مقالات مختارة

ارتفاع شعبية كوربين قد تؤدي لائتلاف قادر على الفوز

1300x600
ما يجري داخل حزب العمال هو عبارة عن انفجار ديمقراطي غير مسبوق في تاريخ السياسة البريطانية. ففي الأسبوع الماضي وحده سجل 168 ألف شخص أسماءهم حتى يتسنى لهم التصويت في انتخابات زعامة حزب العمال، وجرى ذلك في يوم واحد فقط. منذ مايو الماضي تقدم ما يقرب من 400 ألف شخص بطلبات للانضمام إلى حزب العمال كأعضاء أو كمؤازرين، مما ضاعف حجم الحزب ثلاثة أضعاف ليصل إلى 600 ألف عضور.

معظم هؤلاء إنما حفزهم على ما أقدموا عليه مرشح واحد للمنافسة على زعامة الحزب، وهو عضو البرلمان العمالي المخضرم جيريمي كوربين. عندما أصبح طوني بلير زعيما لحزب العمال في عام 1994 وعد بأن يجند مليون عضو، ولكنه لم يتجاوز 400 ألف. وها هو كوربين يتجاوزه بمراحل خلال أسبابيع قليلة.

ليس هذا فحسب، بل لقد أصبح النائب اليساري صاحب الحظوظ الأكبر في الفوز في المنافسة، فبحسب آخر استطلاعات للرأي حصل كوربين على 53 بالمائة من بين قائمة المفضلين، تفصله 32 نقطة عمن يأتي من بعده مباشرة في الترتيب. وحبسب الاستطلاع نفسه يقول 32 بالمائة من الجمهور إنهم أكثر استعداد لدعم حزب العمال تحت قيادة كوربين، وهو في هذا الجانب يتقدم بسبع نقاط عن المرشح الذي يليه.

بعد سنوات من ندب الحظ بسبب انخفاض المشاركة في الحياة السياسية الحزبية، يتوقع المرء أن تسعد الطبقة السياسية لهذا الاندفاع الجماهيري نحو المشاركة. ولكن، لا، على الإطلاق، بل الذي حصل أن المؤسسة السياسية والإعلامية وضعت أيديها في أيدي من يقاوم هذه الظاهرة، ولسان حالهم يقول إن هذا الحزب هو واحد من أحزاب حكومة صاحبة الجلالة، وفكرة أن يسقط الحزب بأيدي شخص من خارج دائرة المقبولين والمرضي عنهم سياسيا لا يمكن أن تخطر ببال.

ولذلك رأينا نبلاء حزب العمال الجديد الواحد تلو الآخر - من طوني بلير إلى دافيد ميليباند - يقتطعون جزءا من وقتهم الثمين الذي يقضونه في العادة في أعمالهم التي أسسوها بعد التقاعد من عملهم الوزراي والتي تغدق عليهم الكثير من الثروة - لنعت كوربين بأنه الطريق إلى عالم النسيان الانتخابي. فبدلا من أن يرحبوا بهذا التدفق الكبير، تراهم يحرصون كل الحرص على الإعلان بأن الحزب لم يعد فيه متسع لمزيد من المنتسبين.

كان السماح بتسجيل المؤازرين على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية أمر مرحب به من قبل، وقد عبر عن ذلك طوني بلير في العام الماضي حين قال: "هذا شيء كان يجدر بي أن أعمله بنفسي." ولكنه بات الآن بغيضا على اعتبار أنه طريق يورد المهالك لأنه يفضي إلى انضمام أصحاب الأجندات السياسية. وفعلا، لقد مورست محاولات لإيقاف عملية التنافس إلى أن يتم إقصاء غير المرغوب فيهم ممن انضموا إلى الحزب، أو حتى إقناع منافسي كوربين الثلاثة بالانسحاب من المنافسة لإفشال العملية الانتخابية بأسرها.

ولكن كلما تعالت صيحات أباطرة حزب العمال الجديد لتصنيف شعبية كوربين المتنامية على أنها مجرد رد فعل آني ومؤقت كلما نجم عن ذلك تعرية السياسة الرسمية وكشف حقيقتها كنظام مغلق يضع قواعده التي تحدد من له المصداقية، ومن له القابلية لأن ينتخب مجموعة القوى المتنفذة لا المقترعون ولا أعضاء الحزب.

ما من شك في أن ظاهرة كوربين عبارة عن حراك لم يتنبأ به أحد ولم يطلقه أحد من وراء الكواليس، بل هو رد فعل تلقائي، بما له من أصداء ذات علاقة بالاستفتاء على استقلال اسكتلندا وبالحركات الشعبوية اليسارية الأوروبية، ضد الخيارات السياسية المحدودة والمقيدة بشكل فظيع وضد سياسة التقشف العقابية التي فرضت من أجل دفع تكاليف الانهيار الذي حدث في عام 2008.

تحتاج فقط لأن تذهب إلى أحد المهرجانات الضخمة التي تنظمها حملة كوربين حتى تدرك سخافة الفكرة التي تقول إن هذه الظاهرة ما هي سوى نتاج تلاعب سياسي أو نقابي وأن مؤيديه لا يريدون سوى نوع مختلف من القيادات العمالية، والحقيقية هي أنهم يطمحون إلى تغيير النظام السياسي بأسره.

في هذه الأثناء تزداد القناعة بعدمية الرأي القائل بأن المرشحين الآخرين في المنافسة على زعامة الحزب بما لديهم من قناعة بضرورة إرضاء كل من هب ودب في عالم التجارة والأعمال كما جرت عليه الأعراف السياسية طوال تسعينيات القرن الماضي، بإمكانهم أن يقدموا بديلا انتخابيا قادرا على التغلب على التزام كوربين بالمواقف والآراء الوسطية لعموم الجمهور.

