قضايا وآراء

الإرهاب والحرية

1300x600
هز العمل الإرهابي الذي مزق سلام متحف باردو و الهجوم على السياح في سوسة مشاعر التونسيين لكونهما بكل المقاييس اعتداءات سافرة على الذات الإنسانية ولا يوجد سبب واحد لتبرير هذا القتل المجاني للأبرياء ولا توجد قضية مهما كان نبلها تدفع إلى أفعال طائشة كهذه، تزرع الحزن والأسى وتنفث الحقد والكراهية.

إن الكلمات لا يمكنها أن تصف بشاعة الموقف وعبثيته، ذلك أن شبابا لسنا ندري من هم و لا من حرضهم ولا من زين لهم أعمالهم الإجرامية, تمكنوا في دقائق من أسر شعب بأسره وإقحامه في صراع لا أحد يعلم محتواه ولا رهاناته و لا مآله. 

كل شيء خفي في هذا الإرهاب الأعمى وكل شيء يثير أكثر المشاعر تناقضا والجميع لا يعلم يقينا ما يحدث. إنها أحداث فاقدة للدلالة وللمعقولية؛ لذلك تبدو وكأنها كابوس مرعب حيث تفقد الأشياء حالتها الطبيعية وتفقد تسلسلها الطبيعي والمشهد يبدو غريبا وعجيبا وفاقدا للمعنى؛ ذلك أن من هم منا وبعضهم عاش معنا يتحولون  في رمشة عين، وبقدرة قدير وبشكل يكاد بكون سحريا إلى كائنات كاسرة تصبح فيها الحياة والموت مجرد أشياء عادية. كيف يمكن للإنسان أن يتخلى لا عن أفكاره، ولا عن أحلامه، وإنما عن غريزته التي  هي من حيث الأصل حارج سيطرة إرادته، من أين جاوؤا بهذه الروح التي لا تحلو لها الحياة، إلا إذا ماتت وجرفت في سقوطها أكبر عدد ممكن من الآخرين.

كما هو شأن كل الكوابيس المزعجة تجد من الناس من يتطوع لفك طلاسمها وادعاء تفسيرها وهو ما نراه عقب كل هجوم دموي، حيث يتطوع البعض للتفسير وكشف العلة ووصف الترياق. من الطبيعي إزاء أحداث هذا شأنها أن تتعدد الآراء تعليقا وتوضيحا وتنتشر التحليلات، وحيثما وجهت وجهك طالعك من يفسر ويحلل ويعلق وكل يدلي بدلوه ويعبر عن مخالجة، وإلى هذا الحد ليس في الأمر أي شيء يثير التحفظ ويدفع إلى التأمل.

 غير أن في خضم هذه التحليلات انتشر قول بين الناس مفاده أن الحرية تنتهي عندما يبدأ الإرهاب، بمعنى أن الحرية السياسية هي التي تولد الإرهاب لكونها تقوم على التقيد بالقانون، أو أن القضاء على الإرهاب يستوجب التضحية بهذه الحرية وبما سواها من الحريات، وأنه على التونسي والعربي عموما أن يختار بين الحرية والأمن. ومن شدة إعجاب الصحافة بهذا القول طفقت تنشره وتبثه وتذيعه وتكاد تكتبه علي جبين كل تونسي. لا يتعلق الأمر بكلمة تقال وكفى، وإنما بإقرار يربط بين الإرهاب والحرية ربطا عكسيا، فيجعل من الأول نقيض الثانية وهذا في حدود السياق التحليلي أمر مفهوم لكون الإرهاب اعتداء سافر على الحرية الإنسانية، بل وتحطيم لكيان الإنسان بشكل يغدو معه الحديث عن الحرية ضرب من الوهم. 

