كتاب عربي 21

تونس وصندوق النقد الدولي… السياسة الفعلية

1300x600
حصلت في بداية شهر سبتمبر أهم زيارة لشخصية دولية إلى تونس منذ صعود حزب السبسي إلى السلطة، بيد أنها لم تحظ بالتغطية اللازمة. الزيارة لم تكن لأحد الملوك أو أحد الأمراء المعنيين بإرسال السيارات المصفحة (والغاضبين الآن على رئيس البلاد) أو لرئيس دولة عظمى. الزيارة كانت للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي السيدة كرستين لاغارد. في الحقيقة هذه الزيارة أهم من زيارة أي شخص آخر؛ إذ "السياسة ما هي إلا التعبير المركز عن الاقتصاد". موضوع الزيارة هو توفير مرحلة إمهال أخيرة حتى موفى السنة لتنفيذ "الإصلاحات الهيكلية" أو "الموجعة" من الحكومة التونسية. فهل ستكون هذه "الإصلاحات" الشرط الضروري لتحسن الوضع، أم ستكون المدخل لمزيد التأزم السياسي والاجتماعي؟
 
بدأت قصة العلاقة بين تونس وصندوق النقد الدولي بقانون عدد 78-57 المؤرخ في 31 ديسمبر 1957 (أي منذ تأسيس الدولة الوطنية) بالانخراط في الصندوق، من خلال مساهمة مالية بحصة أولية مقدارها 12 مليون دولار أمريكي، أي ما يقارب 22.7 مليون دينار تونسي، ومنذ ذلك التاريخ، وافقت الدولة التونسية كل خمس سنوات في الترفيع في حصتها التي تبلغ حاليا 405 ملايين دولار أمريكي.
منذ ذلك التاريخ تحصلت تونس على أربعة انواع من "التسهيلات" من الصندوق.

أولا، قروض قصيرة المدى. فخلال الفترة 1966-1970 تحصلت تونس على 6 قروض بمبلغ جملي قدره 74.4 مليون دولار. وسنة 1986: قرض بمبلغ 128.6 مليون دولار.

ثانيا، التمويل التعويضي  سنة 1977: قرض بمبلغ قدره  33.9 مليون دولار. و سنة 1986: قرض بمبلغ قدره 162 مليون دولار.

ثالثا، التسهيل الممتد وهو ربما من أهمها.  تمت الاستفادة من هذا التسهيل بتاريخ 25 جويلية 1988 بمبلغ قدره 293 مليون دولار، وذلك في إطار دعم برنامج "التصحيح الهيكلي" للاقتصاد التونسي.

وأخيرا، رابعا، اتفاق الاستعداد الائتماني (جوان 2013) ما يعادل 1,7 مليار دولار (3.21 مليار دينار تونسي) بسعر فائدة بحوالي 1.07 بالمائة، يتم تسديد كلّ قسط على مدى 5 سنوات مع فترة إمهال بـ3 سنوات. ويدعم هذا الاتفاق برنامج "إصلاحات هيكلية" تمتد على مدى سنتين، وتشمل عديد المجالات وخاصة السياسات الاقتصادية والمالية والقطاع المالي والبنكي.
 
وفي أكثر من مرة تأخرت موافقة مجلس إدارة الصندوق على سحب الحكومة التونسية لأجزاء هذا القرض (مثلما حصل خلال الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2014)، وذلك بسبب عدم استكمال بعض "الإصلاحات" خاصة منها "إعادة هيكلة" البنوك العمومية. ومثلما تم الاتفاق عليه ىبين شهري مارس وأبريل 2015 تم تأجيل كل من المراجعة السادسة والسابعة إلى شهري جوان ونوفمبر 2015 عوضا عن مارس ومايو 2015 وبالتالي ينتظر صرف القسطين المتبقيين من اتفاق الاستعداد الائتماني، بمبلغ جملي بحوالي 505 مليون دولار، خلال شهر سبتمبر وديسمبر 2015.
 
في المقابل التزمت الحكومة التونسية بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية المتفق عليها، وخاصة تلك التي يوليها الصندوق أولوية قصوى كإعادة رسملة وهيكلة البنوك العمومية، وإحداث شركة التصرف في الأصول المتعلقة بالقروض المعدومة لدى البنوك، التي تهم بالخصوص قطاع السياحة، وعدد من "الإصلاحات" الأخرى مثل الإصلاح الجبائي واعتماد مجلة استثمار جديدة، واعتماد قاعدة احتساب جديدة للتعديل الآلي لأسعار المحروقات، والرفع الجزئي عن الدعم في الطاقة من خلال "اعتماد برنامج موجه للأسر لتعويض دعم مواد الطاقة".   
 
