مقالات مختارة

بزنس اسمه "داعش" والإرهاب منتج رسمي

1300x600
كتب بسام البدارين: المفارقة بتقديري الشخصي أصبحت واضحة تماما دون التباس أو مبرر لممارسة الخطأ البصري والنكران.

المواطن العربي الذي لا يستطيع فتح فمه إلا عند طبيب الأسنان، سيبقى فمه في حالة الإغلاق عندما يتعلق الأمر بالتفاعل سلبا أو إيجابا مع الظواهر الاجتماعية المتشددة والعنيفة، وتحديدا في تلك اللحظات العصيبة التي تواجهها الدول والأنظمة والحكومات، وهي تثير هواجس المساس بها أو حتى بقائها وأجهزتها ومؤسساتها، عندما يعشش الإرهاب بمختلف أشكاله وأصنافه، أو يظهر فجأة ليثير القلاقل في المجتمعات الصامتة.

لماذا يتساهل المواطن العربي مع التشدد الديني والطائفي؟ لماذا يتفهمه، وفي بعض الأحيان يبرره حتى أمام نفسه؟ هذه حصريا الأسئلة الحساسة، رغم رفضنا المبدئي لأي محاولة لتبرير أو تمرير الإرهاب والعنف الطائفي أو التشدد الذي يطال كل المساحة الغائبة في عالمنا العربي باسم "الرأي الآخر".

لم أقرأ في مدرسة النظام العربي الرسمي أي صفحة تحاول الاعتراف بدور الحكومات والأنظمة الرسمية وتصرفات الرموز والنخب وممارسات الأجهزة الأمنية وقوة الفساد في إنتاج الإرهاب .

لم أقرأ بعد ولو اعترافا رسميا واحدا بأن وجود إسرائيل في عمق الجرح النازف كان ولا زال المنتج الأكبر لاحتمالات ومشاريع الإرهاب، أو أن غياب العدالة الاجتماعية والتشريعات الحامية للمواطنة والحقوق المدنية والانتخابات غير المزورة قد يكون من بين أسباب تسرب الخيار الديني المتشدد عند المواطن العربي .

أؤمن بما قاله أحد الزملاء بأن دولة خلافة داعش المجنونة ليست بالحجم السرطاني الذي يتحدث عنه الإعلام والساسة حتى تتمكن من الضرب في اليمن وتونس والكويت وفرنسا في الوقت ذاته.

الداعشية أصبحت فكرة لا يمكن رصدها بتلك الأبواب الإلكترونية المزروعة على الحدود، ولا مصادرتها عبر المطارات والموانئ.

هي فكرة تظهر أبشع ما في الإنسان العربي والمسلم والمتأسلم، وهو يحاول البحث عن هويته الضائعة.. قابلة للتقليد والتقمص والتمثيل، وقد قرأنا في الصف الأول الابتدائي بأن الفكرة لا تناجزها إلا فكرة مثلها، وما يفعله القوم بالنظام الرسمي العربي اليوم التركيز على المتاجرة بالأعراض وترك تشخيص المرض ذاته، حتى أن التصدي لداعش يحمل في باطنه "مغذيات" لا يمكن إنكارها لأخلاقيات وسلوكيات الإنسان، عندما يتطرف ويميل للبشاعة والوضاعة في التعبير عن ذاته الجديدة.

ما يفعله هؤلاء القوم هو أنهم فقط يكثرون من الكلام بسطح المسألة، حتى أصبح التصدي لداعش عبارة عن "تجارة رابحة" في بعض الأحيان، وبزنس يعزز "ابتزاز" الأنظمة الرعوية الخائفة، أو تلك التي تنطبق عليها عندما يتعلق الأمر بالفساد مقولة فيلم الرعب الأمريكي الشهير "أعرف ماذا فعلت الصيف الماضي".

ندوات ولقاءات ونشاطات ممولة وأجهزة تلد أجهزة، وملايين الدولارات تدفع في الكواليس أو تسرق خلف الستارة، وكتب ومؤلفات ومخصصات للإعلام وشخصيات تقفز وأخرى تصعد.

