مقالات مختارة

ذاكرة اللجوء المشتركة

1300x600
مع اتساع نطاق ظاهرة اللجوء وتفاقم حدتها، أخذت تتشكل بين ملايين المهجرين العرب، مؤخرا، ذاكرة لجوء مشتركة، وبدأ يتكون لديهم وجدان عام موحد، مثقل بالترك والخذلان. وفي غضون ذلك، بدا أن اللاجئ الفلسطيني ما يزال شاهد العصر بامتياز، وصاحب السبق الذي لا يشق له غبار في مضمار تجربة الاقتلاع من الديار؛ كونه أول من تجرع مرارة الشتات في المنافي والقفار، وآخر من يتم ذكره الآن، الأمر الذي جعله يرى في نفسه عميدا للاجئين العرب بلا منازع، وربما الأخ الأكبر لهؤلاء الذين انضموا إلى الركب حديثا، وساروا على دروب الشقاء مثله، وعاشوا شظف العيش معه، داخل المخيمات الفقيرة المحاصرة.

وأحسب أن اللاجئ الفلسطيني، الذي عصرت روحه سنوات الانتظار والألم الطوال، وتمكن من إعادة بناء حياته، بالحد الأدنى تحت أشد الظروف صعوبة، كان أكثر الناس انفعالا بما جرى لنظرائه، لاسيما العراقيون والسوريون، كما كان أكثر أشقائه العرب تعاطفا مع من ساروا مكرهين على طريقه الموحشة، هؤلاء الذين يشبهونه في كل شيء، الطارئون على عوالمه البائسة، فتآخى معهم في الضراء، ولم يحسدهم في سره على أي شيء، إلا على فرضية أن عودتهم إلى ديارهم لن تكون بعد مدة طويلة، على نحو ما آلت إليه تغريبة لجوئه المديدة.

غير أنه مع احتدام الحروب الداخلية في بلدان ما كان يعرف باسم "الربيع العربي" الموؤود، واشتداد دوران طاحونة الموت الزؤام بالجملة، واتساع نطاق قوافل المهاجرين بحرا إلى أوروبا، راح اللاجئ الأول الملتاع من قسوة المشاهد التلفزيونية الصادمة للعقل والقلب، يعيد بناء افتراضاته الأولية، ويعقد المقارنات لصالحه -لأول مرة- مستذكرا حقيقة أنه فقد دياره وخسر ملاذه، وعبث العابثون بأقداره بفظاظة، إلا أنه لم يمت كل هذا الموت المجاني، ولم يتعرض لكل هذا الترويع الذي تعرض له مواطنوه في بلاد الهلال الخصيب.

صحيح أن ذاكرة اللجوء الفلسطيني غاصّة بالحكايات الشفاهية الكثيرة المحزنة، وأن قليلها موثق بالأبحاث التاريخية المدققة، إلا أن عدسات المصورين لم تكن حاضرة زمن النكبة، ولا في أيام النكسة، كما لم تكن ثورة الاتصالات الرقمية قد حلقت في الخيال على هذا النحو الذي أشاعته كاميرات الهواتف المحمولة، وهو الأمر الذي افتقرت إليه الحكاية الفلسطينية بشدة، فيما أتاح للاجئين الجدد، بالمقابل، إغناء ذاكرة أجيالهم المقبلة بكل التفاصيل اللازمة لتجريم القتلة، وتقديمهم للعدالة، إن لم يكن في المحاكم الدولية، فعلى الأقل أمام محكمة التاريخ الذي لا يرحم.

وكما تجاهل الدبلوماسيون والمانحون والإعلاميون واللاعبون الكبار في حينه، العلة الجوهرية التي أدت إلى نشوء ظاهرة اللجوء الفلسطيني، وانشغلوا عوضا عن ذلك بالظواهر العرضية لتلك الآفة الكامنة وراء مظاهر الإحلال والإقصاء والتهجير، ها هم أحفاد الرهط المراوغ ذاته، وورثة نهجه، ينشغلون اليوم بالنتائج لا بالأسباب، يصادرون أداة الجريمة ويغضون أبصارهم عن المجرم، على نحو يتيح للطغاة والقتلة الجدد الإفلات من العقاب الذي أفلتت منه منظمات الإرهاب الصهيونية.

وعليه، فقد تشكل اليوم ما يمكن أن نسميه "ذاكرة لجوء مشتركة" لنحو سبعة شعوب عربية على الأقل، تتفاوت لديها حدة المأساة، وتتباين فيها مديات الهجرة، إلا أنها تشترك معا بالقاسم الأعظم لهذه التجربة، التي تعرض لها الفلسطينيون مبكرا، وتعاقب على مداراتها اللبنانيون والعراقيون والسوريون، ثم لحق بهم الليبيون واليمنيون، وحدث ولا حرج عن شعوب القرن الأفريقي، الأمر الذي يؤكد أن العرب هم الضحية الأكبر للحروب والاحتلالات والصراعات المختلفة، ويشير إلى مخاطر تحول الإنسان العربي مستقبلا إلى الغجري الجديد في أوروبا.

على أن أخطر ما يداهم ذاكرة اللجوء الموحدة هذه من مواجع متماثلة، ويجمع بينها من مآلات مشتركة، ماثل فيما يجري الآن من عملية هندسة ديمغرافية متطابقة مع سوابق تاريخية شائنة، يتم خلالها إعادة تموضع قسري للمكونات الطائفية والعرقية، في مناطق فرز مذهبية ستتجابه إلى يوم القيامة. وهو الأمر الذي يعيد لهذه الذاكرة المستباحة، سابقة تهجير الفلسطينيين وإحلال عنصر يهودي استيطاني محلهم، تماما على نحو ما يجري، الآن، على قدم وساق في بلاد الرافدين وفي الديار الشامية، لاسيما بعد أن فتح الغرب ذراعيه أمام أفواج اللاجئين الجدد.



(نقلا عن صحيفة الغد الأردنية)