وهنا يمسك الصندوق بسيف ديموقليس على رأس الحكومة التونسية؛ فقد يترتب عن عدم استكمال الإصلاحات المتفق عليها مع الصندوق، تعطل استكمال المراجعات القادمة لاتفاق الاستعداد الائتماني، وإمكانية تعطل التمويلات المتفق عليها مع بقية المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي (500 مليون دولار) والاتحاد الأوروبي (300 مليون أورو)، التي ستنعكس بدورها على قدرة تونس على تعبئة الموارد الخارجية الضرورية الأخرى على السوق المالية العالمية لتمويل ميزانية الدولة لسنة 2015، باعتبار أن معظم المؤسسات الدولية ووكالات الترقيم المالي تولي أهمية قصوى لتقدم تنفيذ اتفاق الاستعداد الائتماني مع الصندوق، وتعتبره من المعايير المهمة لتقييم أداء السياسات الاقتصادية.
 
ومثلما قلت سابقا في مقال في "عربي21" (حول "الدين الخارجي لتونس.. المشكل وليس الحل!")، ربما يقول البعض: "وماذا فعلتم أنتم عندما كنتم في الحكم؟ هل أوقفتم الديون؟". في نيسان/ أبريل 2013 عندما تم طرح مشروع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على الحكومة، صوت وزراؤنا ضد المشروع. وقبيل ذهاب وفد تونسي شهر أيار/ مايو للتوقيع على الاتفاق، كتبنا مراسلة رسمية للحلفاء نحذر من القيام بذلك بالشروط القائمة. وطلبنا لقاء عاجلا بقيادة الحزب الأغلبي (النهضة حينها) للتحذير من ذلك. وخلال اللقاء بدا لنا أن قيادة النهضة غير منتبهة لجدية الموضوع. وفي نهاية الأمر قام رئيس الحكومة علي العريض بإرسال رسالة رسمية باسم الحكومة لصندوق النقد الدولي، يشترط فيها تنفيذ الحكومة لـ"الإصلاحات" بألا تمس بالمستوى المعيشي والاستقرار الاجتماعي.
 
وساهمنا من جهة أخرى في مسار تقييم "منظومة الدعم" خاصة من خلال ندوة نظمناها في إطار الرئاسة من خلال المعهد التونسي للدراسات الاسترتيجية، بالتعاون مع وزارات عدة والمجتمع المدني في آخر نيسان/ أبريل 2013، حتى نقدم مقاربة تونسية بحتة، وليست مسقطة من الخارج لعملية إصلاحها. لم يكن ذلك كافيا ويجب أن نتحمل المسؤولية لأننا لم نوقف الدين الخارجي، ولكن كان ذلك الحد الأدنى بالنسبة لنا وفقا لظروف تلك المرحلة، وأمام أولوية إنجاح الانتقال الديمقراطي في مستواه السياسي، خاصة أننا كنا في مواجهة إيمان عميق لدى جزء مهم من نخبة السياسة والإدارة والأعمال والاقتصاد، بأن التحصل على قروض أجنبية أشبه بالامتياز الذي يجب أن نشكر عليه الأطراف المانحة.
 
مما لا شك فيه هناك علاقة وطيدة بين تقديم الديون والسياسة في التاريخ التونسي المعاصر. وهنا بمقتطف من مقال كتبته منذ سنوات (باسم "الطاهر الأسود") يعتمد على معطيات قدمها مايكل لاسكيار في كتاب نشر ه سنة 2004 و المعنون "إسرائيل و بلاد المغرب: من إقامة الدولة إلى أوسلو" (Israel and the Maghreb: From Statehood to Oslo): "ففي مايو 1965، أي بعد أقل من شهرين من خطاب أريحا الشهير، وجولة بورقيبة المثيرة في المشرق العربي في مارس 1965، سافر بورقيبة الابن الذي كان وزير الخارجية التونسي، وحامل أسرار أبيه آنذاك إلى واشنطن، في زيارة هدفها طلب الدعم المالي الأمريكي. واستجابة لطلبه فقد طلبت وزارة الخارجية الأمريكية من إسرائيل التوسط للجانب التونسي مع حكومتي فرنسا وألمانيا الغربية للحصول على دعم مالي يقدر بـ 20 مليون دولار، كما طلب الأمريكيون في الإطار نفسه من إسرائيل شراء الخمور التونسية. وتلاحظ الوثائق الإسرائيلية في هذا الإطار أن موافقتها على الاستجابة للمطالب الأمريكية، كان في إطار أملها أن تساهم الحكومة التونسية في تشجيع حكومات عربية "معتدلة" أخرى، من أجل "إفشال أو تخريب الجهود المصرية والسورية للوحدة العربية".