قضايا وآراء

النساء والنسويات وجمال المرأة وهويتها!

1300x600
بما أنني كنت قد ابتليت بمتابعة برنامج دراسي للماجستير في مجال دراسات المرأة في إحدى الجامعات الكندية قبل سنوات، فقد كنت محاطا بكم هائل من النساء، أو النسويات بالأحرى.

والواقع أنني كنت الرجل الوحيد في البرنامج، بالرغم من وجود شاب آخر معنا، لم أستطع يوما الجزم بحقيقة توجهاته الجنسية، مع أن سمات شخصيته وطريقة حديثه لا تبعث على الكثير من الاطمئنان! وقبل أن يتسرع أحد الإخوة القراء ويبدأ بالنق عليّ على افتراض أنني كنت محظوظا بذلك الجو "الناعم"، عليه أن يتابع القراءة كي يعرف لماذا لم أكن محظوظا البتة، ولماذا لم تكن تلك التجربة تجربة وردية سارة! المهم، مؤخرا تواصلت معي إحدى الصديقات الوفيات من أيام البرنامج، التي تعمل الآن على إعداد أطروحتها للدكتوراة، مقترحة أن نلتقي، لعلي أساعدها في ضبط بعض المسائل المنهجية في بحثها. الحق أنها صديقة طيبة، فذات يوم بينما كانت تعد العدة لزواجها وسفرها لشهر العسل، أصبت وأنا حديث عهد بالبلد وأهلها بنوبة نقرس شريرة شلتني تماما عن الحركة، فلم أجد غيرها كي أتصل به لمساعدتي، وفعلا لم تخذلني، مضحية بالكثير من وقتها بالرغم من انشغالاتها الكثيرة، حيث زارتني عدة مرات وهي تحمل الدواء وأكواما من المواد الغذائية، رفضت حتى تقاضي ثمنها!

عندما التقينا مؤخرا في مطعم أفغاني يطيب لي طعم أطباقه الشرقية، رغم أنه لا شيء سيعوضني عن اشتهائي لمذاق طبيخ المرحومة أمي، كأني لاحظت بضع شعرات بيضاء تغزو مفرقها. فقلت لها بين الاستياء والمزاح، لأنها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، إن عليها أن تأخذ حذرها وأن تحافظ على جمالها وشبابها، بدلا من أن يطير منها زوجها الوسيم. كنت أتوقع ردة فعلها، والواقع أنها لم تخيبني. فقد قالت لي بغيظ وحماس: لا يمكنك أن تقول لي هذا يا صديقي، فأنت متخصص في دراسات المرأة!

كلامها كان ينطلق مما يُفترَض أن يؤمن به كل مختص بدراسات المرأة، مثلي،ومناصر لقضاياها،بالمفهوم الغربي الذي تتبناه صديقتي، أو "الفيمينست"، من أنه من واجب المرأة ألا تهتم بجمالها وأنوثتها وأناقتها، فهذا الاهتمام يعكس خضوعها لقيم المجتمع الذكوري الذي يحاول أن يقولبها حسب تفضيلات الرجل! ولكن لحسن الحظ، لا يبدو أن صديقتي، بالرغم من الجواب النسوي التأنيبي الذي انفجرت به، تؤمن بصورة جادة أو كاملة بتلك الرؤية الخرقاء، لأنها ما تزال تتمتع حتى الآن على الأقل، بشيء من الحرص على الأناقة والظهور بمظهر أنثوي بسيط ومقبول.

المشكلة أن كلامها، وكلام رفيقاتها النسويات صحيح إلى حد ما، فالمجتمع الذكوري ينزع بالفعل إلى الهيمنة على النساء، وإلى ترسيم معالم الصور التي عليهن اتخاذها إرضاء لنزوات الرجال وأذواقهم. لكن الغريب أن النساء، النسويات منهن على الأقل، قد اتخذن ردة فعل بائسة ومنحرفة ومتطرفة تجاه ذلك النزوع الذكوري المتسلط. فبدلا من أن يفكرن، كما يحث الدين الإسلامي مثلا، بأن يتحجبن وأن يخفين جمالهن تحت أستار الثياب، حتى يجبرن الرجال على أن يتعاملوا معهن بمعزل عن التفرس في أجسادهن ومفاتنهن، قررن أن يهملن، معظم الوقت، وبصورة شبه كلية، باسم بساطة مصطنعة، كل ما يمكن أن يظهرهن كإناث جميلات ناعمات. لتبدو واحدتهن في كثير من الحالات، داخل بيتها وخارجه، وكأنها شبح رث متحرك، تستدعي الرثاء والتحسر على أنوثتها المضيعة! ليحرمن أنفسهن من الوقار الذي يفرضه الحجاب الشرعي الرصين، ويتحولن في المقابل إلى مخلوقات باهتة شاحبة ضائعة الهوية بين الذكورة والأنوثة، لا يندر أن تبعث أشكالها على الانقباض والنفور! 