و لكن من الواضح أن القول المتداول لا يعني الإشارة إلى هذا التناقض، ولا يهمه أصلا إن كان هناك تناقض لكون مقصد ما أشيع ليس الإرهاب وإنما هي الحرية. فالمقصود من القول إن الحرية تنتهي عندما يبدا الإرهاب، ليس معنيا بحدود الإرهاب، بل ليس معنيا بتحديده وتعيينه وإنما معني بالحرية وببعد واحد من أبعادها، وهو المتمثل في حدودها. وبناء على ذلك فإنه من كل ما في الإرهاب من شر، لا يري فيه إلا ما يمكن أن يكون نافعا لحد الحرية ولجمها. في هذا التصور لا يهتم القائل بمعنى الإرهاب بل بنتائجه. وليس كل النتائج بل في علاقته بحدود الحرية. بطبيعة الحال فإن القائل إذ يقول ذلك وينشره، يكشف عن عجزه إزاء الإرهاب؛ ذلك أنه بدل البحث عن سبيل لوقف الإرهاب أو طريقة للتعامل مع الإرهابيين أو منهج لتمييز الإرهاب عن المقاومة أو غير ذلك، ينهال بكامل قبضته على الحرية للجمها وتعيين الحدود لها. وهو بذلك ينجز على الحرية ما هو عاجز عن فعله على الإرهاب، بل هو يسعى إلى السيطرة على الحرية، بعد أن فشل في السيطرة على الإرهاب، معتقدا أن سيطرته على الأولى تمكنه من السيطرة على الثانية، ولكن يبدو أن التضحية المراد القيام بها والمتمثلة في نحر الحرية علي هيكل الإرهاب، قاصرة عن تحقيق رهانها ويبدو على الأرجح أنها غير مقصودة في كليتها، بل فقط التفريط في الحرية دون الحرص على القضاء على الإرهاب.

 الخطير في هذا القول الذي يراد له أن يشيع هو تحول محاربة الإرهاب إلى ماكينة للحد من الحريات، والإيحاء بأن الحرية هي منبع الإرهاب أو سببه، أو أحد عوامله. في هذا الربط من الخطورة ما يكفي لإدانة قائله أو من يقول به، وإثبات أنه عكس ما هو شائع أو يراد له أن يشيع، فإن الإرهاب ينتهي عندما تبدأ الحرية.

  إن عملية باردو لم تبين أننا متخمون بالحرية، بل على العكس من ذلك تماما كشفت أن وعد الحرية الذي سقط الشهداء من أجله لم يتحقق بعد؛ ذلك أن الإرهاب لا ينشأ في المجتمعات الحرة ولا يتمدد في المجتمعات التي تتصالح مع نفسها، وتلك التي تحل الحوار والشورى محل العنف والقتل، وإنما منشأه وتمدده لا يكون إلا حيث تغيب الحرية، ويتعطل بالنتيجة الحوار وينتشر العنف. وبهذا الاعتبار فإن الإرهاب ينتهي عندما تبدأ الحرية، وتتحقق وعكس ما هو رائج أو ما يروج له من أن الحرية تنتهي عندما يبدأ الإرهاب، فإن الإرهاب ينتهي عندما تبدأ الحرية.

 لإثبات هذا الأمر، يبدو أن مجرد نظرة عابرة على مواطن الإرهاب من حيث النشأة والانتشار، تكفي لكل ذي بصيرة من أن يكون على بينة من أن الإرهاب قرين الاستبداد وغياب الحرية. ذلك أن الإرهاب بما هو عنف هو دائما حل أقصىى، لا يلجأ إليه الإنسان العادي، ولكن كلما ضاق مجال الحرية في مجتمع معين وكلما ضاق أفق الآمال، انطوى الإنسان على نفسه وانحدر تدريجيا إلى رافض للآخر، ثم السعي إلى إلغائه. عندما يشعر الإنسان أنه صاحب حق ولو كان ذلك وهما، لا يمكنه ان يتحرر من أوهامه إلا في فضاء حر، حيث التواصل الحر والحوار الذي يغير مجرى الأشياء. معنى هذا أنه كلما كان فضاء الحرية متسعا ، قل التطرف المؤدي بالضرورة إلى العنف ومن ثم الإرهاب. لقد كان الكواكبي أشد فطنة من كثير ممن يحسبون أنفسهم على الثقافة اليوم في تونس. لقد أشار منذ ما يقرب من مائة عام إلى أن الاستبداد بما  هو انقلاب في الوضع الطبيعي للأشياء ومسخ للذات الإنسانية، يؤدي ضرورة إلى انقلاب في المعايير والقيم انقلابا يتحول فيه الإنسان إلى وحش آدمي.