والعنوان الأبرز المتاجر به دوما هو التصدي للإرهاب، والحرص والسهر على منع داعش "الفكرة" من العبور للحدود، رغم أنه يخيل إلي أحيانا بأن الهدف الأعمق من الحالة الداعشية قد يكون ذلك، وأقصد "ابتزاز" من الطراز العصاباتي للأنظمة الريعية القمعية الفاسدة، والأغراض بعد التشتيت والتقسيم، وإعادة إنتاج سايكس بيكو طائفي في المنطقة، هو دوما سياسي ولا تستفيد منه إلا إسرائيل.

داعش اليوم وبعيدا عن أصوات المدافع ومشاهد قطع الرؤوس وإطلاق الرصاص هي "بزنس" بالنسبة للكثير من الجهات الاستثمارية، وتحديدا تلك التي تجيد نغمة الاستثمار في الأزمة، والخوف البشري، واللحظة البشعة.

ظهرت طبقات من المتاجرين الانتهازيين بالخوف المتأصل الذي تثيره تنظيمات ومقترحات الحياة، كما يعرضها متجر التدعوش والتشدد الديني.. 

ثمة وكلاء وسماسرة يتاجرون بالخوف كما يتاجر الساسة بأزمات الشعوب، وفي أفق المجتمعات العربية "جيوش" من الدواعش المستترين المتأهبين للتقليد وللتمثيل، وبعضهم لا ينتظر أوامر الخليفة المركزية، ولا مجالس الشورى الجهادية، وكل ما يتطلبه المشهد حمل السلاح الرشاش أو تزنير الخصر بالمتفجرات، وتنظيم زيارة لمكان مزدحم بالأبرياء، وسط خاصرة أمنية متهالكة، ثم إطلاق عبارة الله أكبر، والقيام بالمهمة في انتظار الجنة.

"المقلدون" للحالة الداعشية اليوم هم الأخطر من تلك القوافل المنظمة المسلحة التي استقطبها الجهاد المفترض في العراق وسوريا.. هؤلاء بيننا الآن غاضبون محتقنون يبحثون عن طريق الخلاص، ومصالحهم متأثرة، ولا أحد في الأنظمة يخاطبهم وتتجاهلهم كل مايكروفونات الحكام العرب المضللة، وهم دوما "مهمشون" بلا أمل، بسبب ثنائية الاستبداد والفساد التي تعيش مع ابن المنطقة العربية.

يحصل ذلك فيما تزيد أعداد الأوراق التي تقدم للحاكم العربي على أنها وصفات مبرمجة وهادفة ومدفوعة الثمن، بعنوان استراتيجي لمواجهة التطرف واحتمالات الإرهاب، وفيما تتجول مئات الملايين من الدولارات خلف الستارة هنا وهناك باسم التصدي للإرهاب.

يحصل ذلك فيما الأجهزة الأمنية العربية منشغلة في سفاسف الأمور، وتراقب النشطاء السياسيين والمعارضين والإعلاميين والمثقفين، رغم أن الطبقة الأخيرة هي التي تتصدى فعلا لداعش الداخل النائم بيننا، وليس طبقة رجال الدول ورموز الأنظمة والموظفين.

أعتقد شخصيا بأن الرقابة صارمة في البلدان العربية على كل صاحب رأي ومثقف ومنتقد يقول بروح إيجابية.. "يا جماعة لا تحاربوا الإرهاب والتطرف إلا عبر العدالة ووقف الفساد".. 

وأتصور بأن أجهزة المخابرات في العديد من بلدان العرب، وتحديدا في مصر والخليج، منشغلة بتصوير المعارضين وصولات وجولات الناقدين وأصحاب الرأي وسجلات الشركات أكثر بكثير من انشغالها بالجهد الحقيقي الفعلي لمطاردة الإرهاب.. تلك في جميع الأحوال قصة أخرى.

(عن صحيفة القدس العربي اللندنية، 1 تموز/ يوليو 2015)