حاولت أن أُفهم صديقتي، بين الجد والهزل، ودون جدوى، تهافت نظريتها. موضحا أن سلوك المرأة، حتى النسوية، يتحدد وهي تضع الرجل في اعتباراتها، مهما تظاهرت بالاستقلالية والتمركز حول الذات وعدم الاكتراث به. ويرتبط بذلك أن ادعاءها بأنها لا تتجمل لأن رأي الرجل لا يعنيها، وهذا وهم كبير بالطبع، قد لا يقودها إلا إلى أن تخسره. لأن أكثر ما يهم الرجل بطبيعته في المرأة، على الأقل عند اللقاء الأول بها، هو المنظر الخارجي لها وما تحمله من سمات أنثوية، مهما ادعى خلاف ذلك. وأن الرجل في معظم الحالات ـ وأنا أقصد بشيء من المكر زوجها طبعا ـ إذا ما خُيّر بين صحبة مدام كوري الحائزة على جائزة نوبل في الكيمياء، وصحبة الفاتنة جينيفر لوبيز الحائزة على جوائز كثيرة في الغناء والرقص والتمثيل ــ طبعا مع إبعاد سيف الرقابة والموانع المختلفة عن رقبته وترك مطلق الحرية له كي يختار ــ فإنه لن يتردد على الأغلب في اختيار الأخيرة. وقد يدفع العالمة الكبيرة بغلظة، إذا ما كانت هناك احتمالية لفرضها عليه وحرمانه من الغانية الساحرة، إلى مختبرها ويصفق الباب خلفها متمنيا أن ينفجر فيها، وهو غير آسف عليها!

لقد قدّرت السماء للمرأة ــ وهذا ما لم أقله لصديقتي التي سارعت إلى تغيير الموضوع خوفا من أن تلاحقها صورة جينيفر لوبيز وهي تسلبها زوجها منها ــ أن تكون بطبيعتها رمزا للأنوثة والجمال والرقة والنعومة. وكم تجرم في حق نفسها أولا وأخيرا إذا ما حاولت العبث بتلك الطبيعة وتهشيم ذلك الرمز. إلا أن هذا ما تفعله الكثيرات مع الأسف، حتى في المجتمعات العربية، بوعي أو دون وعي، ربما تأثرا بما يشاهدنه في الأفلام الغربية المشوهة للفطرة السليمة. فحتى وإن أبدين الكثير من العناية بجمالهن وأناقتهن واتبعن أحدث صرعات الموضة، مختلفات في ذلك مع النسويات الصارمات، إلا أنهن يفقدن يوما بعد يوم مظاهر أنوثتهن ورقتهن، ليصبحن أشبه في سلوكهن الخشن الفظ بالرجال، وما هن بالرجال! 

ففي كثير من العواصم العربية ترى الشوارع مزدحمة بالمركبات التي تقودها النساء، وواحدتهن تقبض على المقود بوجه متوتر وملامح متشنجة وهي تكز على أسنانها، تسب وتلعن، ربما بشتائم لا تسمح الرقابة بذكرها، من يتجرأ على اعتراض طريقها أو إجبارها على إبطاء سرعتها. ومع أن مسجلة السيارة قد تكون مشغولة بعزف أغنية حالمة هادئة لفيروز أو إليسا أو فضل شاكر، إلا أن وجه صاحبتها يقطر بأمارات الغضب والمشاكسة والتحدي، وكأن ستمائة عفريت يتلبسونها! إنك تراها تزاحم في المطاعم والأسواق والشركات ومواقف الحافلات ومقاهي "الشيشة"، وضحكاتها المجلجلة تتقدمها، وكأنها شاب شقي مفتول العضلات لا يتردد في نخزك أو دهس قدمك أو سبابك أو الإمساك بتلابيبك في أية لحظة إذا لم يرق لها شكلك. فتتساءل متأسفا أين ذهبت تلك الفتاة التي كان حياؤها وخفرها ونعومتها تجبر الواحد على أن يخلي لها مقعده في الحافلة أو دوره في طابور الشراء، كي لا تتأذى أنوثتها وسط غبار الزحام!

قبل انتهاء لقائنا الذي كان دسما بالطعام الأفغاني اللذيذ، وبالحديث عن قضايا المنهج وعن اللاجئين والهوية والمرأة، اتفقت مع صديقتي النسوية العتيدة على أن نكتب ورقة بحثية مشتركة حول الهوية الجندرية للمرأة المسلمة المهاجرة إلى كندا. فلعل نتائج الدراسة تقنعها بأن الحجاب الذي تصر المرأة المسلمة على ارتدائه وتعتز به، لا ينتقص من نظرتها إلى نفسها كأنثى، تحب وتحرص على أن تكون جميلة وجذابة، حتى وإن اقتصر ذلك على نطاق بيتها، ولا يجعلها بحال من الأحوال أضعف أو أقل قدرة على مجابهة العالم الذكوري، المتربص بها والمتلهف على تسليعها وتشييئها وجعلها دمية يتلاعب بها، باسم الحرية والمساواة!