تحديدا أشار الكواكبي إلى الكارثة التي يلحقها الاستبداد بالتربية فيقلبها من عملية أنسية حضارية للإنسان، إلى ماكينة عمياء لصنع عبيد غير قادرين على التحرر من القيود التي تكبلهم مهما كانت هذه القيود ومهما كان شكلها.

هذا ما تم تماما أمام أعيننا في تونس. فعشرون سنة من الاستبداد فرخت هؤلاء الذين نراهم معنا ولا نكاد نصدق أنهم يفعلون ما يقترفون من جرائم باسم الدين. لم يكن للعهد السابق أي مشروع سياسي لتونس غير السيطرة على المواطنين، وتحويلهم إلى أدوات ومواضيع سيطرة سياسية مباشرة، لا غاية لها إلا الحفاظ على النظام. وبطبيعة الحال لم يكن لهذا البرنامج مشروع سياسي أو ثقافي يسنده، بل كان مجرد تصريف للأعمال بحسب مقتضيات صندوق النقد الدولي، فتم التعامل مع مختلف المسائل من زاوية إجرائية تقنية محضة.
لم يكن هدف المؤسسة التربوية في دولة كهذه، تربية جيل متشبع بقيم الحق والحرية ملتزم إزاء نفسه والآخرين، يحمل مشروعا حضاريا إزاء وطنه  يحل الحوار محل العنف، بل كان رهان المؤسسة التربوية تجفيف منابع الحركة الإسلامية عبر تفكيك المنظومة الرمزية المرجعية بحجة احتوائها على الإرهاب دون صياغة مرجعية بديل، أو حتى تكريس الحرية، ووقع في هذا السياق الإطاحة بكل الرموز والتشكيك في كل المسلمات ونزع احترام وقداسة القيم المرجعية، دون توفير بديل بل ترك التلاميذ دون مرجع وضد كل مرجع، وانتهى الأمر إلى تفكيك الوعي الفردي وتشظيه، وشل قدرته على بناء فهم  تأليفي وشمولي بالواقع، وإنجاز امتحان نقدي للسائد. كان رهان المؤسسة التربوية صرف التلاميذ عن الشأن العام، و تشتيت الوعي الفردي. كان رهان المؤسسة التربوية خلق أجيال طيعة غير قادرة على النقد.

النتيجة فاقت كل التوقعات والبرنامج الذي وضع للتلاميذ أدى إلى النتيجة المبتغاة؛ إذ بإزاء أجيال كاملة غير قادرة على بناء تصور متسق للعالم، ولا تمتلك من أدوات التحليل والنقد ما يمكنها أن تتجنب شراك التنظيمات الإرهابية، ولا من المراجع الروحية أو الفكرية ما به تتمكن من نقد هذه العبثية السوداء المسماة داعش، ولا التحرر من أشكال التطرف سواء الفكري أوالسلوكي.

لم يكن ممكنا للتنظيمات المتطرفة مهما كان مضمونها والجنة التي تعد بها أن تتسلل إلى عقول الشباب، لولا هذا الخلل الهيكلي في التكوين النفسي والفكري والاجتماعي لشبابنا الذي وقع التضحية به على هيكل الأمن والأمان والاستقرار الزائف. لم يكن من الممكن أن تنجب تونس من تسول له نفسه حمل السلاح ضد التونسيين لو لم يكن هناك خلل في تكوينه ونشأته.

 الآن بعد فوات الأوان، أشد الأمور خطورة هو التعامي عن هذا العامل المهم والحاسم ونسبة التطرف إلى الفقر، أو إلى الدعاية السوداء؛ ذلك أنه ما كان الفقر منتجا للإرهابيين لو لم يكن هناك استعداد من الفقراء لتبني هذا الفكر؛ لذلك من الإرهابيين فقراء ولكن كثير منهم ينحدر من فئات غنية. وما كان للإرهاب أن يتسلل عبر الدعاية السوداء المخادعة، لولا أن عقولا وقع إرهابها من قبل لتصبح طيعة ومطيعة. ولا سبيل للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة التي ليس من الممكن السيطرة عليها إلا بالاشتغال علي منابعها. ولا يتطلب هذا الأمر العودة إلى المنبع الأصلي للإرهاب، أي الديكتاتورية، بل القطع معه عبر دفع الربيع العربي المجيد إلى أقصى ما يمكن أن يسمح به من حرية.