مقالات مختارة

تحرك سعودي قد يقلب المعادلات

1300x600
تناولت الصحافة العالمية بكثير من الاهتمام زيارة سمو ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى روسيا الأسبوع الماضي. وكتبت مواقع إخبارية غربية وشرقية تحليلات وتقارير معمقة عن أهداف هذه الزيارة ونتائجها. وكان الطابع الغالب على هذه التحليلات والتقارير هو أن هذا التوجه السعودي الجديد يضع المسمار الأول في نعش العلاقات السعودية - الأمريكية.

الزيارة وما تخللها من اتفاقات تمثل بالفعل - مثلما أشار كثير من وسائل الإعلام العالمية - نقطة تحول مهمة في العلاقات السعودية - الأمريكية، غير أن هناك أيضاً في مقابل هذا المسمار آلاف المسامير الأخرى اللازمة لصناعة النعش، التي يمكن أن تُستبعد وتُبعد من شهوة «الخشب والحديد» في حال راجع الأمريكيون سلوكهم في منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة.

يعرف السعوديون أن العلاقات مع أمريكا قوية وراسخة رغم الهزات التي تضربها بين آن وآخر، ويدركون أن الحليف الأمريكي طرف يعتمد عليه في إدارة وضبط الملفات الاستراتيجية الكبيرة التي تمثل أهمية كبرى للبلدين، لكنهم أخيراً صاروا يتشككون في قدرة واشنطن على تعريف وتحديد ماهية هذه الملفات ومدى أهميتها؛ فالقضايا التي تعتبرها الرياض على رأس أولوياتها في المنطقة، أضحت مشاكل صغيرة جداً بالنسبة إلى واشنطن، ولا تتعدى كونها بنوداً روتينية يومية في سجل الديبلوماسية الأمريكية، والهدف الرئيسي منها إشغال ساعات موظفي وزارة الخارجية المعنيين؛ لإبقائهم في «وضعية العمل» اللازمة للحصول على الرواتب في آخر الشهر!

كما أن واجبات التحالف التاريخي بين البلدين بدت في الأدبيات الأمريكية المتأخرة مسألة غير واضحة المعالم، إذ اتضح جلياً للسعوديين أن أمريكا غير مستعدة في المستقبل القريب للقيام برد فعل سريع وحازم وقاطع في مواجهة الأخطار التي تتهدد السعودية والمنطقة.

من هذا المنطلق، راحت السعودية تفتش عن خياراتها البديلة مع التأكيد دائماً أن علاقتها مع الولايات المتحدة ليست قابلة للانكسار تحت أي من الضغوط المتغيرة، وإنما هي تضعف وتقوى نتيجة للمتغيرات في داخل هذه العلاقة وفي خارجها.

اختارت السعودية روسيا لبناء حلف مؤقت، ذهبت إلى موسكو وهي تضع في حسبانها عاملين أساسيين لاستمرار هذا الحلف وتطوره في السنوات العشر المقبلة: قدرة الأمريكي بعد كانون الثاني (يناير) 2017، موعد تسليم السلطة إلى الرئيس الأمريكي الجديد، على ترميم العلاقة التاريخية بين واشنطن والرياض وحمايتها بضمانات مكتوبة، والعامل الثاني هو مدى جدية روسيا في الاهتمام بهذا الحلف وتطويره وتحمل تبعاته في المنطقة.

اختارت الرياض أن تبدأ تفعيل هذا الحلف الجديد بستة اتفاقات تجارية وعسكرية واقتصادية، لكن جوهر هذه الاتفاقات يتمثل في تقديري في ثلاث مسائل رئيسية.

أولاً: الاتفاق النفطي بين البلدين سيغير معادلة سوق النفط في العالم بشكل جذري، فالسعودية التي طالما كانت ضامناً للمصالح الغربية في أسواق النفط العالمية، اختارت أن تتنازل عن هذا الدور أخيراً لتشكيل رؤية مشتركة مع أكبر المنتجين العالميين للنفط من خارج «أوبك»، وهذا ما سيجعل الدولتين النفطيتين العملاقتين قادرتين في المستقبل المنظور الذي قد يمتد على الأقل إلى ما قبل 20 كانون الثاني (يناير) 2017، على تشكيل مزاج السوق العالمية وتطويعه لمصلحة موازنتي الرياض وموسكو، بصرف النظر عما يمكن أن تعانيه موازنات الدول الكبيرة المستوردة للنفط.
 قبل سنة كان كثير من التقارير الصحفية يتحدث عن اتفاق سعودي - أمريكي للضغط على روسيا من خلال العمل على خفض سعر برميل النفط عالمياً، واليوم صرنا نتحدث عن إمكان استخدام النفط السعودي والروسي لإعادة تشكيل خريطة القوى في الإقليم والعالم.

المسألة الثانية تتمثل في اختيار السعودية روسيا لتكون الشريك الرئيسي في بناء 16 مفاعلاً نووياً. وفي هذا الأمر تحديداً تعمدت السعودية أن ترسل رسالة شديدة الوضوح إلى أمريكا، مفادها أنها باختيارها للتكنولوجيا الروسية في إنشاء هذه المفاعلات تعبر عن عدم رضاها عن طريقة إدارة المناقشات الطويلة بين أمريكا وإيران، حول برنامج الأخيرة النووي والنتائج الأولية التي أثمرتها هذه الجولات الطويلة والماراثونية من المحادثات النووية.

صحيح أن السعودية كانت تسعى إلى امتلاك الطاقة الذرية النظيفة منذ زمن ليس بالقصير، وأنشأت من أجل ذاك مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة، إلا أنها باختيارها «العراب» نفسه الذي زود الإيرانيين بالتكنولوجيا النووية، باتت تعرف أن من يعول على روسيا في هذه المسألة هو الذي يكسب في النهاية.

المسألة الثالثة تتعلق بالتحالفات المتغيرة في المنطقة، فالسعودية التي طالما واجهت مصاعب جمة في إدارة مصالحها في الشرق الأوسط بسبب استقواء بعض الدول الإقليمية بالعملاق الروسي، قادرة اليوم على القفز على هذه المشكلة من خلال إعادة تصنيف قيمة التحالفات وأهميتها لدى الجانب الروسي. ستتمكن السعودية في المستقبل القريب من فرض رؤيتها في المنطقة تجاه القضايا الطارئة بأيسر السبل وأقصرها بسبب اتفاق محتمل مع روسيا واتفاق خامل مع أمريكا.

روسيا ستظل شريكاً أساسياً مهماً في قضايا العالم كافة، والاتجاه السعودي الأخير لها يبيّن أهميتها الدولية التي اكتسبتها في السنوات الماضية، ويأتي احتراماً لعودتها إلى العالم الثنائي القطب من جديد الذي غادرته منذ زمن بسبب بيروسترويكا ميخائيل غورباتشوف، وما أعقبها من صدمة وجودية تسببت في انكفاء بوريس يلتسين إلى الداخل والتخلي مؤقتاً عن إدارة العالم الثنائية إلى جانب أمريكا.

السعوديون لن يفرطوا بعلاقتهم التاريخية مع أمريكا، لكنهم أدركوا أخيراً أن ليس في إمكان إدارة أوباما أكثر مما كان، لذلك اتجهوا شرقاً وأبقوا إحدى عيونهم باتجاه الغرب في إشارة متجددة للإدارة الجديدة التي ستعقب إدارة أوباما.



(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)