كتاب عربي 21

تحريك السواكن في المجاري الرواكد

1300x600
ألقى المرزوقي حجره في بركة الماء الراكدة." وأصْبَـحَ عَنّـه بالغُمَيْصَـاءِ جَالسـاً فَرِيقَـانِ: مَسْـؤُولٌ وَآخَرُ يَسْـألُ" ما العمل الآن؟ وقد برز إلى التحدي السياسي الجديد؟ الرجل يعود إلى الساحة ويرفض الموت السياسي والتمتع بتقاعد رئاسي مريح، بل يزايد ويتحدى. ماذا يريد بالتحديد وهو يطرح مشروعه ويعلن أن لن يستثمر لمجده ولموقعه؟ 

الاعتذار الشجاع.

يوم 25 نيسان/ أبريل، عقد حراك شعب المواطنين مؤتمره التحضيري في قصر المؤتمرات بالعاصمة، تحت إشراف الدكتور محمد المنصف المرزوقي الرئيس التونسي السابق، بحضور نوعي منتقى من الكفاءات النشيطة ومن الشباب المتحمس ممن شارك في حملة الانتخابات الرئاسية لسنة 2014. 

وغابت عن اللقاء بشكل لافت الأحزاب السياسية التي لم تلب دعوة للحضور. وألقى المرزوقي خطابا نوعيا لم يسمع مثله في تاريخ العمل السياسي في تونس. وطرح في الخطاب مشروعا سياسيا نوعيا يحتاج مقالات كثيرة لتفكيكه والبحث في آفاقه وسبل تجسيده في الواقع. ولفرط كثافة الخطاب المضمونية، فن ردة الفعل الأولية المريحة والمنجية من النقاش كانت وسمه بالمثالية والثورجية. ولكن الأمر اللافت قبل كل المضامين هو الاعتذار الشجاع الذي استهل به الخطاب. 

قيَّم الرجل مسيرته في الحكم في المرحلة الانتقالية، ووصل إلى رؤية أخطائه وتقصيره، وأعلن بشجاعة تحمل المسؤولية عن الكثير من الاضطراب الذي غلب على المرحلة الانتقالية. لم يلق العبء على شركائه. أعلن ندمه أن لم يستقل، وأن تعلل بالأمل حتى النهاية. 

لم يكن الخطاب موجها لنقد التجربة برمتها، لذلك لم يغص ولم يفكك مواضع الضعف والأخطاء العامة، ولكن فتح باب النقد الذاتي والاعتذار، وهذا أمر جديد في السياسة في تونس، وربما في العرب قاطبة. السياسي الذي يقر بالضعف والخطأ وسوء التقدير ويطلب الغفران من شعبه. 

تذكر الحاضرون ممن تقدمت بهم التجربة خطاب التنحي بعد النكسة. ولكن ما جعل الاعتذار مختلفا في حالة المرزوقي هو أنه أردف اعتذاره بإعلان نيته السياسية في عدم الاستثمار في السياسة لكي يستعيد من موقع الضحية البريئة موقعه الرئاسي مرة أخرى. 

لقد فتح الباب واسعا لتقييم التجربة والفوز منها بدروس تُبيّن مواضع الإصابة ومواضع الإخفاق. هذا التواضع جديد في سِيَرِ الزعامات السياسية العربية، وهو أمر جدير بالتقدير الأخلاقي ويؤسس لتقاليد، وهو في المحصلة لحظة شجاعة أدبية تحسب للمرزوقي.

قراءة اللحظة بإيمان بقدرة الناس على الفعل.

قدم المرزوقي في خطابه قراءة في اللحظة السياسية الراهنة في الداخل الوطني وفي الخارج، واتخذ مواقف من قضايا كثيرة بما حدد خط سير الحراك سياسيا في المستقبل، فهل كانت قراءة مصيبة؟
بين خيار الاحتجاج الرافض لنتائج الانتخابات المشوبة بالتزييف والمدخولة بالمال الفاسد أو خيار الوحدة الوطنية قبل المرزوقي النتائج، وكان هذا واضحا منذ خطاب البلكونة الذي أطلق فيه الفكرة الأولى، ومازال مصرا على تفضيل الوحدة على الشقاق، لكنه أمهل الحكم الجديد ما يكفيه من الوقت ليظهر كفاءته لإدارة المرحلة المستقرة. 

لكن النتائج الظاهرة بعد الإعْذَارِ للمنتخَبِين هي أن الوضع يتجه إلى كارثة اجتماعية، وفي المستوى السياسي كما في المستوى الاجتماعي، وأن الفقر لا يزال ماثلا ويستشري والفساد يتحكم في رقاب المؤسسات، وأن النخبة السياسية مشغولة بصراعاتها القديمة الهووية خاصة، ومنصرفة عن شؤون الناس إلى التكايد المفشل لكل إنجاز محتمل ومنتظر. لذلك تجلى موقفه المعارض لما يجري وبذلك يكون قد وضع نفسه في موقع المعارض والمقترح للبديل. والبديل هو وضع برنامج الانتخابات البلدية والمحلية على جدول أعمال الدولة والمجتمع قبل نهاية 2015. معارض لا يتحرك من خارج الدستور، بل تحت سقفه وضمن مؤسسات الدولة.

