان تصفية حسابات بين تيارين يخترقان السلطة السياسية في تونس اليوم. 

هذه السلطة المكونة أساسا من النظام القديم –أو "الفلول" حسب التعبير المصري- تشهد تصارعا اليوم بين جناحين يقود الأول ابن رئيس الجمهورية من ناحية أولى وأمين عام الحزب الحاكم من ناحية ثانية. 

الظاهرة ليست وليدة اللحظة لكنها تعود إلى جذور التأسيس الأول عندما أدركت الدولة العميقة في تونس هشاشة المشهد الثوري بعد 17 كانون الأول/ ديسمبر وانحسار الموجة الثورية الأولى وخاصة عند قبول الجناح الرخو لدى "الإسلاميين" بالتنسيق مع النظام القديم من أجل البقاء في المشهد والتعلل بالمصلحة الوطنية العليا. 

الثابت هو أنّ النخب التونسية كلها دون استثناء وحيد لم تكن تنتظر انفجار ديسمبر في "سيدي بوزيد"، ولم تكن تتوقع حدوثه لأنه تجاوزها وتجاوز أطروحاتها الباهتة وكشف زيف نضالها وتحالفها الخفي مع الاستبداد ومنظوماته المتشابكة وكشف خاصة ولَعَها المرضي بالسلطة وعشقها للمناصب والكراسي. 

من هنا ومن خلال هذه الثغرات التي منعت وجود نخب وطنية مستقلة في رؤيتها وفي خطابها وفي مشروعها الوطني تسللت الدولة العميقة وأدركت أن الجماهير الهادرة لم تؤسس لنخب وطنية ولا لمشروع مجتمعي جديد يقطع مع الإيديولوجيات القديمة التي تجاوزتها حركة الجماهير.

عبر هذا المشهد الفقير الذي أثث مرحلة ما بعد الثورة مباشرة عادت الدولة العميقة لأنها أدركت أنّ شرط فنائها لم يُنجز بعد وأن شرط وجودها لا يزال قائما بل إن الفواعل السياسية التي عادت لتؤثث المشهد السياسي بما فيهم الإسلاميون إنما هم في الحقيقة جزء من مرحلة "بن علي". 

نقول ذلك لأن المعارضة التونسية كلّها كانت محكومة بردود أفعال نظام بن علي أي أنها لا تنجز حركتها بمعزل عن شروط الحركة التي يحددها النظام القمعي وهي من هنا معارضة تربّت على منظومة ردود الأفعال لا على منظومة الفعل الحر. 

هذا الأمر ينطبق على كل الجوقة السياسية التي كانت تدّعي المعارضة سواء منها المعارضة الورقية التي صنعها النظام أو معارضة المنافي التي تنجح في تحقيق أي نصر يذكر ضد نظام الاستبداد بل عادت من المنافي عندما دفعت الجماهير الفقيرة ضريبة الدم وقدمت قوافل الشهداء.  

دولة الأعماق أو النظام الخفيّ لسلطة الظلّ أدرك جيّدا هذه الحقيقة وهي أنّ البدائل السياسية الثابتة لنظام "بن علي" لم تكن موجودة وهي غير قادرة على إدارة الدولة بعد فرار الرئيس بسبب تمزقها وتنافرها وارتهانها للخارج. 

اليوم وبعد تحالف أعداء الأمس -أي الإسلاميين ورجال "بن علي"- يراوح المشهد التونسي مكانه ويتميّز آنيا بتصدع الرافعة الانقلابية وهو مشهد يسمح بتقديم المعطيات التحليلية التالية: 

الانقلاب التونسي الناعم أو حتى المصري الدامي لن يدوما في الدول التي جدّا فيها لأنهما يحملان بذور فنائهما في داخلهما لكن تبقى المدة الزمنية الفاصلة بين إنجاز الانقلاب وسقوطه مرهونة بعوامل كثيرة أهمها بروز البديل النوعي والوظيفي للفاعل الانقلابي وهو ما لم يتوفر بعد في الحالة المصرية والتونسية. لأن الإسلاميين هناك لم يجددوا أجيالهم ولا رؤيتهم ولا ردود أفعالهم تجاه السياق التاريخي المتجدد دائما وهو ما يفسر الانكسارات المتتالية للتنظيم بما في ذلك تلك التي سمح بحدوثها وهو في سدّة الحكم. 

أما في تونس فهم اليوم طرف في السلطة، ما أفقدهم جزءا كبيرا من التعاطف التاريخي التونسي مع جرائم الاستبداد ضد قواعدهم خاصة في التسعينيات. وهم عاجزون عن لعب دور المعارضة لأنهم اختاروا السلطة والتطبيع مع الجلاد. 

واجهة السلطة اليوم أو الرافعة الانقلابية ليست بصدد التصدع بقدر ما هي بصدد تجديد آلياتها وفق السياق المستجدّ وبعد استتباب المسار الانقلابي لصالح النظام القديم بمباركة حركة النهضة المكرهة "تكتيكيا" على مسايرة المدّ الانقلابي وهي تحسب أنّ وجودها هي فقط في السلطة ضامن وحيد لعدم تجدد النظام القديم من الداخل. لكن ما لا يدركه إسلاميو تونس هو أن التخلص منهم اليوم -لو أراد وكلاء الدولة العميقة في الخارج ذلك- سيكون سهلا جدا لفقدانهم السند الشعبي القديم الذي كان لهم في بداية التسعينيات وبعدها وبسبب تنكرهم لشعارات ثورة ديسمبر ومبادئها التي كان على رأسها محاسبة العصابة على جرائم أكثر من نصف قرن. 

الصراع اليوم هو صراع حول تركة السبسي وهو صراع مداره توريث السلطة لابنه الذي لا يملك أي صفة سياسية سوى كونه ابن رئيس الجمهورية في استنساخ بائس لحقبة بن علي في آخر أيامه أو لحقبة مبارك والقذافي قبل انفجار الربيع المبارك. 

الجيد في المشهد الجديد هو ارتفاع منسوب الفرز داخل النخب السياسية وإدراك الجماهير الفقيرة لخيانة نخبها السياسية، خاصة أن الثورة سُرقت، لكن ما لا يدركه الكثير هو أنه كلما تقدمت دولة العمق نحو اكتساح المشهد من جديد كلما عجّلت بتجديد آليات الموجة الثورية الثانية التي لن تسمح بارتكاب الأخطاء السابقة ذاتها، سواء في مصر أو في تونس.