قضايا وآراء

قصتي مع التلفزيون الأردني!

1300x600
تعود قصتي الكئيبة المخيبة مع التفزيون الأردني إلى قرابة العقد. كنت أيامها أعمل باحثا "صعلوكا" بلا أجر ثابت في أحد المراكز البحثية في الجامعة الأردنية، حيث كنت قد انتهيت للتو من إعداد كتاب حول دمج البلديات في الأردن، تكرم الدكتور مدير المركز، الذي لم يكتب كلمة واحدة فيه، ربما باستثناء شطر من العنوان، بأن وضع اسمه عليه قبل اسمي، بل ووضع اسم صديقنا الدكتور إبراهيم سيف، الذي أصبح وزيرا للتخطيط لاحقا، والذي تولى كتابة الجزء الاقتصادي في الكتاب، قبل اسمي أيضا، ولم يُلحق باسمي البائس إلا اسم صديقنا الدبلوماسي اليوم الدكتور نواف وصفي التل، الذي كان قد انضم لمشروع إعداد الكتاب في نهايته. كما لم ينس عند صدور الكتاب أن يستدعيني للمنّ عليّ بالقول ضاحكا: انظر إلى التواضع، فنحن لم نضع الألقاب الأكاديمية قبل الأسماء، ولو فعلنا، لظهرت وكأنك "صرماية" بيننا! 

لم أكن وقتها قد حصلت على درجة الدكتوراه، والفضل طبعا يعود أيضا لصاحبنا المدير، الذي تركني أحلم بالابتعاث إلى بريطانيا أسوة ببقية الباحثين في المركز، مضيعا سنوات عديدة من عمري على أمل أن يستيقظ ضميره ويقرر ابتعاثي، لكن ضميره كان فيما يبدو غافيا في سبات عميق لا نهاية له. ويبدو أن مؤهلاتي وتوجهاتي البحثية والفكرية والدينية، التي لم يكن لها علاقة بحقول الطبخ والنفخ والتنكيت والنميمة والشرب في سهراته العامرة، التي لم يكن يدعوني إليها على كل حال، لم تكن صالحة لإيقاظ ضميره وإقناعه بابتعاثي لمتابعة الدكتوراه. إضافة بالطبع إلى افتقاري لواسطة معتبرة تجبره أو تحفزه على النظر في أمري. وعندما تململ ضميره يوما، وفكر في ابتعاثي، بعد أن أبليت بلاء حسنا في إحدى ورشات العمل، اقترح أن يبتعثني إلى لبنان، فرفضت طبعا، لما في ذلك الاقتراح من إهانة وتمييز، بعد أن قام بابتعاث أترابي، الذين لا يستطيع أن ينكر أنه قام بتعيين أكثرهم بالاعتماد على العلاقات الشخصية،إلى بريطانيا!

المهم، شاءت الأقدار أيامها أن يتم تعيين المدير نفسه رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، فطلبت منه أن يجد لي فرصة للعمل هناك، ما دام يزعم أنه لا يستطيع إيجاد وظيفة دائمة لي في الجامعة. فساق الشرف عليّ كما يقال في العامية كعادته، على اعتبار أنه ليس من أهل الواسطات والمحسوبيات. وقال لي إن القوم في التلفزيون يبحثون بالفعل عن كوادر جديدة، فليس لي إلا أن أذهب وأقابل المعنيين هناك وأتقدم للاختبارات المطلوبة، فإن أفلحت وقبلوا بي، فبها ونعم، وإلا فإنه لا يستطيع فعل شيء لمساعدتي. قررت الذهاب والتجربة، فلن أخسر شيئا في نهاية المطاف. لم يكن هناك اختبارات بالمعنى الحقيقي، ولكن طلب مني مدير الأخبار وأحد رؤساء تحريرها بعد مقابلتي إعداد ملخصات لبعض الأنباء، فوجدت الأمر في منتهى البساطة، لتحظى الملخصات بإعجابهم، وتتم الموافقة على تعييني،دون أن أستبعد أن يكون لمجرد ذكري لحقيقة عملي في المركز الذي يديره الرئيس الجديد لمجلس إدارة مؤسستهم، دور مهم في ذلك التعيين!

أول ما صدمني هناك هو انخفاض رواتب الموظفين، فقد علمت أن الأغلبية، من محررين ومذيعين، يتقاضون رواتب هزيلة قد لا تزيد عن الثلاثمائة دينار بكثير، وربما أقل من ذلك بالنظر إلى الراتب الذي خصص لي. كان هذا العائد المزري كافيا لأن أفهم لماذا "يطفش" الإعلاميون من التلفزيون الأردني إلى القنوات الخليجية التمويل غير آسفين أو نادمين! لكن المشكلة لم تكن في الرواتب الشحيحة فقط، بل كانت أيضا، وإن كان لهذا علاقة بتدني الدخول حتما، في هيمنة جو كئيب محبط يفتقر إلى الحماسة والإبداع والمبادرة والدافعية للإنجاز، وكأن القوم هناك يعملون بالسخرة أو في أشغال روتينية شاقة تعافها النفس، مع التنويه بأن معظمهم قد تم توظيفه لأسباب لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالكفاءة والتميز!