لقد انشق آندي بيرنهام الآن عن معسكر "كله إلا كوربين" بينما يحشد أتباع تيار بلير الدعم لممثلة حزب العمال الجديد إيفيت كوبر. ولكن يبدو أن نزالهم يستهدف تأمين المرتبة الثانية. فهذا آخر استطلاعات الرأي يخلص إلى أن 61 بالمائة ممن يحق لهم التصويت من النساء و48 بالمائة من الرجال يدعمون كوربين، وليس هذا مستغربا حين نأخذ بعين الاعتبار أن ضحايا التقشف معظمهم من النساء.

يصر خصوم كوربين أنه سياسي من العصور البائدة جاء ليقدم "حلولا قد عفا عليها الزمن". ويبدو أن مثل هذا التوصيف يستند أساسا إلى التزامه بالملكية الحكومية لقطاع السكة الحديد وقطاع الطاقة؛ وهو الأمر الذي لا يؤيده السواد الأعظم من الجمهور فحسب، وإنما يعكس أيضا توجها آخذا في النمو نحو أشكال جديدة من الملكية الاجتماعية في كل أنحاء أوروبا، وخاصة في ألمانيا.

يكمن الاعتراض الحقيقي على كوربين في كونه يمثل قطيعة مع التقشف الذي يدعمه قطاع المصارف والأعمال ولكونه ملتزما بقوة بالاستثمار العام، هذا بالإضافة إلى معارضته لتجديد صواريخ ترايدنت وللسلوك البريطاني المسعر للحروب بشكل دائم، ناهيك عن التحدي الذي يشهره في وجه ما تدعيه المؤسسة من إجماع، وهذا أمر بات في غاية الوضوح.

كلما أخفقت محاولات التنديد بكوربين وتشويه سمعته في وقف تقدمه على منافسيه كلما ازدادت هذه المحاولات سعارا وسمية. كانت آخر هذه المحاولات توجيه سهام النقد له لدعمه الحوار مع حماس وحزب الله، وكذلك محاولة تلطيخه من خلال ربطه بظاهرة العداء للسامية. والحقيقة أن مثل هذه الخطة الهجومية غاية في السوقية، إذ أن طوني بلير نفسه التقى زعيم حماس خالد مشعل أربع مرات منذ شهر أبريل الماضي.

إلا أن هذه الاستماتة تنبئ عما يشعر به هؤلاء الخصوم من تهديد، والذين يتبنون فكرة أن الإقبال الشديد على كوربين ما هو سوى فيضان مفاجئ غير ممثل للجماهير وأن حزب العمال إنما خسر الانتخابات بسبب ميله المتطرف نحو اليسار وأن حزب العمال تحت قيادة كوربين لن يتسنى له الفوز في أي انتخابات عامة.

لا يشك أحد في أن أي زعيم لحزب العمال سيواجه لا مفر تحديات صعبة. ولكن نتائج انتخابات شهر مايو الماضي، والتي شهدت نزف حزب العمال لكم كبير من الدعم في كافة الاتجاهات، لا تصدق مثل هذه المزاعم على الإطلاق. فعلى أية حال لا يوجد فقط ائتلاف محتمل واحد للمقترعين من شأنه أن يهزم المحافظين بعد خمسة أعوام من الآن، كما أنه يصعب إثبات صحة الزعم القائل إن أيا من منافسي كوربين لديه فرصة أفضل لاستعادة الدعم الذي فقده الحزب في اسكتلندا في أوساط ناخبي الطبقة العاملة وناخبي الطبقة الوسطى والذين ذهبت أصوات كثير منهم إلى حزب الاستقلال البريطاني أو إلى حزب الخضر.

من الممكن بالطبع أن تثمر الهجمات التي لا تكاد تتوقف أو تضعف في التأثير على التصويت بحيث يتكبد كوربين الخسارة في نهاية المطاف. ولن يكون السبب في ذلك محصورا فيما يقوم به المحافظون ووسائل الإعلام، بل وأيضا فيما تقوم به قطاعات من مؤسسة حزب العمال التي يمكن أن تلجأ إلى حملة برلمانية للنيل منه والتسبب في الإطاحة به.

ولكن فيما لو فاز كوربين فسيحظى بتفويض ديمقراطي غير مسبوق مدعوم من قبل حركة يعد منتسبوها بمئات الآلاف. لا يقتصر التزام كوربين على إيجاد قيادة تشارك فيها "جميع المهارات" فقط بل ينوي بالإضافة إلى ذلك فتح العملية الديمقراطية داخل حزب العمال، والتي طالما تنحت، أمام الجميع. يحرص كوربين باستمرار على التأكيد بأن الأفكار التي يتحدث عنها بشأن السياسة التي ينوي انتهاجها لا تتعدى في الوقت الراهن كونها "عروض" و"مقترحات".

كيفما حسبت الأمر، فهو أشبه بالمشي على الحبل المشدود على ارتفاع شاهق. فحتى لو فاز، فإنه قد يتعرض بعد هنيهة إلى الخلع أو المشاكسة أو المصادمة والتعطيل، كما اقترح بلير مشبها ذلك بما يفعله لاعبو الرغبي. أما الآن، فتظل حركة كوربين هي الفرصة المتاحة للقطيعة مع نظام تقشف كارثي ولانفتاح ديمقراطي حقيقي.

(ذي غارديان)