أما على المستوى الخارجي، فقد نقد الأداء الدبلوماسي للحكومة القائمة، خاصة في مسألة الحياد في النزاع الليبي بما جعل تونس البلد المعني أكثر من غيره بهذا الصراع يخسر كل فرص المساعدة على حل الأزمة، ثم الاستثمار بعيد المدى في العلاقة بين البلدين. 

لقد وضع الدبلوماسية الحالية في مأزق؛ إذ بين قصورها وجهلها بالمصلحة الوطنية وبقاءها ضمن نطاق الصراع الإيديولوجي الداخلي. ومن الزاوية ذاتها، نظر إلى محرقة الإخوان في مصر وإلى حركة حماس الفلسطينية. وهو الواعي كما قال بالكلفة السياسية التي دفعها، والتي يمكن أن يدفعها في انحيازه لهذا الخيار المبدئي. 

لقد ربط كثيرون بين خسارته في الانتخابات وبين موقفه المبدئي مع القضية الفلسطينية واستضافته لخالد مشعل في قصر قرطاج. استعاد الرجل موقعه الحقوقي، ورفض أن يتحول إلى آلة حاسبة في الداخل والخارج. كم سيكون ثمن هذه المواقف المبدئية؟ السؤال الذي يجب أن يطرح: ماذا يبقى من السياسي إذا أفرط في حساب الاحتمالات وقياس الربح لاجتناب الخسارات؟ لقد كانت لحظة شجاعة أخرى مثل شجاعة الاعتذار.

البديل الاجتماعي الذي لا يموت.

إعادة تصويب المعركة الداخلية نحو فرض البديل الاجتماعي المنتظر. هذا الذي تحدث فيها كل الطيف السياسي الديمقراطي ولم يلتزمه، وأعاد المرزوقي: هل هو بديل ممكن في ظل الوضع الحالي؟ انه البديل المطلوب الذي يدعو إلى تحمل المسؤولية الكاملة في إنجازه. كيف وبماذا؟ هنا سيكون على الحراك وزعيمه أن يبدع الحلول، قبل التحول إلى رقم آخر يزايد بالاجتماعي، وينفذ برامج المقرضين الدوليين. 

الصورة النظرية واضحة، فالديمقراطيات الاجتماعية الناجحة تجارب متاحة للقراءة. وسواء نظر المرء إلى آسيا أو إلى أمريكا اللاتينية، فإن البدائل العملية متاحة، لكن كيف المرور إلى الفعل والإنجاز؟ 

إن هذه معضلة تنظيمية أكثر منها معضلة نصوص مؤسسة. لقد قدم الحراك لوائح تأسيسية اجتماعية نوعية تؤسس فعلا لمشروع اجتماعي تشاركي وديمقراطي اجتماعي. وأعلن المرزوقي في خطابه الشروع في بناء مسار مدني جمعياتي يعمل في الشارع مستقلا عن أشكال التحزب، ويتجه أولا إلى محاربة الفقر المستشري، وحدد الصراع الاجتماعي على قاعدة غير إيديولوجية، مذكرا اليسار بالعمق الاجتماعي لليسارية، فالصراع الآن ليس ضد الدين لفرض اللادين، بل ضد الفقر والخصاصة، وهو عمق الفكرة اليسارية التي تاه عنها اليسار، ويذكره بها المرزوقي كأنما يدعو إلى تحالف وطني ضد الفقر قطعا للطريق على الاحتراب الهوياتي الإيديولوجي الذي أعاق كل ائتلاف ضد الفقر.

هل الطريق سالكة إلى حراك مواطني جميل على الورق؟

يحتاج الحراك إلى جمال فكرته، كما يحتاج إلى واقعية كبيرة في تجسيدها؛ فالمثال دوما أكبر من القدرات إلى التنفيذ. كيف الخروج من الصعوبات وتجاوز العوائق سيكون على نشطاء الحراك إبداع أشكال جديدة وفعَّالة من العمل. 

فالأمر لا يتعلق بحانوت حزبي يخطط بخبث لربح انتخابات عابرة والتموقع في الغنيمة. كما يحتاج الوطنيون من كل التيارات الإصغاء إلى الحراك، والدخول معه في جدل فكري وسياسي وتنظيمي. 

فقد أعلن الحراك في لائحة مبادئه العامة الانفتاح على هذا النقاش في نطاق الاحترام المتبادل. أي أنه وجه الدعوة للنقاش دون تحقير أو تبسيط، بل بشراكة ندية. 

وهنا أيضا تظهر شجاعة المرزوقي في لحظة تقتضي الشجاعة. وعسى أن تصادف الدعوة أهلها ليشرع التونسيون في بناء السياسة من جديد. ولعمري أنهم محتاجون إلى ذلك الآن، وهنا، مثل حاجتهم إلى الثورة في ديسمبر 2010.