قمت بتحرير عدد قليل من التقارير الإخبارية، لأصبح خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الشهر من نجوم دائرة الأخبار، فقد كانت تقاريري تتسم بالتماسك وقوة اللغة وشيء من ادبية التعبير، بل وكنت أسهم أحيانا في تدقيق ما يكتبه غيري هناك. وبالمناسبة، كنت قد عينت في الفترة نفسها إلى جانب عدد من المحررين الشباب، الذين أوجدوا في دائرة الأخبار نوعا من الروح الجديدة المتحفزة للتجديد والعطاء.

ولأن هؤلاء كانوا جميعهم من خلفيات أكاديمية، زعم بعض المتربصين المغرضين أن تعيينهم جاء بالواسطة، وهذا للحق افتراء ظالم فيما أزعم، فقد كانوا جميعهم من الباحثين المجدين النابهين. حتى أن مدير الأخبار وقتها، وليد العطيات ذكره الله بالخير، كان يردد: إذا كانت الواسطة هي المسؤولة عن تعيين كوادر بهذا المستوى الرفيع من الإنجاز، فأهلا بالواسطة. علمت لاحقا بعد مغادرتي للتلفزيون أن أولئك الشباب قد تركوه أيضا بعد أشهر للانضمام إلى محطة فضائية أردنية خاصة كانت قيد الإنشاء، تمكنت الحكومة الرشيدةمن إجهاض خروجها إلى النور، ليتشرد أولئك البؤساء دون عمل لسنوات!
لم تزد فترة عملي هناك على ثلاثة أشهر أو أقل، قدمت خلالها استقالتي العملية غير المكتوبة مرتين.

فذات يوم، أعددت تقريرا إخباريا حول موضوع سياسي لا أذكره بالضبط، ربما كان عن المخططات الغربية لاجتياح سوريا وتدميرها أسوة بالعراق. وكان مدير دائرة الأخبار يومها غائبا، وينوب عنه شخص لزج اللسان، قيل لي إنه كان في الأصل مراقبا للدوام أو شيئا من هذا القبيل، وأصبح بعد أن تولت الواسطات ترقيته وإرساله في دورات فنية على مدار السنين نائبا لمدير الدائرة! لم يكن ذلك الشخص فظا معي للحق، ربما بحكم علاقتي برئيس مجلس الإدارة، ولكنه قال لي: إننا لسنا في قناة الجزيرة، بل في تلفزيون حكومي رسمي لا يمكن أن نقول فيه كل ما نريد! فتركت المكان غاضبا عازما على ألا أعود إليه. 

ولكن قبلها بأسابيع قليلة، كنت قد كتبت تقريرا عن زلزال قيل أيامها إنه قد يضرب الأردن. لحسن الحظ أو لسوئه، كان التقرير قد نال إعجاب مدير الأمن العام في البلد، الذي يبدو أنه اتصل برئيس مجلس الإدارة كي يشيد له بالتقرير، وبتحسن مستوى الأداء في التلفزيون بوجه عام. ساعتها، بدا وكأن الرئيس، الذي كان يعرفني ربما منذ أواسط التسعينيات، قد اكتشف وجودي وقدراتي فجأة. إذ أخذ يصحبني معه لحضور بعض الاجتماعات، ويعاملني بلطف غير مسبوق. بل إنه اتصل بي يسترضيني عندما علم بتركي للعمل إثر مشادتي مع نائب مدير الدائرة، وأرسل سيارة خاصة كي تقلني للقائه من مكان سكناي البعيد. كما حثني على الصبر والتريث من أجل التغيير، محاولا إغرائي ببريق الشهرة الإعلامية، وبوعدي بأن يجعل مني مديرا للأخبار إذا ما بقيت!

بعدها بأسابيع قليلة، حدث أن أعددت تقريرا عن سجن أبو غريب إن لم تخني ذاكرتي، وحدث أيضا أن كان نائب مدير الدائرة نفسه يقوم يومها مقام المدير. فقال لي فزعا بعد أن قرأ التقرير: أتريد خراب بيتنا، إن بث مثل هذا الكلام قد يفضي إلى قطع العلاقات مع أمريكا وقطعها القمح عنا! عندها، كان الكيل قد طفح بي، وتيقنت من أنه لا مكان لي أو مستقبل في ذلك المكان الخانق الذي سأصطدم فيه دائما بأصحاب العقول الأمنجية المذعورة.

وللصدفة، كنت وقتها قد تلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر علمي في المغرب، فوجدتها فرصة لا تفوت للفرار بجلدي والسفر بعيدا لإيجاد هواء نقي للتنفس، فخرجت من التلفزيون العتيد لا ألوي على شيء، ولم أعد إليه حتى يومنا هذا!